تأثير عصر الباروك في الأدب والفن والفلسفة
عصر الباروك هو الفترة الثقافية التي امتدت من النصف الثاني من القرن السادس عشر إلى النصف الأول من القرن الثامن عشر. يتميز هذا العصر بالإحساس المتشائم وخيبة الأمل، ويظهر ذلك جلياً في الأدب والفن الباروكي، ويعود ذلك إلى تلك الأوقات العصيبة التي واجهها هذا العصر. في السطور التالية نتناول خصائص عصر الباروك في الأدب والفلسفة والفن والموسيقى بشيء من التفصيل.
معنى الباروك
اشتق لفظ الباروك من اللغة البرتغالية القديمة، وكان يستخدم هذا المصطلح لوصف اللؤلؤة ذات الشكل غير المنتظم. فعدم الانتظام كان السمة المميزة لفن الباروك. وقد استخدم مصطلح الباروك لأول مرة في عصر التنوير خلال منتصف القرن الثامن عشر، حيث أطلق ديدرو وروسو هذه الكلمة لوصف فن تلك الفترة بازدراء، ومع ذلك فقد أثبت التاريخ القيمة الجمالية لهذه الفترة. كان فن عصر الباروك يتميز بثراء الأشكال وتنوع التعابير إلى حد التناقض خلافاً لعصر النهضة الذي تميز بقدر أكبر من البساطة والتناسق والانسجام.
مقدمة تاريخية
شهد عصر الباروك صراعاً ضاريا على المستوى السياسي، فقد نشبت في أوروبا حروباً طاحنة كان أفظعها حرب الثلاثين عاماً التي اجتاحت معظم أنحاء القارة الأوروبية من عام 1618 حتى عام 1648. وألحقت دماراً هائلاً بألمانيا على وجه الخصوص وكان من نتائج هذه الحرب الطويلة أن أصبحت فرنسا أقوى دولة في أوروبا.
دارت رحى حرب المائة عام بين البروتستانت والكاثوليك في سبيل النفوذ السياسي، وإلى جانب الحروب الطاحنة كان القرن السابع عشر يتميز بالفوارق الشاسعة بين الطبقات، فظهرت أرستقراطية النبلاء الفرنسية وبلاط قصر فرساي، ومع ذلك كان الشعب الفرنسي في حالة يرثى لها من الفقر والبؤس. بينما كان أهم مظهر من مظاهر استعراض القوى بين أفراد الطبقة الاستقراطية حينها هو استعراض البذخ، ويبدو هذا واضحاً في الفن والعمارة الباروكية التي تعكس الحالة السياسية في عصر الباروك. حيث نجد المباني زينت زواياها وأركانها بإفراط في الزخارف وكأنما هي صورة للساحة السياسية التي سادتها أهواء متضاربة وراحت تحاك في أركانها الدسائس وتدبر المؤامرات وترتكب الاغتيالات.
اقرأ أيضًا: عصر التنوير الأوروبي: مقدمة موجزة جداً |
خصائص عصر الباروك
-
التناقض
تميز عصر البارك بالإنكار المغالي للعالم والانطواء على حياة النسك الدينية المنعزلة، ولذلك نصادف في الفن وفي الحياة الواقعية مظاهر عديدة للإسراف والزخرف والبذخ. كما نجد في الوقت ذاته حركات الرهبنة التي دعت إلى اعتزال العالم. أي باختصار قصور فخمة وأديرة معزولة. وربما تكون كل تلك المظاهر لملء الفراغ المرعب الذي كان يواجهه البشر في ذلك العصر.
كذلك يمكن أن هذه الخاصية في العبارات التي شاعت على ألسنة الناس في ذلك العصر مثل عبارة «carpe diem» والتي تعني “عش يومك” وعبارة «memento mori» والتي تعني “تذكر أنك ستموت ذات يوم”. بينما في فن عصر الباروك نجد على سبيل المثال لوحة تصور أسلوب عيش يتميز بالبذخ والترف ولكننا نلمح فيها إلى جانب هذا جمجمة صغيرة منزوية في أحد أركانها. لقد كان عصر الباروك يتميز بالميل إلى البذخ والترف وفي الوقت ذاته بالطابع الزائل للحياة. -
التشاؤم وخيبة الأمل
كان القرن السابع عشر مليئاً بالمجاعات والأوبئة والاضطهاد وانعدام الحرية والحروب وموت البشر في جميع أنحاء أوروبا. ولذلك أصبح الجو بشكل عام (نفسي، اجتماعي، ديني، سياسي …) خانقاً. وقد أدى هذا إلى حزن عام، وإلى الانفصال عن الأشياء المادية أو اليومية. لذلك، فإن السعادة الوحيدة لن توجد سوى في الحياة الآخرة. بينما يُنظر إلى الموت على أنه تحرير من العديد من المصاعب.
