فلسفة

أنا أراك: رحلة إلى عمق التواصل الحقيقي

في عالم يموج بالحداثة والتكنولوجيا، تتسلل إلينا أحيانًا همسات تذكرنا بجوهر إنسانيتنا، همسات تحملها تفاصيل صغيرة لكنها عميقة. تكشف هذه التفاصيل عن معانٍ تغوص في أعماق الروح الإنسانية، حيث تتجلى قيمة الاعتراف بالآخر والاحتفاء بوجوده. إن إدراك وجود الآخر بما يحمله من كرامة وخصوصية هو أساس العلاقات الإنسانية، وهو ما يمنح الحياة غناها الحقيقي ومعناها الأعمق، ليُذكّرنا بأننا لسنا وحدنا في هذا العالم، وأن في كل لقاء فرصة لاكتشاف أبعاد جديدة لأنفسنا وللآخرين. دعونا نخوض رحلة إلى عمق التواصل الحقيقي بين البشر..

تحية تحمل أعمق المعاني

في فيلم “أفاتار” استعمر البشر كوكبًا خارج الأرض تسكنه كائنات تشبهنا. تعيش هذه الكائنات في مرحلة تُشبه تلك التي عاشها أسلافنا الذين عاشوا على الصيد وجمع الثمار. وهم منظمون في قبائل، ويمتلكون لغة وثقافة مرتبطة بالطبيعة. يستعرض الفيلم بطريقة مثيرة، تكاد تكون وكأنها أطروحة أنثروبولوجية، أسلوب حياة هذه الكائنات، ويجبرنا على رؤية أنفسنا منعكسة في مرآتهم، لنكتشف مقدار ما أخفته الحداثة من أنفسنا. الفيلم عبارة عن انعكاس لحالة تبدد الشخصية التي دفعنا إليها العصر الحديث، ودعوة لاستكشاف داخلنا بحثًا عن أصالة قديمة ربما تكون أكثر أهمية مما نعتقد.

أحد أكثر التفاصيل إثارة للإعجاب هي التحية التي توجهها هذه الكائنات لبعضهم البعض. إنهم يقولون بكل بساطة “أراك”. يبدو لي هذا التعبير اكتشافًا أخلاقيًا رائعًا، ففي بساطة هذه العبارة يتكثف التواصل الحقيقي وإظهار التقدير والود والاحترام. إن قول “أراك” لشخص ما هو أسمى علامة على الاهتمام الذي يمكن أن نقدمه له. “أراك” يعني: أمنحك انتباهي، أقر بتفردك وقيمتك وسط الأشياء، وبالتالي أعتبرك شبيهًا بي. صحيح أن بإمكاننا أيضًا “رؤية” ما نكرهه أو نحسده، لكن حتى في تلك الحالات نحن نمنح الآخر مكانة كائن موجود وجدير بنظرتنا: نحن لا نرى ما هو غير مهم لنا، لا نرى ما لا نقدره أو لا نحترمه، لا نرى ما لا نعترف فيه بقيمة أخلاقية.

يبدأ كل تواصل اجتماعي حقيقي بهذا الفعل من الرؤية، من التعرف. تبدأ كل علاقة بفرصة للتعاطف، بمنح الآخر طبيعة منفصلة عن طبيعتنا ولكنها معادلة لها، لتأكيد أن هذا الآخر موجود بكرامة تساوي كرامتنا. تتأسس الرابطة بنظرة ترى: عندما ينظر شخصان إلى عيون بعضهما البعض، فإنهما ينظران إلى نظرة الآخر، ويدركان وجود كل منهما. هناك شخص آخر يراني ويدركني. يسمى علماء النفس هذا الأمر “نظرية العقل“: أنا لست وحدي في العالم، لدي أسباب لأعتقد أن خلف تلك العيون هناك عقلًا يفكر، ويرغب، ويشعر، بمعزل عما أفكر فيه أو أريده أو أشعر به، لأنه مثلي.

