منذ قديم الأزل والإنسان لا يتوان عن التفكير في الخلق؛ حتى وضع تشارلز دارون نظريته الشهيرة في النشوء والارتقاء خلال القرن التاسع عشر. في هذا المقال نعود بالزمن إلى الوراء لنرصد كيف تطورت الدراسات والنظريات الخاصة بالتطور.
مفهوم التطور
التطور هو عملية التغير التي تحدث في الصفات الموروثة للكائنات الحية التي تعيش في جماعات. حيث تنتقل تلك الصفات من الأب والأم إلى الأبناء مما يؤدي إلى تغيير صفات النوع بل وإلى نشوء نوع جديد من هذه الكائنات. كما يُعرَّف التطور بأنه النظرية البيولوجية، التي تطرح فكرة أن أنواعاً مختلفة من الحيوانات والنباتات لها أصل في أنواع أخرى موجودة مسبقاً وأن سماتها المميزة ترجع إلى التعديلات في الأجيال المتعاقبة. بينما يُشير أيضاً إلى التقدم المطرد من الأشكال البسيطة إلى المعقدة أو التغيير في التركيب الجيني للكائنات عبر الزمن.
ومنذ فترات تاريخية موغلة في القدم كان موضوع التطور في المملكة الحيوانية يشغل العديد من الفلاسفة والعلماء. وقد طوروا العديد من النظريات ولكنها لم تصل إلى الفكرة الكاملة؛ حتى ظهر دارون في القرن التاسع عشر وصاغ الفكرة بعبقرية وذكاء بعد أن ربط جميع خيوط هذه النظريات والأفكار. لكن من هم الفلاسفة والعلماء الذين تناولوا فكرة التطور قبل ظهور دارون؟
أناكسيماندر المالطي (611 – 547 ق. م)
يعد أناكسيماندر المالطي أحد فلاسفة اليونان القديمة؛ وقد تلقى تعليمه على يد الفيلسوف العظيم طاليس. عاش أناكسيماندر في الفترة ما بين عامي 611 إلى 547 قبل الميلاد. وكان أول الفلاسفة التي طرحت فكرة التطور في المملكة الحيوانية. وأن خلق الكائنات الحية تم على أساس فردي. وربما كانت فكرته هي أصل نظريات التطور في التاريخ القديم.
لوكريتوس الروماني (96 – 55 ق.م)
وفي الفترة ما بين عامي 96 إلى 55 قبل الميلاد؛ وهي الفترة التي عاش فيها الفيلسوف والشاعر الروماني لوكريتوس، أحيا فكرة التطور مرة أخرى؛ وقد تناولها في كتابه الذي يحمل عنوان ” الطبيعة” وأسرد فيه آراءه وأفكاره المؤيدة لفكرة الانتخاب الطبيعي والبقاء للأقوى وضرورة التخلص من الأضعف.
اقرأ أيضًا: القردة العليا: هل تُثبت أن أصل الإنسان كان قرداً؟ |
جان باتيست لامارك (1744 – 1829 م)
يعد عالم الأحياء الفرنسي هو أول من رسم فكرة التطور بشكل أكثر وضوحاً. كما أنشأ مذهباً تحت اسم ” اللاماركية” وأوضح في كتابه ” فلسفة علم الحيوان” الذي نشر في عام 1809 ميلادية أن التغير البيئي يغير ويعدل من احتياجات الأنواع المختلفة أو يولد احتياجات جديدة مما يؤدي إلى ظهور عادات جديدة والتي تؤدي بدورها لاستخدام أكثر لأعضاء معينة، وإهمال أعضاء أخرى، وبالتالي فإن هذه الأعضاء المهملة التي لا تُستخدم ستتقلص وتضمر بل وتنتهي إلى الاختفاء تماماً.
لم تلق بحوث لامارك استجابة من قبل المجتمع العلمي في ذلك الوقت. نظراً لأنه حاول تفسير آلية التطور على أساس توريث الصفات المكتسبة مثل افترضه أن الاستطالة في عنق الزرافة ظهرت نتيجة المحاولات المستمرة لمد رقبتها للوصول إلى أوراق الشجر. مما أدى إلى ازدياد طول رقبتها، ومن ثم انتقلت هذه الصفة إلى الذرية التي استمرت في عملية مد الرقبة وتوارثت هذه الصفة بتعاقب الأجيال.