-
الإفراط والحركة
على عكس الرصانة الكلاسيكية، يتميز الفن الباروكي بأنه مفرط، وملتوي، ودائماً في حالة حركة. إنها جمالية تهرب من الرصانة لتستقر في الطرف المقابل. فإذا تعلق الأمر ببناء مبنى، فلن تكون الأعمدة مستقيمة أبداً. ستأخذ هذه الأشكال شكل حلزوني (مثل تلك الموجودة في القديس بطرس في الفاتيكان). بينما في اللوحات الفنية يظهر هذا الأمر بوضوح في عدم ترك شبر واحد دون ضربة فرشاة. وفي الأدب نجد أن الأعمال الأدبية كذلك تتناول الكثير من المجالات، وبها العديد من الالتواءات واللغة المثقلة والمعقدة إلى أقصى حد.
-
عدم الاستقرار
من أهم خصائص عصر الباروك الأخرى عدم الاستقرار. حيث يعبر عصر الباروك عن الأزمات بجميع أنواعها سواء كانت روحية أو اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية، ويغطيها بطبقة من عدم الاستقرار، وهذا ينعكس في كل من الشكل والمضمون. لقد كانت الحياة مذهلة تحت أقدام شعب يائس ومنسي، ومن هنا جاءت أعمال الفنانين والأدباء لتكون بمثابة صدى لهذا الشعور. حيث نجد أن الكثير من الموضوعات تتمحور حول زوال الحياة العابرة، وعدم استقرار الوجود، وإمكانية الموت في أي لحظة دون إكمال مهمة كل فرد في هذا العالم.
-
تصوير المشاعر الداخلية والروحانية
كما أشرنا من قبل، لا يمكن رؤية مخرج إلا في الحياة المستقبلية، فيما بعد الموت. لذا نجد أن أهم خصائص عصر الباروك هي البحث عن الروحانية والابتعاد عن الوصفات الفلسفية لعصر النهضة التي دعت إلى الاعتدال والتوازن، واختيار تصوير العواطف والمشاعر الداخلية للإنسان الذي يبحث عن الخلاص. ومن هنا يركز الأدب على التصوف والروحانية.
-
لا شيء طبيعي
في عصر النهضة كل شيء مبالغ فيه ومشوه ومعقد ويصعب العثور عليه في الطبيعة. حيث يستخدم الخط المنحني كثيراً، والكلمة لا توضع في أي سياق منطقي، والهندسة المعمارية لا تبدو متوازنة. إن الفن الباروكي، على الرغم من التواءه وإفراطه، لا يتميز بالحرية وهذا ما يجعل الاصطناع من أهم خصائص عصر الباروك.
اقرأ أيضًا: قصة حرب المائة عام: قرن كامل من سفك الدماء |
الأدب في عصر الباروك
تميز الأدب الباروكي بالاهتمام بالتفاصيل والاستخدام المفرط للصفات والاستعارات والشخصيات الأدبية. وربما يكون المسرح من أهم خصائص هذا العصر. حيث كان هناك تطور جديد في الدراما، لا سيما في أشكال الكوميديا والتراجيكوميديا.
تدور موضوعات الأدب الباروكي حول الاهتمام بالحياة الآخرة، كما تميزت بالتشاؤم وخيبة الأمل. بينما من أهم موضوعات الأدب في العصر الباروكي ما يلي:
- العالم كمسرح: عالم غير مؤكد من المظاهر يدعو إلى التفكير.
- مقارنة الحب بالحرب.
- رثاء الطبيعة المتقلبة للحظ السعيد.
- التذكير بحتمية الموت.
- رثاء زوال الزمن والوجود.
- اغتنام اليوم كخيار وحيد في مواجهة الموت المحتوم.
أهم الأدباء في عصر الباروك
- جون ميلتون.
- جان بابتيست بوكلين – موليير.
- جيوفان باتيستا مارينو.
- جان راسين.
- تيرسو دي مولينا.
- لويس دي جونجورا.
- فرانسيسكو دي كيفيدو.