نظرية العقل.. فهم الآخر ككائن مستقل

نظرية العقل
كيف نرى الآخر؟

توضح لنا “نظرية العقل” أن بإمكاننا القيام بالعملية الأساسية المتمثلة في وضع أنفسنا مكان الآخر، وتجاوز فرضياتنا حول مجرد وجوده.. أن ننسب إليه القدرة على التفكير والشعور، وبالتالي منحه الكرامة. وفي هذه التعاطف الناشئ، يبدأ التواصل الحقيقي وتبدأ المغامرة الأخلاقية. تبدو بعض الاضطرابات مثل التوحد مرتبطة بعدم القدرة على تطبيق نظرية العقل، أي عدم القدرة على استنتاج أفكار الآخر انطلاقًا من أفكاري.

إن التوحد الشديد يتجسد في العجز عن الرؤية، عن الخروج من الانحصار في الذاتية المطلقة والمهيمنة، عن ضعف التواصل الحقيقي. هل يوجد أحد هناك؟ يبدو أن لا… أنا وحدي. ما أراه، على الرغم من أنه يظهر لي كشخص، لا يبدو لي كشخص حقيقي، بل كعنصر آخر من ذلك السياق الذي أتحرك فيه أنا ―الشخص الوحيد― كما يتحرك المنبوذ عبر صحراء جرداء.

ربما لدينا جميعًا جزء يجد صعوبة في قول “أراك”. نحن جميعًا نتعامل مع الآخرين كما لو كانوا مجرد أشياء في عالمنا، وُضِعوا هناك فقط لتلبية احتياجاتنا والاستجابة لتطلعاتنا. نعيش إلى حد كبير أسرى لعالمنا العقلي، حيث ننسِب إلى الآخرين نوايا أو دوافع تتعلق بنا فقط، كما لو لم يكن لديهم رغباتهم الخاصة.

نتوقع أن يرى الآخرون العالم بعيوننا، كما لو لم يكن لديهم نظرتهم الخاصة. نعتقد أن تصرفاتهم موجهة إلينا شخصيًا، بينما هم في معظم الأحيان، مثلنا، يتصرفون بناءً على اهتماماتهم الخاصة. أصر على الاعتقاد بأن شخصًا ما يعيش فقط ليضع العقبات في طريقي، بدلًا من أن أفهم أن ما يمثل عقبات بالنسبة لي هي تطلعات بالنسبة له. أغضب من شخص ما، ومنذ تلك اللحظة يبدو أن كل ما يفعله يهدف إلى إزعاجي، كما لو أنه لا يوجد شيء في عالم الآخر لا علاقة له بي. نأخذ تصرفات الآخرين على نحو شخصي للغاية، لأننا نجد صعوبة في فهم أن لديهم حياتهم الخاصة، ولأننا نجد صعوبة في الافتراض أن لديهم عقلًا خاصًا بهم؛ لأننا لا نراهم.

في عيون الآخر

التواصل الحقيقي
نظرة الآخر تخلقني

“أراك”.. في هذا التصريح ينفتح عالم من التواصل الحقيقي، واللقاءات، والتبادلات، والروابط، والتضامن وأيضًا من الصراعات، وبدون هذه الأمور تذبل حياتنا، وتبدو وكأنها محبوسة في ذاتها. لقد شرح سارتر بشكل رائع هذا الفعل الأساسي للاكتشاف من خلال النظر، واعتبر الآخر تهديدًا، تقييدًا مقلقًا لاستقلالنا. منذ اللحظة التي أكتشف فيها وجود الآخر، لا أستطيع أن أكون نفسي بالكامل بعد الآن، لأنه من تلك اللحظة عليّ أن آخذ في الاعتبار هذا الآخر الذي يراني، والذي قد يكون عدوي، والذي ربما سيطلب مني شيئًا، والذي بلا شك سيحكم عليّ، مما يجعلني أشعر بالخجل والخوف. كان سارتر محقًا، لكنه تحدث فقط عن نصف الحقيقة، أو بالأحرى توقف في منتصف الطريق: فقط في حالة وجود آخر، يمكنني أن أكون موجودًا؛ نظرة الآخر تخلقني. أما الآخر الذي قد يكون عدوي، ربما يتضح أنه صديقي، وفي هذا التحول تكمن السعادة الكاملة.

