فلسفة

أسطورة سيزيف: عبثية العقاب وأبدية النضال

ربما تكون أسطورة سيزيف إحدى أكثر الأساطير اليونانية شهرة بسبب عقوبته في ظلمات العالم السفلي.. لقد كان أسير قدر لا ينتهي.. تحدى هذا الملك المخادع الآلهة وتلاعب بالموت، وكُتب عليه أن يحمل صخرة عظيمة إلى قمة جبل، وكلما لامست أنامله لحظة الانتصار، تهاوت الصخرة إلى القاع، ليعود أدراجه من جديد، في كدح لا يعرف الراحة. فهل كان هذا العقاب عادلاً؟ أم أنه أقسى أشكال العبثية التي يمكن أن يعاقب بها إنسان؟ دعونا نتعرف على أسطورة سيزيف بمزيد من التفصيل..

مَن هو سيزيف؟

كان سيزيف ملكًا من ملوك الإغريق حكم مدينة أفيرا الإغريقية، لكن سمعته لم تكن كسائر الملوك، إذ عرف بالمكر والخداع، حتى اعتبر أكثر البشر دهاءً على وجه الأرض. لم تكن جرائمه عابرة، فقد استدرج ضيوفه ليغتالهم غدرًا، مخالفًا بذلك قدسية الضيافة التي يشرف عليها كبير الآلهة زيوس. لكن ذنوبه لم تتوقف عند ذلك، فقد تجرأ على كشف أسرار الآلهة، بل وخدع الموت نفسه.

نزل إله الموت هاديس[1] إلى الأرض بأمر من زيوس، ليقبض على سيزيف ويقوده إلى مصيره المحتوم. إلا أن الماكر لم يكن ليسمح لنفسه بالسقوط بهذه السهولة، فبذكائه الحاد، استدرج هاديس إلى خدعة كبرى حاكها سيزيف، وقبل أن يقييده هاديس بالأصفاد، طلب منه سيزيف أن ينتظر للحظات، وأقنعه أن يجرب الأصفاد على نفسه في البداية من أجل معرفة مدى قوتها وكفاءتها، وأنه لن يستطع الفكاك منها والهروب..

كيف خدع سيزيف الموت؟

أسطورة سيزيف
صورة رمزية لهاديس إله الموت عند الإغريق

تفكر هاديس في الأمر، ورضخ إلى رغبته، واستسلم للتجربة، وشرع في تقييد نفسه بالأصفاد. وفي تلك اللحظة انقض عليه سيزيف وأحكم وثاقه، مُبقيًا الموت أسيرًا لا حول له ولا قوة. ثم هرب إلى عالم البشر مرة أخرى. تنفس الصعداء وحاول أن ينعم بالحياة، ورفض العودة مجددًا إلى العالم السفلي، وأخيرًا ترك هاديس بلا حول له ولا قوة.

وبغياب الموت، ساد خلل عظيم في الكون، إذ لم يعد يموت البشر، وتوقفت الحروب، وغضبت الآلهة عندما جفّت دماء القرابين التي كانت تُقدّم لهم. وإذ أدرك زيوس هذا الخلل الجلل، أمر بحل وثاق هاديس وإطلاق سراحه. وطلب منه أن يحضر له سيزيف ليعاقبه على فعلته البشعة، وأعاد هاديس سيزيف إلى قبضة قدره. لكن هذا الأخير كان قد أعدّ خطة أخرى.

حيلة أخرى ضد الآلهة

قبل أن يُساق سيزيف إلى العالم السفلي، أوصى زوجته ألّا تقيم له طقوس الدفن، وألّا تقدم القرابين على قبره. وعندما أدرك هاديس ذلك، شعر بالإهانة، فاحتجّ سيزيف متذرعًا بأن غيابه لم يُحترم كما ينبغي، وطلب إذنًا بالعودة إلى العالم الفاني ليوبّخ زوجته. وللمرة الثانية، وقع الإله في فخّه، فأطلق سراحه مؤقتًا… لكنه لم يعد أبدًا.

حينما طال غيابه، أدرك زيوس أنه تعرض للخداع مجددًا، فاستشاط غضبًا، وحكم على سيزيف بعقاب أبدي، حيث لا فكاك ولا نهاية: أن يدحرج صخرة عظيمة إلى قمة جبل، لتسقط كلما أوشكت على الثبات، في دورة عبثية لا خلاص منها.

عبثية المصير في أسطورة سيزيف… رؤية فلسفية

أسطورة سيزيف
صورة رمزية لسيزيف يرفع صخرته

لم تكن أسطورة سيزيف مجرد حكاية قديمة، بل تحولت إلى رمز ألهم الفلاسفة والأدباء على مر العصور. ومن أبرز من تأملها، الفيلسوف الوجودي ألبير كامو، الذي وجد فيها انعكاسًا لمأساة الإنسان الحديث وعدمية الحياة.

يرى كامو أن سيزيف ليس مجرد محكوم بالعذاب، بل هو رمز لكل إنسان يواجه عبثية الوجود، ويعي أنه محكوم بالكفاح دون غاية. إن مأساة سيزيف ليست في حمل الصخرة، بل في وعيه الكامل بعبثية ما يقوم به، في إدراكه أن لا نهاية لهذا العناء، ومع ذلك، لا خيار له سوى الاستمرار.

