عمر بن الفارض: أسرار العشق تُروى على حروف الصمت

عمر بن الفارض هو الفيلسوف والفقيه والشاعر الصوفي الذي لقب بسلطان العاشقين، نظراً لأن شعره يتميز بالصدق والحس المرهف والرقة. وفي رحلتنا مع هذا الشاعر نستشعر معه معنى الزهد في متاع الدنيا. فمن هو عمر بن الفارض؟ وكيف كانت حياته؟
من هو عمر بن الفارض؟
ولد عمر بن الفارض بالقاهرة سنة 576 هجرية وترعرع في كنف أبيه الذي كان يشغل منصباً كبيراً لدى الملك العزيز. تربى ابن الفارض على العلم والتقوى والصلاح، حتى إذا صار في ريعان شبابه اشتغل بالفقه، ثم سار في طريق الصوفية وأراد أن يزهد في الدنيا ويتجرد من متاعها.
جعلته حياته الجديدة التي اختارها لنفسه يوجه إلى جبل المقطم ليخلو هناك بنفسه، ويحيا في عزلة شديدة صام فيها عن الطعام والشراب والكلام عدة أيام ربما بلغت العشرة. عاد بعدها ليمارس حياته الطبيعية من جديد. وكانت هذه العزلة بمثابة رياضة روحية يمارسها على فترات متقطعة.
خلفية تاريخية
عاش عمر بن الفارض في عصر يعج بالاضطرابات والقلق بسبب ما صنعته الحروب الصليبية في ذلك الوقت مما ساهمت في أزمات سياسية واقتصادية على مدار سنوات طويلة. عانى الناس بشدة جراء هذه الحروب. كما أثرت على الحياة الفكرية والثقافية مما جعل التصوف والزهد عن مثل هذه الحياة ملاذاً آمنًا للفرد. حيث يبتعد من خلال عن العصبيات القبلية والطائفية وغيرها من المشكلات السياسية المجهدة.
كانت المذاهب الصوفية في ذلك الوقت تتمثل في أمرين أولهما: مذهب وحدة الوجود الذي نادى به محي الدين بن عربي. وثانيهما: مذهب الحكمة الإشراقية التي نادى بها السهروردي. ويشتمل هذان المذهبان على نظرة ترى ضرورة احترام جميع الأديان، فالخالق واحد والدين كله لله. وأن الغاية التي تمثلها جميع الأديان هي غاية أخلاقية في المقام الأول. وتكمن هذه الغاية في الحض على الفضائل الإنسانية ومكارم الأخلاق من خلال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فلسفة عمر بن الفارض
تأثر الشاعر الكبير عمر بن الفارض بمحيي الدين بن عربي وفلسفته الخاصة بوحدة الوجود. بينما تأثر كذلك بفكر السهروردي التي تستند على ما يسمى الفيض الإلهي. وتتخلص فلسفة ابن الفارض في السير على الطريق للوصول إلى الحقيقة العليا والنور الأسمى. وشوق المتصوف للوصول إلى ذلك هو الذي يدفعه إلى الاتصال بخالقه. بينما لا يستطع المرء أن يصل إلى الحقيقة العليا والنور الإلهي إلا إذا تخلص من شوائب النفس حتى يكون في مقدرتها أن تكشف ما وراء الحجب من خفايا وأسرار.
زيارة الملك الكامل
ذاع صيت عمر بن الفارض في العالم الإسلامي عن طريق الصدفة. حيث اجتمع الملك الكامل ذات يوم مع نخبة من العلماء والفقهاء وجاءت سيرة عمر بن الفارض ونظرته الفلسفية في التصوف. فسأل عنه الملك حتى يعرف عنه أكثر. حينها بدأ الجمع يذكر للملك مآثر هذا الصوفي الكبير وعزلته في جبل المقطم وصيامه وجهاده للنفس من أجل الوصول إلى الحقيقة العليا والنور الأسمى. وأخبروه عن زهده في متاع الحياة وعزوفه عن مغرياتها. فما كان من الملك الكامل إلا أن صاح في الجمع قائلاً: كيف يكون ذلك الرجل الصالح في عصري ولا أزوره.
أمر الملك الكامل حاشيته أن يحضروا له موكبًا عظيماً ليذهب إلى الأزهر الشريف لرؤية هذا الرجل الصالح. وما إن علم عمر بن الفارض بشأن هذا الموكب العظيم حتى خرج من الباب الآخر حتى يتحاشى لقاءهم رغبة منه في عدم التعرض إلى مغريات السلطة والحياة بصفة عامة. بينما لم يخرج عمر بن الفارض فحسب من باب الأزهر الشريف بل خرج من القاهرة بأكملها، وسافر إلى الإسكندرية.
الهروب إلى الإسكندرية
وصل عمر بن الفارض إلى الإسكندرية ليعيش فيها على الكفاف. هناك وجد مأوى له في مسجد صغير عكف فيه على قراءته وتعبده وكتاباته. بينما يُقال إنه كتب في الإسكندرية قصيدته المشهورة التي تسمى “التائية الكبرى”. هذه القصيدة التي جمع فيها خلاصة فلسفته ونظرته الفكرية في الحب الإلهي. إلا أن وجوده في الإسكندرية لم يستمر طويلاً. حيث أصيب بمرض جعله ملازمًا للفراش. فأراد أن يعود إلى مسقط رأسه في القاهرة.
عاد إلى القاهرة لكن مرضه تمكن منه إلى الدرجة التي جعلته لا يستطيع مفارقة الفراش. ولما علم الكامل ناصر الدين محمد عن عودته ومرضه الشديد، طلب منه أن يحضر إليه مع طبيبه الخاص من أجل علاجه. إلا أن عمر بن الفارض رفض طلب الملك واعتذر له وشكره على اهتمامه.
وفاته
اشتد عليه المرض وسعى الناس في اقناع عمر بن الفارض أن يسمح لطبيب الملك بزيارته. وطلب منه الملك مرة أخرى أن يزوره إلا إنه رفض مجددًا. وأخبر الملك أن أجله قد حان. لذا ما كان من الملك إلا أن استأذنه في إقامة ضريح له يليق بمقامه. شكر الملك على كرمه وعطفه. وما هي إلا أيام حتى وافته المنية. وتم دفنه تحت سفح جبل المقطم الذي كان يختلي فيه بنفسه.
وهكذا، تظل سيرة عمر بن الفارض شاهدًا حيًّا على روحٍ آثرت الصفاء على الصخب، والخلود على الزوال. لقد اختار أن يسلك طريق الزهد والتصوف في زمن امتلأ بالتقلبات والاضطرابات، فكان في عزلته حكيمًا، وفي شعره عاشقًا، وفي حياته مثالًا على السمو الروحي.
ترك خلفه إرثًا من الكلمات المضيئة، التي لا تزال تتردد في آفاق المتصوفة والعاشقين والباحثين عن المعنى. وإذا كانت الدنيا قد طوت جسده، فإن روحه لا تزال تسري في أبياته، ونوره لا يزال يهتدي به كل من يفتش عن حقيقة أسمى، تتجاوز حدود المادة وتلامس جوهر الوجود.
فلعلنا ونحن نقرأ في دفاتر حياته، نستعيد شيئًا من السلام الذي كان يبحث عنه، ونتأمل كيف يمكن للشعر أن يكون طريقًا إلى الله، وللعزلة أن تصير نورًا، وللكلمة أن تبقى… حين تُكتب بصدق وحب.
المراجع:
- الحركة الصوفية في الإسلام – محمد علي أبو ريان.
- فلاسفة الإسلام – سعد عبد العزيز.
- وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان – ابن خلجان.