فلسفة

فلسفة باروخ سبينوزا: رؤية كل شيء من منظور الأبدية

باروخ سبينوزا هو واحد من أكثر الفلاسفة أخلاقاً وإنسانية، نشأ في أمستردام من عائلة يهودية اتهمته فيما بعد بالهرطقة ونبذته. حاول سبينوزا أن يبرهن على كل شيء من خلال فلسفته. حيث وضع إجابات منطقية ومفصلة على الأسئلة الكبيرة: من نحن؟ ولماذا نحن هنا؟ وماذا علينا أن نفعل؟ وهل يوجد إله وإرادة حرة وخلود؟ ما هي العواطف وكيف يمكننا السيطرة عليها إن استطعنا؟ في هذا المقال نخوض سوياً رحلة شيقة للتعرف على فلسفة سبينوزا بشيء من التفصيل.

نبذة عن حياة سبينوزا

ولد سبينوزا في أمستردام عام 1632 لتاجر يهودي، أراده والده أن يصبح حاخاماً. كان والديه من أصول إسبانية وقد عاشا لفترة في البرتغال، لكن سرعان ما فرت العائلة من إسبانيا والبرتغال هرباً من الاضطهاد. وفي النهاية استقرت في هولندا. كان سبينوزا يتحدث الاسبانية والبرتغالية والعبرية، وعلى الرغم من نشأته في هولندا إلا إنه كان أقل تعليماً للهولندية.

تلقى سبينوزا في طفولته تربية دينية متشددة، وعندما وصل إلى الرابعة والعشرين من عمره شعر بأنه غير قادر على التفكير بحرية في هذا الجو المتشدد الذي عارض آراءه، ولم يتقبل أفكاره الجديدة. مما جعل سبينوزا يترك أسرته ويعيش بصورة مستقلة تسمح له بالتفكير واكتساب الجديد من المعرفة، واختار أن يغير اسمه اليهودي “باروخ” إلى الاسم اللاتيني “بينيدكت” وعاش في شبه عزلة متفرغاً للقراءة والكتابة، وكان يقات من عمله في صناعة العدسات التي كانت هولندا رائدة في صناعتها في ذلك الوقت.

شرع سبينوزا في دراسة الكتاب المقدس والفلسفة اليهودية، وانصرف إلى التأمل والاطلاع ثم بدأ في كتابة أفكاره الفلسفية. وفي عام 1673 عرضت عليه جامعة هايدلبرج الألمانية الشهيرة وظيفة بروفيسور الفلسفة، بعدما أصبح معروفاً بكتاباته ذات القيمة الفكرية العالية.

تعرض سبينوزا في حياته لشتى الإهانة والاضطهاد والملاحقات المستمرة، حتى وصل اضطهاده إلى حد محاولة اغتياله. وكل ذلك حدث بسبب انتقاده للتفسير الرسمي للدين. حيث وصف المسيحية واليهودية بأنهما ديانات متحجرة لا تستند سوى على الطقوس السطحية. ومن هنا بدأت فلسفته القائمة على النقد التاريخي للكتاب المقدس بشقيه الجديد والقديم. وقد أظهرت فلسفته الكثير من التناقضات بين نصوص الكتاب المقدس. هذه التفسيرات التي قدمها سبينوزا لم تتقبلها المسيحة واليهودية على السواء.

مؤلفات سبينوزا

أما أهم ما يميز فلسفة سبينوزا هو اهتمامه الكبير بالبعد الأخلاقي في الفلسفة، ويعد كتابه “أخلاقيات” من أهم الكتب على مر العصور، وفيه قدم سبينوزا تفسيراً وتحليلاً للنصوص الدينية اليهودية مع أخذه في الاعتبار الإطار التاريخي للنص وأبعاده الفلسفية والكونية. أما أعمال سبينوزا فتشتمل على:

  • رسالة في مبادئ الفلسفة الديكارتية مبرهناً عليها بالطريقة الهندسية.
  • الرسالة الموجزة في الله والإنسان.
  • تأملات ميتافيزيقية.
  • الرسالة اللاهوتية.
  • رسالة في الأخلاق.
  • إصلاح العقل.
  • الرسالة السياسية.

توفي سبينوزا عام 1677 متأثراً بمرض في الرئة يعتقد إنه أصابه بسبب تعرضه المتكرر لبودرة الزجاج الناتجة من عملية صنفرته أثناء عمله في صناعة العدسات.