يقترح كامو رؤية مختلفة، إذ يتخيل سيزيف سعيدًا، ليس لأنه وجد خلاصًا، بل لأنه قبل مصيره، وتماهى معه، متحررًا من وهم الأمل. ففي تلك اللحظات التي ينزل فيها إلى أسفل الجبل، خالي الوفاض لكنه ممتلئ بالوعي، يكمن انتصاره الحقيقي. قد يقوم  بمهمته بسعادة فقط حينما يقبل مصيره، لكن لحظات الحزن أو الكآبة تأتي فقط عندما ينظر للوراء إلى العالم الذي تركه، أو عندما يأمل أو يتمنى السعادة. فعندما يقبل سيزيف مصيره يتلاشى الحزن والكآبة.

أسطورة سيزيف وواقع الإنسان

إن السعادة والوعي العبثي مرتبطان ارتباطًا وثيقاً. حيث لا يمكننا أن نكون سعداء حقًا إلا عندما نقبل حياتنا ومصيرنا على أنهما ملكنا تمامًا باعتبارها الشيء الوحيد الذي نملكه. سيزيف هو الرجل الذي أحب الحياة لدرجة أنه حُكم عليه بالعمل العبثي واليائس إلى الأبد.

تمثل أسطورة سيزيف واقع الإنسان في الحياة ومحاولة هروبه الدائمة من الإجابة على السؤال الأهم: هل هناك جدوى لما نفعله في الحياة؟ أم أنها مجرد عبث؟ أسطورة سيزيف ليست مجرد قصة عن عقاب إلهي، بل انعكاس لحياة البشر أجمعين. أليست حياتنا سلسلة متواصلة من المحاولات، ندفع خلالها صخورنا الخاصة إلى القمم، فقط لنراها تتهاوى أمام أعيننا؟

وهنا يبقى السؤال مفتوحًا: هل كان عقاب سيزيف عدلًا، أم أنه كان ظلمًا إلهيًا؟ أم أنه، في جوهره، المصير ذاته الذي نحمله جميعًا دون أن ندرك؟

هوامش

[1] هاديس هو ملك العالم السفلي في الأساطير اليونانية.

وائل الشيمي

كاتب وأديب بدأ مسيرته الأكاديمية في مجال الصحافة، حيث حصل على بكالريوس في هذا المجال، وقاده شغفه بالإنسانية إلى دراسة علم النفس والفلسفة، وقد ساعدته دراسته وقراءاته في فهم أبعاد الشخصية البشرية وتعقيداتها. في روايته "الأجنحة السوداء" صور قضايا الوجود والتحديات النفسية التي يواجهها الإنسان في رحلة بحثه عن الإله، في سياق سردي مشوق يحمل في طياته تأملات فلسفية حول الحياة والموت، الحرية والقيود. كما أطلق في مجموعته القصصية "علامات لا تُمحى" مجموعة من القصص التي تتناول الجوانب المظلمة من التجربة البشرية، تاركاً آثارًا لا تُمحى في ذهن القارئ. إلى جانب أعماله الروائية والقصصية، ساهم الكاتب بالعديد من المقالات النقدية والحوارات الفكرية في الصحف والمجلات والمواقع الإعلامية، حيث شكلت كتاباته مساحة للتفكير والتحليل حول قضايا ثقافية واجتماعية معاصرة.

‫2 تعليقات

  1. عليه حياة أم وهم حياة!؟ وجدت دونما إذن مني. في مجتمع بطقوس وممارسات متعددة. أتفرسها. وعلى قدر مخزون معرفتي وخبرتي، أتمثل منها بعضا. لأنه يحقق توازني. وانبذ بعضا. لأنه يزعزع تموقعي. لكن الغريب أن السلوكات التي يمارسها الناس ليست دائما عن اقتناع. بل ربما هي في كثير منها لإرضاء الآخرين. لا أصدق أن كل الذين يتعبدون هم مومنون. بدليل فضائح رجال الدين أنفسهم. وفي هذا الوضع يجد العبث مشروعيته.

  2. بين الحياة والوهم، خيط رفيع ينسجه الوعي والاختيار. لم نختر وجودنا، لكننا نختار كيف نتماهى مع طقوسه وأدواره. قد تكون بعض السلوكيات توازنًا، وقد تكون خضوعًا لضغط الجماعة. الإيمان، شأنه شأن الأخلاق، لا يُقاس بالمظاهر، بل بصدق الشعور وعمق القناعة. وحين يتكشّف زيف البعض، يصبح العبث أكثر حضورًا، لكنه لا يلغي احتمال المعنى، بل يدعونا للبحث عنه خارج الأقنعة المفروضة..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

دعمك يهمنا ❤️

نحن نعمل بجد لتقديم محتوى مجاني ومفيد لك. هل يمكننا الاعتماد على دعمك بتعطيل مانع الإعلانات؟ شكرًا مقدمًا!