كما فسر اختلاف لون البشرة في سلالات البشر مفترضاً أن التعرض للشمس على مر الأجيال أدى إلى تغير لون البشرة. وبتوارث هذه الصفة المكتسبة على مر الأجيال ظهرت سلالة بشرية سوداء. واستمر لامارك في ملاحظاته تلك لبعض الكائنات والتي استنتج منها أن هذا النوع في التغيير (بوجود عضو أكثر تعقيداً أو تطوراً نتيجة للاستخدام المستمر) ينتقل عبر الوراثة.
أي أن لامارك أول من أرجع أسباب تطور الأعضاء، وضمور البعض الأخر واندثاره في بعض الكائنات إلى تأثير البيئة واحتياجات الكائن الحي والضرورة التي تفرضها عليه. وإن استمرار وجود هذا العضو المتطور في الكائن في الأجيال المتتالية إنما يرجع إلى الوراثة المكتسبة.
اقرأ أيضًا: النظرية العلمية: المفهوم والمعايير وأهم النظريات العلمية |
التطور عند جورج كوفييه (1769 – 1832)
كان جورج كوفييه عالم أحياء فرنسي، وقد عقد مقارنة في كتابه الصادر عام 1812 تحت عنوان “تاريخ العظام المتأحفرة” بين حيوانات العصر الحالي والحيوانات التي وجدت بقاياها ضمن الأحافير. حيث أوضح فيه وجود أنواع منقرضة. وفكرته لا تدعم مذهب التطور الذي نادى به لامارك فحسب، بل أيد فكرة ثبات الأنواع.
وكوفييه تخصص في علم الحفريات وهو القائل بأن العالم تعرض لسلسة من الانقلابات والثورات الطبيعية وكانت هناك فترة من الزمن بين كل انقلاب وآخر، وهي ما نطلق عليه الآن بالعصر الجيولوجي. كما ذكر كوفييه إنه في نهاية كل فترة كانت الحيوانات الموجودة تفنى عن آخرها نتيجة لإحدى الكوارث الطبيعة التي يخصصها الخالق الأعظم لتبديل أمم المخلوقات والكائنات بأخرى ثم تبدأ الفترة التي تليها بخلق جديد.
كما فسر كوفييه أوجه الشبه بين الكائنات في الأجيال المتعاقبة والعصور المختلفة بأنها جاءت نتيجة إعادة الله لخلقه على صورة أفضل من السابقة وأقرب إلى الكمال. وبالتالي أخذت هذه الصور أشكال التطور والرقي في الكائنات. وربما كان جورج كوفييه أحد الذين طوروا نظريات التطور بصورة كبيرة لتصل إلى ما هي عليه في الوقت الحاضر.
اقرأ أيضًا: نظرية الانفجار العظيم: كيف كانت لحظة بداية نشأة الكون؟ |
توماس مالتوس (1766 – 1834)
هو عالم اقتصاد إنجليزي دعا إلى كبح التزايد المتعاظم في الزيادة السكانية للعالم عن طريق تحديد السل. كان لأفكار العالم مالتوس ما يبرر به دارون أفكاره. فمالتوس كان قسيساً في كنيسة إنجلترا بروتسنانتينا وهو صاحب قانون الفقراء الشهير الذي ألغى فيه وأبطل أي عون لمن لا إنتاج لهم. وكان مالتوس يرى أن الانتقاء يعمل عمله في دائرة الانسان: فلا يستحق البقاء إلا من هم أقدر على الإنتاج، أما أولئك الذين وهبتهم الطبيعة حظاً أدنى فهم أجدر بالهلاك والاختفاء.
نظرية التطور عند دارون (1809 – 1882)
ثم حلت فرضية دارون محل أفكار لامارك. كما كان مهيأ لقبول نظرية ” التغير البيولوجي التدريجي والتطور” لأنه كان دائم الاطلاع في كتاب مبادئ الجيولوجيا الذي نشره العالم تشارلز لايل. حيث ذكر فيه أن الطبيعة تغيرت بالتدريج من خلال عمليات فيزيائية مستمرة بالإضافة إلى القليل من الكوارث الطبيعية.
