فلسفة

هل طبيعة البشر الخير أم الشر؟

لطالما شغل هذا السؤال عقول الفلاسفة والمفكرين على مدار التاريخ، فمنهم من قال بالطبيعة الخيرة للإنسان، ومنهم من اعتقد العكس، لكن ما الذي يجعل الإنسان ودوداً أو مهدداً لمن حوله؟ وإذا كنا كائنات نقية بمشاعر طيبة، فلماذا توجد كل تلك الشرور والفوضى؟ أم أن الشر شيء متأصل في طبيعة الإنسان؟ ربما يمكننا الحصول على الإجابة من خلال سلوكنا الاجتماعي، فمفتاح سلوكنا الاجتماعي يتجاوز مجرد التحية. دعونا نحاول الإجابة على سؤال هل طبيعة البشر الخير أم الشر؟

هل الإنسان خير أم شرير بطبعه؟

يجب علينا في البداية أن نترك البرج العاجي الذي يقطنه الفلاسفة، ونخطو بأقدامنا على الأرض لنرى بصورة أوضح سلوك البشر. في إحدى المطاعم طلبت نادلة من بعض الزبائن مغادرة الطاولة التي يجلسون عليها من أجل تنظيفها، وقد فعلوا ذلك بسرعة، وعندما شعروا بالإحراج وعدم الراحة، أخذوا أشيائهم وانصرفوا لجعل وظيفة النادلة أسهل.

على الرصيف المقابل للمطعم اقترب شخص ما من أحد المارة ليسأله عن الاتجاهات إلى مكان معين، وسرعان ما استجاب له الرجل بسرعة وبلطف، بل وشعر بالامتنان لكونه كان مفيداً. وفي مترو الأنفاق المزدحم بالناس، نهض شاب من مقعده عندما رأى شخص مسن يعاني من الألم، وطلب منه الجلوس مكانه.

حاول شخص أعمى أن يجتاز الطريق، فساعده على الفور وبسرور أحد المارة، وفي الوقت نفسه يسارع شخص ما يركب سيارته لتحذير أخر بأنه ترك المصابيح الأمامية لسيارته مضاءة، إنه واحد من تلك التحذيرات التي لا يفوتها أحد على الإطلاق. شخص آخر يرى رجل يسقط شيئاً على الأرض فيلتقطه ويسلمه له بابتسامة.

هذه مجرد أمثلة، وهناك دائماً استثناءات، ولكن بشكل عام فنحن أكثر الكائنات المتعاطفة والداعمة بطبيعتنا، فحتى عندما نشاهد فيلماً يعاني فيه الضعيف فنحن نرتجف ونبكي، ونتعاطف معه. فإذا كان الأمر كذلك، فأين هي المشكلة؟ ولماذا نفشل في علاقاتنا؟ ولماذا يوجد الكثير من الفوضى والخلافات والمعارك والحروب في العالم؟

اقرأ أيضًا: مشكلة وجود الشر في العالم

أين تكمن المشكلة؟

هل طبيعة البشر الخير أم الشر
من أين يأتي الشر؟

تأتي الفوضى من الأنانية، والطموح، والغطرسة، والفخر. إنها مواقف تدل على حاجة الإنسان إلى أن يكون فوق الآخر، وبالتالي يقدم نواقصه، ويغطيها بتفوق زائف. تتسبب الأنا من خلال هذه الصفات في الانقسام وتحاول أن تخفي بداخلها الخير الكامن والفطري لكل إنسان. ويرتبط هذا الأمر ارتباطاً وثيقاً بالمقارنة الدائمة التي نقيمها مع أقراننا، ليس فقط في الجوانب المادية، ولكن أيضاً فيما يتعلق بالعواطف والمشاعر والتصورات والأفكار.

نحن نريد أن نكون على صواب دائماً. نعتقد بأننا نمتلك الحقيقة المطلقة. وتلك الحقيقة التي نملكها هي ما نفكر فيه، وما يشكل بنية معتقداتنا، لذا نتشبث بها بشدة، فهذا ما نحن عليه، وإذا أزالوا مفهومنا عن العالم، فلن نكون شيئاً. ومن هنا نحاول فرض معاييرنا وإثباتها من خلال إرباك الآخرين إما في محادثة بسيطة أو في نظام هرمي ذي طبيعة مختلفة. ولهذا السبب يمكننا أن نشعر بالنفور من الأشخاص الذين نعتبرهم في مستوى أعلى من مستوانا. إما بسبب القوة في حججهم، أو بسبب قدرتهم على دحض ما لدينا أو بسبب القوة التي يملكونها في المجالات الاقتصادية أو المهنية أو الثقافية أو الشخصية أو الاجتماعية. 

اقرأ أيضًا: تاريخ البشرية في ثلاث أفكار رئيسية

أنت لا تكره نفسك، ولكن تستخف بها

هل طبيعة البشر الخير أم الشر
الطبيعة البشرية

قال فريدريك نيتشه: “لا يكره المرء سوى من هو متساوٍ معه أو متفوق عليه”. لذلك نحن نتعاطف مع الغرباء، لأنه لا سبيل إلى مقارنتهم بنا، ولا نعتبرهم منافسين معنا. مثال آخر مهم على الاختلافات التي نؤسسها مع الأشخاص الذين نعتبرهم غير مهددين لنا، في بيئة العمل. إننا نكن الاحترام واللطف مع هؤلاء الذين تربطنا بهم علاقة عمل أو تعاون ليس له تأثير على وظائفنا أو مكانتنا مثل العملاء والموردين أو هؤلاء الموظفين الذين غادروا الشركة، كل هؤلاء لا يولدون الخوف لدينا، لأنهم يؤدون وظيفة لا تؤثر على ما نعتبره منطقة “نجاح” لدينا؛ فليس هناك مواقف تنافسية أو صراع على السلطة.