عندما نرى بعضنا البعض، تمنحنا نظرة الآخر الوجود والكرامة أيضًا. ولهذا السبب لدينا حاجة كبيرة للاعتراف: الثناء، الاستحسان، الاحترام. نحن جميعًا أطفال نسعى إلى أن تتم رؤيتهم، والاعتراف بهم، وتأكيد قيمتهم.. نقدر المديح ونرتعش عندما يقول لنا أحدهم “أراك”.

الاحتفال بالتواجد معًا

التقيت بشخص ادعى أنه لا يفهم هذه الحقيقة البسيطة. كان يحب أن يتم الإطراء عليه، ولكن عندما طلبت منه بترقب أن يخبرني بما يعجبه فيّ، نظر إليّ بذهول وانزعاج، وسأل: لماذا؟ كان هذا أحد أكثر الأسئلة إثارة للدهشة التي طُرحت عليّ على الإطلاق، ومع شعوري بالخوف والقلق، أعترف أنني لم أكن أعرف كيف أجيب. لم أستطع التفكير في أي حجة أرد بها عليه.

لكن بعد التأمل، أدركت أنه كان محقًا، لقد كان من التفاهة بالنسبة لي أن أتوقع مديحه، فحياتي، والعالم بأسره، سيبقيان على حالهما تمامًا إذا أخبرني أنني أبدو رائعًا أو إذا لم يقل شيئًا، ولهذا السبب سقطت في صمت.. حائر، حزين، غاضب، وشعرت بالوحدة الشديدة. لكن باسكال كان سيعرف كيف يرد ليقول:

القلب له أسباب لا يستطيع العقل فهمها…

العقل رائع ولكنه قاحل: إذا كنا نحب المجاملات، فلا يعني ذلك أنها تخدم أي غرض، بل لأنها تجعلنا نشعر بالتقدير، تجعلنا نشعر بأننا نُرى.

اليوم، ربما كنت سأشعر بالطريقة نفسها، وسأظل عاجزًا عن إقناع ذلك الشخص، لكن على الأقل كنت سأعرف كيف أجيبه: أريدك أن تخبرني بما يعجبك فيّ، لأن ذلك هو طريقة لرؤيتي؛ لأن تحبني.. تقدرني.. تعترف بي.. تشكل وجودي. وهذا يعني: بلا سبب، فقط لأن هذا هو ما أنا عليه. فقط لأنني أحتاج أن تخبرني أنك تراني. الهدايا أيضًا لا تخدم أي غرض، لكنها مهمة للغاية بسبب ما تمثله. إن شرح الأشياء لبعضنا البعض لا يغير العالم أيضًا، لكنه احتفال بالتواجد معًا. “أراك”: يا لها من سعادة غريبة..

وائل الشيمي

كاتب وأديب بدأ مسيرته الأكاديمية في مجال الصحافة، حيث حصل على بكالريوس في هذا المجال، وقاده شغفه بالإنسانية إلى دراسة علم النفس والفلسفة، وقد ساعدته دراسته وقراءاته في فهم أبعاد الشخصية البشرية وتعقيداتها. في روايته "الأجنحة السوداء" صور قضايا الوجود والتحديات النفسية التي يواجهها الإنسان في رحلة بحثه عن الإله، في سياق سردي مشوق يحمل في طياته تأملات فلسفية حول الحياة والموت، الحرية والقيود. كما أطلق في مجموعته القصصية "علامات لا تُمحى" مجموعة من القصص التي تتناول الجوانب المظلمة من التجربة البشرية، تاركاً آثارًا لا تُمحى في ذهن القارئ. إلى جانب أعماله الروائية والقصصية، ساهم الكاتب بالعديد من المقالات النقدية والحوارات الفكرية في الصحف والمجلات والمواقع الإعلامية، حيث شكلت كتاباته مساحة للتفكير والتحليل حول قضايا ثقافية واجتماعية معاصرة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

دعمك يهمنا ❤️

نحن نعمل بجد لتقديم محتوى مجاني ومفيد لك. هل يمكننا الاعتماد على دعمك بتعطيل مانع الإعلانات؟ شكرًا مقدمًا!