وكانت رحلته على البيجل التي استغرقت خمس سنوات (1831- 1836) قد ساعدته على مشاهدة التنوع الهائل في الكائنات الحية في الأماكن المختلفة ومن بينها جزيرة الجالاباجوس، وتأثر دارون كذلك بمؤلف توماس مالتوس 1766 – 1834 الذي دعا فيه إلى تنظيم النسل. حيث ذكر أن عدد السكان يتزايد على شكل متوالية هندسية في حين أن هناك نقصاً في الموارد الغذائية المتاحة. وافترض مالتوس أن الأمراض والحروب والمجاعات سوف تحد من تزايد تعداد السكان.
واستنتج دارون أن نظرية مالتوس في السكان يمكن تطبيقها على الكائنات الحية الأخرى. كما استنتج أن هذه الأسباب التي طرحها مالتوس (حروب وأمراض ومجاعات) تؤثر على الكائنات الحية الأخرى. فتؤدي إلى القضاء على الأفراد الضعيفة والأقل ملاءمة للبيئة. وسوف يكون البقاء للأقوى والأصلح. مما مكن دارون من صياغة فرضيته في الانتخاب الطبيعي التي بنيت على مبدأ البقاء للأصلح. ويعد دارون أحد أشهر من صاغ هذه النظرية وربط جميع نظريات التطور معاً.
اقرأ أيضًا: هل الله موجود؟ الصراع الأزلي بين العلم والدين |
جريجور جوهان مندل (1822 – 1884)
هو العالم الأسترالي الذي أسس علم الوراثة الحديث؛ وله اسهامات عظيمة في تشكيل نظريات التطور. درس مندل في جامعة فيينا ثم عمل بالتدريس في مدارس برنو في الفترة من 1856 – 1864 حيث كان يقوم بإجراء تجاربه على نبات البازلاء. ورغم أن مندل تولى منصب رئيس دير الرهبان عام 1868 إلا إنه استمر في تجارب تهجين النباتات. بينما شكلت تجارب مندل الأساس العلمي لمفهوم وراثة الصفات المكتسبة بالرغم من عدم إمكانية تفسير جميع الظواهر الوراثية على أساس قوانين مندل التي استخلصها من تجاربه البسيطة.
ألفرد راسل والاس (1823 – 1913)
قام عالم الطبيعة الإنجليزي والاس برحلة أبحر فيها لمدة أربع سنوات. وتوصل إلى فكرة الانتخاب الطبيعي عندما تعرض قبل رحلته لحدوث موجة من الحمى. حيث لاحظ أن مرض الحمى يقضي على البعض دون الأخر. بينما كان والاس يؤمن بالتطور قبل رحلته. وجمع عيناته النادرة ليؤكد فرضه بمسألة التطور على عكس دارون الذي لم يتوصل لفكرته في التطور والانتخاب الطبيعي إلا بعد عودته من الرحلة. ويبدو أن والاس ودارون اكتشفا آلية التطور كل على حدة في نفس الوقت تقريباً.
اقرأ أيضًا: هل أثبت العلم وجود آدم وحواء بالفعل؟ |
إرنست هيكل (1834- 1919)
وهو عالم بيولوجي ألماني. وكان أول من قدم نظرية دارون في ألمانيا. كما قدم في مجال تطور الأنواع فكرة الأصل الحيواني للإنسان عام 1868. لكن مع ذلك يعد هيكل من أشهر المزيفين في تاريخ العلوم. حيث زيف رسوم للمراحل التي يمر بها الجنين من أجل تدعيم النظرية التي تقول بأن تلك المراحل تتشابه مع بعضها البعض في العديد من الطوائف في المملكة الحيوانية.
إذن لقد كان فكرة التطور موجود دائماً عبر التاريخ. وجميع النظريات التي طرحت فيها كانت نتيجة للرصد والملاحظات. وداروين لم يخترع التطور. لقد وجد فقط الطريقة المناسبة لشرحه عن طريق ربط جميع الخيوط معاً.
المراجع:
1. Author: Edson Perreira da Silva, (01/06/2004), A short history of evolutionary theory, www.scielo.br, Retrieved: 10/08/2021. |
2. Author: Steve Jones, (08/30/2019), A brief history of evolution, www.open.edu, Retrieved: 10/08/2021. |
3. Author: Francisco Jose Ayala, (01/26/1999), evolution, www.britannica.com, Retrieved: 10/08/2021. |