اقرأ أيضًا: تاريخ الثورة الفرنسية: عشر سنوات من الفوضى والاضطرابات |
المسرح في عصر الباروك
في هذا القسم كان من الضروري تناول أهم عنصر في أدب وفن عصر الباروك وهو المسرح. فالمسرح في عصر الباروك لم يكن مجرد شكل من أشكال التعبير الفني، بل كان رمزاً شاع استخدامه لتصوير الزمن. حيث كان رمزاً للحياة. فعبارة مثل “إن الحياة مسرح كبير” ظلت تردد بتكرار لافت للنظر في ذلك العصر. فعصر الباروك هو العصر الذي نشأ فيه المسرح الحديث بكل ديكورته وكواليسه وأجهزته، فالمسرح يقوم على الإيحاء بأن ما يدور فوق خشبته حقيقي فعلي. ثم لا يلبث الجمهور أن يكتشف في النهاية ان كل ما دار على المسرح ليس إلا وهماً وخيالاً. وبذلك أصبح المسرح صورة لحياة الإنسان الزائلة في جوهرها، فأخذ يبين أن كل شيء آيل إلى زوال وراح يعرض صوراً لا ترحم لبؤس الإنسان.
لقد كتب ويليام شكسبير أعظم مسرحياته في عام 1600 وهو يقف بقدم في عصر النهضة وبقدم أخرى في عصر الباروك. بينما أعمال شكسبير مليئة بالمقاطع التي تصور الحياة على أنها مسرح كبير. يقول شكسبير:
” ما العالم كله سوى مسرح، وما الرجال والنساء جميعاً إلا ممثلون يدخلون في لحظة ويخرجون في لحظة أخرى، وكل إنسان منهم يمثل في حياته أدواراً كثيرة”.
وفي مسرحية ماكبث يقول:
“ما الحياة إلا طيف يمر، كممثل بائس يختال ويتمايل ساعة على المسرح ثم تنقطع أخباره، إنها رواية مليئة بالضجيج والغضب يرويها أحمق ولا تعني شيئاً”.
اقرأ أيضًا: تاريخ العصور الوسطى: كيف كانت الحياة في العصور المظلمة؟ |
الفلسفة في عصر الباروك
كانت الفلسفة في عصر الباروك تتميز بأهم خصائص هذا العصر – التناقض – حيث نجد أن هناك صراعات ضارية بين أنماط التفكير المتعارضة والتي تمثلها المدرسة المثالية في الفلسفة والمدرسة المادية أو الطبيعية. فالفلسفة المثالية تعتبر أن الوجود ذات طابع روحاني في حين أن المادية تعتبر كل الأشياء الحقيقية تنشأ عن المادة وعن أسباب مادية ملموسة. بينما كانت هذه الأخيرة لها أنصار كثر في القرن السابع عشر وكان من أهم فلاسفة ذلك العصر تأثيراً هو الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز الذي كان يعتقد أن جميع الظواهر في الكون لا تتألف إلا من جسيمات مادية وأن وعي الإنسان ذاته أو الروح إنما تنشأ عن حركة جسيمات دقيقة في المخ.
يمكننا أن نصادف كلا من المدرسة المثالية والمادية على امتداد تاريخ الفلسفة بأكمله، إلا أنهما لم يجتمعا معاً بهذا الوضوح في وقت واحد سوى في عصر الباروك. بينما كانت المادية تحصل على مدد مستمر من العلوم الجديدة. فلقد اثبت نيوتن أن نفس قوانين الحركة تنطبق على الكون بأسره، وأن كل التغيرات التي تحدث في العالم الطبيعي سواء على الأرض أو في الفضاء تفسر بمبادىء الجاذبية العامة وحركة الأجسام التي وضع أسسها نيوتن. وبذلك وضع ما يمكن تسميته التصور الآلي للعالم.
وتظهر هذه الفلسفة بوضوح في كتابات الفليسوف الفرنسي وعالم الفيزياء جوليان لامتري. حيث يقول في كتابه “الإنسان الآلة”: “تملك الساق عضلات تسير بها، ويملك المخ عضلات يفكر بها”. بينما عبر عالم الرياضيات الفرنسي لابلاس كذلك قائلاً: “لو افترضنا أن هناك وعياً أدرك موقع جميع جسيمات المادة في لحظة معينة فلن يصبح هناك شيء مجهوب بالنسبة لنا”.
ومن أعظم فلاسفة وعلماء عصر الباروك ما يلي:
- رينيه ديكارت.
- باروخ سبينوزا.