اقرأ أيضًا: فلسفة القديس أوغسطين: هل استطاعت حل مشكلة الشر في العالم؟

فلسفة سبينوزا

ملخص فلسفة سبينوزا
صورة رمزية للفيلسوف باروخ سبينوزا أثناء التأمل

بعد إطلاع باروخ سبينوزا على أعمال الفلاسفة السابقين له، كان شديد الإعجاب بالفيلسوف رينيه ديكارت وآرائه الفلسفية. وقد اختلف معه في مسألة الفصل بين المادة والروح أو الجسد والعقل ولسوف نتعرض لهذه المسألة فيما بعد. كما أنكر سبينوزا وجود أي شيء خارج الطبيعة، لكنه لم ينكر وجود الله. حيث كان يرى أن الله يتمثل في كل الموجودات ويرى كل الموجودات في الله. بمعنى إنه ساوى بين الله والطبيعة وهو ما يطلق عليه مذهب “وحدة الوجود”. يعتقد سبينوزا أن الله لم يخلق العالم كي يظل خارجه، فالله هو العالم.

الأخلاق عند سبينوزا

تعد الأخلاق فرعاً من فروع الفلسفة التي تهتم بدراسة السلوك الإنساني والأخلاقي. وهو السلوك الذي يخبر الإنسان كيف يمكنه أن يحيا حياة سعيدة وجيدة. وقد كانت هذه الفكرة هي الفكرة السائدة عند أفلاطون وسقراط وأرسطو وغيرهم من فلاسفة العصر القديم. أما الأخلاق عند سبينوزا فلقد اختزلت إلى مجموعة من القواعد التي ينبغي على الإنسان مراعاتها تجنباً لإيذاء الغير. ومن هنا نجد أن المعنى الحقيقي لفكرة السعادة الشخصية قد توارت في فكر سبينوزا، وتم استبدالها بفكرة فن العيش.

ونلاحظ أن سبينوزا في كتابه “رسالة في مبادئ الفلسفة الديكارتية مبرهناً عليها بالطريقة الهندسية” قد أراد أن يستخدم البرهان الرياضي في التأمل الفلسفي كما فعل ديكارت من قبل. وهذا المنهج الرياضي يستند في الأساس على الاستنتاجات المنطقية الدقيقة والصارمة. لذا يمكننا القول بأن سبينوزا انتهج مذهب العقلانية، وقد أراد في كتابه عن الأخلاق أن يبرهن على أن حياة الإنسان خاضعة لقوانين الطبيعة. لذا ينبغي على الإنسان أن يتحرر من سيطرة المشاعر السلبية والانفعالات كي يستطيع أن يصل إلى مرحلة السكينة والسعادة.

باروخ سبينوزا وديكارت

لم يختلف سبينوزا عن كثير من الفلاسفة الذين جاءوا قبله، فلقد كان شديد الولع بعلوم مختلفة خاصة علم الرياضيات هذا غير المنطق والفلك وعلوم البصريات وحاول تسخير كل هذه العلوم بشكل تكاملي ليخلق منها نسيجاً فكرياً متجانساً ومتكاملاً.

وكان سبينوزا على دراية كبيرة بديكارت وآرائه الفلسفية ولكن على الرغم من إعجابه به وبآرائه الفلسفية فانه اختلف معه في مسألة الفصل بين المادة والروح أو الجسد والعقل. فلقد كان ديكارت يعتقد أن الواقع مكون من جوهرين منفصلين هما الفكر والمادة، لكن سبينوزا رفض هذا التقسيم. حيث اعتقد سبينوزا أن هناك جوهر واحد فقط، وكل الموجودات في الطبيعية يمكننا إرجاعها إلى جوهر واحد فقط يمكننا أن نطلق عليه الله أو الطبيعة. ولا يقصد سبينوزا بالطبيعة كل ما هو موجود ويمكن رؤيته فقط بل تشتمل الطبيعة وفقاً لرؤيته على الأشياء الروحية كذلك.

إله سبينوزا

إذن تستند فلسفة سبينوزا على أن فكرة المادة والفكر ما هما إلا صفتين من صفات الله أو الطبيعية، ولا يعني ذلك أن الله أو الطبيعة لا يمتلك إلا هاتين الصفتين فحسب، بل هناك الكثير من الصفات الأخرى ولكن الانسان لا يستطيع أن يدرك سوى الفكر والمادة. فعلى سبيل المثال نجد أن الزهرة ما هي إلا صفة للمادة، في حين أن القصيدة هي صفة الفكر. ولكن كليهما تعبير عن الجوهر أو الله أو الطبيعة.