في هذه العلاقات لن يكون هناك رابحاً أو خاسراً، لأننا لا نقارن أنفسنا بهم. وهذا ما يسمح لنا بتقديم الجانب الأكثر شفافية لدينا، دون أي تدهور في التواصل أو عدم الراحة. أما إذا كان الأمر يتعلق بزملاء العمل الذين يمكن أن ينافسونا فهنا يظهر الجانب الأكثر شراً. وغني عن الذكر ما يحدث بين الزملاء في بيئة العمل المشتركة.

تحدث مواقف مماثلة أيضاً في العلاقات الأسرية. فنحن أكثر صداقة مع أولئك الذين يأتون لزيارتنا أكثر من أولئك الذين نعيش معهم بصفة يومية. فالصراع على السلطة (العقل) غير موجود مع هؤلاء، ولا نريد سوى قضاء وقت ممتع مع الأصدقاء أو المعارف، لذا يظهر جوهرنا الطيب بشكل أكبر. لكن لماذا يحدث ذلك؟

اقرأ أيضًا: الطريق إلى تحقيق الذات في الحياة

المظهر والجوهر

المظهر والجوهر في النفس البشرية
النفس القائمة على المظاهر

يحدث ذلك نتيجة لحقيقة أن نظام معتقداتنا يقوم على مستوى خارجي مظهري وغير جوهري من “الحكمة”. وهذا النظام القائم على المظاهر يتداعى بمجرد وضع شيء ما على المحك. فعندما لا يرضينا العالم، يكون العالم هو الشخص الآخر الذي نٌلقي عليه اللوم. وعندما يرضينا، نتحرك في فضاء الأمن المادي ونواجه، لأننا نعتقد أن هذا النوع من “القوة” يقوي هويتنا. وبالتالي، نحاول بقدر الإمكان تجنب العمل “الشاق” المتمثل في النظر إلى أنفسنا بعمق، والتعرف على أنفسنا وإظهار أنفسنا بشفافية، في مواجهة الخوف من التعرض للهجوم والهزيمة. فنغطي أنفسنا بالغطرسة وعدم الثقة التي أساسها الخوف من كل شيء.

كل هذا لا يحدث لأولئك الذين واجهوا مخاوفهم وتواصلوا مع أنفسهم، لأن هذه هي الطريقة التي يمكنهم من خلالها التواصل مع الآخرين. إنهم يعيشون بوعي معظم وقتهم ويستمتعون بعلاقاتهم. لقد تعرفوا على أنفسهم جيداً. وانتهجوا طريق الصدق والنزاهة فظهر بعدهم الإنساني الحقيقي. وعندما يفشلون، يتعلمون من تجاربهم. إنهم يعاملون الجميع على قدم المساواة ويتلقون نفس الشيء منهم، لأنه من هذا الموقف، لا أحد يشعر وكأنه في ساحة معركة.

أنا لا أؤمن بأن طبيعة البشر الخير أم الشر؛ ولكن أؤمن بأن هناك أشخاص أصحاء نفسياً وعاطفياً، وهناك آخرين غير أصحاء يشعرون بعدم الأمان والتحيز، لذا تقودهم طاقتهم الخاطئة إلى أن يكونوا قساة حتى مع أنفسهم. نحن جميعاً جزء من نفس الكون، ومرتبطين معاً بطريقة ما، لذا لا يمكن أن نستبعد أحد، لأننا واحد، نعيش في بيئة واحدة، ولدينا ميراث جيني وبعض الخصائص والمواقف المميزة التي تعطينا شخصيتنا الحقيقية. وفي أعماقنا لدينا جميعاً خلفية بيضاء ومضيئة، ويعطي إعادة اكتشافها معنى لحياتنا.

وائل الشيمي

كاتب وأديب بدأ مسيرته الأكاديمية في مجال الصحافة، حيث حصل على بكالريوس في هذا المجال، وقاده شغفه بالإنسانية إلى دراسة علم النفس والفلسفة، وقد ساعدته دراسته وقراءاته في فهم أبعاد الشخصية البشرية وتعقيداتها. في روايته "الأجنحة السوداء" صور قضايا الوجود والتحديات النفسية التي يواجهها الإنسان في رحلة بحثه عن الإله، في سياق سردي مشوق يحمل في طياته تأملات فلسفية حول الحياة والموت، الحرية والقيود. كما أطلق في مجموعته القصصية "علامات لا تُمحى" مجموعة من القصص التي تتناول الجوانب المظلمة من التجربة البشرية، تاركاً آثارًا لا تُمحى في ذهن القارئ. إلى جانب أعماله الروائية والقصصية، ساهم الكاتب بالعديد من المقالات النقدية والحوارات الفكرية في الصحف والمجلات والمواقع الإعلامية، حيث شكلت كتاباته مساحة للتفكير والتحليل حول قضايا ثقافية واجتماعية معاصرة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

دعمك يهمنا ❤️

نحن نعمل بجد لتقديم محتوى مجاني ومفيد لك. هل يمكننا الاعتماد على دعمك بتعطيل مانع الإعلانات؟ شكرًا مقدمًا!