- بليز باسكال.
- إسحاق نيوتن.
- جاليليو جاليلي.
- يوهانس كبلر.
اقرأ أيضًا: فن الكهوف: كيف كان يرسم الإنسان قديماً؟ |
الفن الباروكي
مثل بقية التعبيرات الفنية للباروك، تتميز الفنون التشكيلية أساساً بالديناميكية والتوتر في التكوين. بينما انعكس هذا في ميزات محددة مثل استخدام نقاط التلاشي المتعددة؛ والخطوط المفتوحة غير المتماثلة، والزخرفة المفرطة، وثراء التفاصيل.
ظهرت أيضاً أنواع تصويرية جديدة في الباروك، مثل الصور الجماعية التي تصور عدة أشخاص على لوحة واحدة وكانت تلمح إلى تجمع الناس حول الحرف أو النقابات أو المهن. كذلك كان تصوير نوع مختلف من الحياة الساكنة الذي يلفت الانتباه إلى الغرور والوقت مثل تصوير الجماجم والطعام المتحلل والشموع المحترقة وفقاعات الصابون.
ومن أهم فنانين عصر الباروك:
- كارافاجيو.
- أنيبال كاراتشي.
- جيان لورينزو بيرنيني.
- فرانسيسكو دي زورباران.
- دييغو دي سيلفا فيلاسكيز.
- بارتولومي إستيبان موريللو.
- بيتروس بولوس روبنز.
- رامبرانت هارمنزون فان.
- أنتوني فان ديك.
- نيكولاس بوسين.
اقرأ أيضًا: التراث الثقافي: التعريف والخصائص و10 أمثلة للتراث الثقافي |
موسيقى عصر الباروك
كانت موسيقى الباروك مبتكرة حقًا من نواح كثيرة. بينما تميزت بتطور التناغم، والإيقاع الواضح والمحدد. وقد كان عصر الباروك هو المسؤول عن اختراع الأوركسترا، على الرغم من أنها كانت في ذلك الوقت أصغر أوركسترا مما نعرفه اليوم. لكن لم يقتصر إبداع موسيقى الباروك على ميزات اللغة الموسيقية الجديدة، بل تم إنشاء العديد من الأنواع الموسيقية، مثل الأوبرا، وأوراتوريو، والسوناتا، والكونشيرتو جروسو، والمتتالية. كما تطور فن الأوبرا على يد الملحن كلاوديو مونتيفيردي. حيث دمجت الفن المسرحي مع الغناء، وتألفت من التراتيل والألحان للعازف المنفرد والجوقات والمقدمة الموسيقية.
أما بالنسبة لموسيقى الآلات، فقد كانت السوناتا مخصصة لعرض آلة واحدة أو أكثر منفردة، في حين أن كونشيرتو جروسو يعني بداية موسيقى الأوركسترا. تمت إضافة المتتالية، وهي عبارة عن سلسلة متتالية من القطع للرقص، والتي يتم تنظيمها عادة في أربع حركات.
أهم موسيقي عصر الباروك
- كلاوديو مونتيفيردي.
- أنطونيو فيفالدي.
- جان بابتيست لولي.
- مارك أنطوان شاربنتييه.
- يوهان باتشيلبل.
- جورج فريدريش هانديل.
- يوهان سيباستيان باخ.
- هنري بورسيل.
لقد كانت جماليات عصر الباروك نتيجة لتأثير بعض السوابق التاريخية التي شجعت على ظهور مقترحات فنية متنوعة للغاية في السنوات التالية. على سبيل المثال اكتشاف أمريكا عام 1492 والإصلاح اللوثري عام 1517 والإصلاح الكاثوليكي المضاد عام 1545 وهذا ما أدى إلى كسر الوحدة الثقافية والروحية لأوروبا. هذا بالإضافة إلى النظريات العلمية الجديدة، وأزمة أوروبا في القرن السابع عشر. وسقوط الاقتصاد، وثورة الأسعار، والانتفاضات الاجتماعية، والحروب، والمجاعات، والأوبئة، إلخ.
كل هذا ساهم في التعبير عن الباروك في فن ديناميكي للغاية، مبدع، أصلي، وفوق كل شيء، فن متنوع في عالمه من الأساليب والموضوعات والموارد في كل بلد يتجلى فيه.
تلخيص ثري لإعطاء فكرة جيدة جدا .. شكرا لكم
العفو أستاذ أمير.. وشكراً للقراءة.. أطيب تحياتي إليك