ولتبسيط فلسفة سبينوزا نعط هذا المثال: إذا أصابك الصداع ذات يوم، فمن الذي يشعر بهذا الصداع؟ إنه بكل تأكيد أنت. لكن بعد مرور عدة أيام تعود لتتذكر أنك قد أصبت بالصداع من قبل أيام، فمن الذي يتذكر؟ أنت أيضاً أليس كذلك. إذن أنت شخص واحد شعرت بالصداع – المادة – وتذكرت الصداع – الفكر – وينطبق هذا الأمر على كل شيء فكل الأفكار التي نفكر فيها هي أفكار الله أو الطبيعة. بمعنى أن كل شيء سواء كان مادياً أو معنوياً ينتج عن جوهر واحد. لكن ما علاقة كل هذا بالله أو الطبيعة؟

هذا هو السؤال المهم. فإذا أردت مثلا أن تحرك يديك فأنت تحركها كما تشاء في أي اتجاه تريده. لكن هل يمكن لهذه اليد أن تقفز من تلقاء نفسها وتتحرك في المكان. بكل تأكيد لا يحدث ذلك لأنها مرتبطة بقانون معين من قوانين الطبيعة. وكما أنت جزء من بنية الوجود الكلي، فأنت أيضاً يد في جسم الطبيعة أو الله. إذن الطبيعة أو الله هو العلة الباطنية أو الداخلية التي يحدث بمقتضاه كل شيء في الوجود. والله لا يتجلى إلا من خلال قوانين الطبيعة هذه. ومن هنا ندرك أن مبدأ الحتمية هو الذي يوجه العالم المادي. وبما أ، كل شيء حتمي الحدوث فيجب علينا – نحن البشر – أن نواجه هذا الأمر بالسكينة دون أن تسيطر علينا الانفعالات المختلفة. وهذا باختصار مفهوم الأخلاق عند سبينوزا.

اقرأ أيضًا: فلسفة توما الأكويني وبراهينه الخمسة على وجود الله

باروخ سبينوزا والأديان

وفقاً للمفهوم اليهودي المسيحي التقليدي عن الإله، فإن الله هو خالق متسامي، كائن خلق عالم وهو متعال عليه بمعنى إنه ليس جزءً منه. ينتج الله هذا العالم بفعل عفوي من الإرادة الحرة، ويمكنه بنفس السهولة ألا يخلق أي شيء خارج نفسه. على النقيض من ذلك، فإن إله سبينوزا هو سبب كل الأشياء لأن كل الأشياء تتبع سببياً وبالضرورة من الطبيعة الإلهية. ومن المستحيل أن يكون الله موجوداً دون وجود العالم.

رأى سبينوزا ان كل الأديان تتوحد في رسالتها الروحية، وإنها مجرد صور مختلفة للتعبير عن الواحد وليست تعدداً للواحد. وأن كل الموجودات تجليات للخالق الواحد. ونجد جذور هذه الفكرة الفلسفية في فلسفة المصري القديم الذي اعتقد أن البشر هم أطفال الزواج الأسطوري بين السماء والأرض. وأن كل إنسان يملك في داخله جزءً سماوياً وأخر أرضياً يجمعان بين الروح (العقل) والمادة (الجسد) وبهما يكون الوجود الكلي الإنساني. واتضحت هذه الفكرة أيضاً في فلسفة أفلوطين والأفلاطونيين الجدد وفي الفكر الإسلامي الصوفي أيضاً.

اقرأ أيضًا: السفسطائيون: كيف اكتسبوا هذه السمعة السيئة؟

الإرادة الحرة

يرى سبينوزا أن الإنسان لن يتمتع بالإرادة الحرة مطلقاً، فنحن البشر لا نتحكم في أجسادنا التي تعد حال من أحوال المادة. كما إننا لا نختار كل ما نفكر فيه. فالإنسان لا يملك روحاً حرة بل هو سجين لجسم آلي يفرض مقتضياته بصورة أو بأخرى. وليس هنالك سوى كائن واحد مكتفياً بذاته وقادر على التصرف بحرية هو الله أو الطبيعة، فهو وحده القادر على التعبير الحر الذي لا يعتمد فيه على أحد سواه. ولكن في مقدور الإنسان أن يسعى إلى الحرية كما يشاء كي يعيش دون قيود خارجية إلا إنه لن يصل إلى الحرية المطلقة أبداً.

ليس الانسان فحسب بل ينطبق الأمر على جميع الموجودات في الطبيعة فالكل يتصرف وفقاً لطبيعته والقانون الطبيعي الموضوع له. فهل يستطيع مثلاً ألا يكون الأسد مفترساً. هل بإمكانه الاختيار؟ إنه أسير طبيعته بأي حال من الأحوال. وكذلك النبات لا تمتلك تلك الإرادة فهل بإمكان شجرة تفاح أن تطرح مثلا ثمرة الكمثرى. لكن على الرغم من أن الإنسان يمتلك التفكير وهو حال من أحوال الفكر إلا أننا لا نملك حرية اختيار أين نولد؟ ولمن نولد؟ وكيف نعيش ونتصرف؟

إن أهواءنا مثل الطموح والرغبة هي التي تمنعنا من الوصول إلى السعادة الحقيقية والانسجام الفعلي. إلا إننا إذا سلمنا بأن كل شيء يحدث بالضرورة لكان بإمكاننا الوصول إلى معرفة حدسية تدلنا على أن الطبيعة تخضع لقوانين كلية ونحن جزء منها. وحينها فقط نعرف أن الكل مترابط بصورة أو بأخرى. وأن كل شيء ما هو إلا واحد. وعندما نصل إلى هذه الحقيقة يمكننا بلوغ السعادة والسكينة.

اقرأ أيضًا: فلسفة سينيكا: كيف تحقق أقصى استفادة من الحياة؟

باروخ سبينوزا وفلسفته السياسية الأخلاقية

حاول سبينوزا في كتابه الشهير “رسالة في الأخلاق” وكتابه “الرسالة السياسية” أن يرسم صورة لمجتمع إنساني يحترم العلم والمنطق وتحكمه سياسة أخلاقية. ومن هنا يتضح التزام سبينوزا بالمنهج العلمي الذي يميز فلسفته لدرجة أن كل بند في البنود التي ذكرها في كتابه الأخلاق ينتهي بعبارة “ينتظر البحث والاثبات” ولهذا اعتبر هذا الكتاب نوعاً من التطبيق الرياضي العلمي في إدارة المجتمع الإنساني وفهم الوجود.

أطلق سبينوزا على هذا المجتمع اسم “العقلاني الأخلاقي” وهو المجتمع الذي يرى أن حرية التعبير هي خير ضمان لعدم الفوضى الاجتماعية بشرط ألا تأتي هذه الحرية في الفكر والتعبير على حساب حق الآخر في نفس الحرية حتى لو اختلف أو تعارض مع هذا الفكر. ولهذا السبب هناك محاولات لإعادة اكتشاف سبينوزا من جديد خاصة إننا نحيا في عالم يشهد صراعات كثيرة تأخذ اسم “صراعات الحضارات والأديان والثقافات” ويتحكم فيها بدرجة كبيرة عدم قبول الآخر والخوف منه. فالمحور الأساسي التي تدور حوله فلسفة سبينوزا هو: ” الإيمان بأن أي اختلاف بين البشر ما هو إلا اختلاف في الشكل ويبقى الجوهر الإنساني دائماً واحداً في كل البشر”.


المراجع:

  • علم الأخلاق – باروخ سبينوزا – ترجمة جلال الدين سعيد.
  • رسالة في اللاهوت والسياسة – باروخ سبينوزا – ترجمة حسن حنفي.
  • باروخ سبينوزا (فيلسوف المنطق الجديد) – كامل محمد عويضة.
  • تاريخ الفلسفة الحديثة – يوسف كرم.

وائل الشيمي

كاتب وأديب بدأ مسيرته الأكاديمية في مجال الصحافة، حيث حصل على بكالريوس في هذا المجال، وقاده شغفه بالإنسانية إلى دراسة علم النفس والفلسفة، وقد ساعدته دراسته وقراءاته في فهم أبعاد الشخصية البشرية وتعقيداتها. في روايته "الأجنحة السوداء" صور قضايا الوجود والتحديات النفسية التي يواجهها الإنسان في رحلة بحثه عن الإله، في سياق سردي مشوق يحمل في طياته تأملات فلسفية حول الحياة والموت، الحرية والقيود. كما أطلق في مجموعته القصصية "علامات لا تُمحى" مجموعة من القصص التي تتناول الجوانب المظلمة من التجربة البشرية، تاركاً آثارًا لا تُمحى في ذهن القارئ. إلى جانب أعماله الروائية والقصصية، ساهم الكاتب بالعديد من المقالات النقدية والحوارات الفكرية في الصحف والمجلات والمواقع الإعلامية، حيث شكلت كتاباته مساحة للتفكير والتحليل حول قضايا ثقافية واجتماعية معاصرة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

دعمك يهمنا ❤️

نحن نعمل بجد لتقديم محتوى مجاني ومفيد لك. هل يمكننا الاعتماد على دعمك بتعطيل مانع الإعلانات؟ شكرًا مقدمًا!