هناك الكثير من القصص القصيرة التي تعبر عن المعاناة والمآسي التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني. فلا يريد الفلسطينيون إلا أن يعيشوا في سلام على أراضيهم التي اغتصبها المحتل الغاشم. ولا أحد يريد الحرب على أرضه. ومن هذا المنطلق نقدم للقارىء قصة قصيرة عن معاناة الشعب الفلسطيني لتكون بمثابة صرخة ألم لعل العالم يسمعها.
الحلم
وقف على ضفة البحر يرنو إلى المدى البعيد. بينما يبحث عن شيئاً ما في الماء. ينظر إلى القمر الزاحف على الربوع الخضراء، ويتساءل متى الحرية؟… في تلك اللحظات تطرق إلى سمعه دبيب أقدام حشد من البشر يحملون نعشاً لأحد الأموات. اندس وسط الحشد يسأل عن الميت. توقف بجانب أحد الأشخاص ليسأله، لكنه لم يعره اهتماماً. مد يده ليُنبهه، لكن لا مجيب وكأنه شبحاً لا يُرى. ذهب لآخر فحدث معه مثلما حدث مع سابقه. استمر في محاولاته التي بائت جميعها بالفشل. أشاح ببصره إلى آخر الصفوف فرأى طفلاً صغيراً يلوّح له بذراعيه فذهب إليه متسائلاً: جنازة مَن هذه؟
أجابه الطفل: إنها جنازتك
تثبت مكانه. تسارعت دقات قلبه. تجمد الدم في العروق. خر على ركبتيه بعد أن سمع تلك الكلمات. عاد لينظر إلى الطفل فلم يجده لقد اختفى بكل بساطة. نهض وسار وراء النعش المحمول حتى وصل به الحشد إلى مكان اللحد وبدأت عمليه الحفر. بينما شرع زكريا يحفر مع الناس قبره، وما إن انتهوا حتى أخرجوا الجسد الميت وألقوه في الرغام. هنا شعر بأنفاسه تكاد تنقطع وتخفو شيئاً فشيئاً، وبدأت تخور قوته فشهق شهقة قوية أفاق على إثرها من سباته فوجد أن غطاءه الذي يلتحف به قد غطى وجهه.
أزاح الغطاء واعتدل في جلسته، ومد جميع أطرافه تكاسلاً. بينما الساعة تشير إلى الرابعة مساءً. قام سريعاً ليغتسل، لكنه تراجع عائداً إلى موضعه مرة أخرى مُحدثا نفسه: وماذا أفعل بالوقت؟
ثم تذكر: المقهى… نعم إنه المقهى ذلك المكان الأكثر امتاعاً في حياة شبه مشلولة.
اقرأ أيضًا: قصة قصيرة عن الحرب: لا تُـبـقــــي ولا تــذر |
الخروج
اغتسل ثم ارتدى ملابسه وهم بالخروج، لكن شيئاً ما قد أوقفه ثانية. جلس على مقعده الخشبي بعض الوقت يتفكر. ثم راح يسير ذهاباً وإياباً في غرفته الصغيرة المطلة على الحي الرئيسي. نظر من النافذة إلى الشارع المكتظ بالبشر. عاد ثانية إلى جلسته، وبعد مرور دقائق انتفض فجأة وقد يأس من تفكيره وقال بصوت جهير: ما فائدة حصولي على شهادة علمية وأنا لا عمل لدي سوى المكوث في المقهى يومياً. لقد طفح الكيل وأصبح الوضع لا يُحتمل.. لقد صار باطن الأرض لنا خير من ظاهرها.. من اليوم لن أقف مكتوف الأيدي، فالموت خيراً لي من سجن الموت هذا.
انطلق سريعاً ناحية خزانة الملابس المهترئة الخاصة به. بينما دفعها بقوة بكلتا يديه ظهرت على الحائط خلف الخزانة فتحة صغيرة. مد ذراعيه بداخل الفتحة وأخرج منها شيئاً دسه في جيبه، ثم التقط بعض الأموال كذلك، وخرج من المنزل.
سار في شوارع الحي يتفرس وجوه الناس حتى قادته قدماه إلى السوق التجاري. أمام أحد متاجر لعب الأطفال وقف مشدوها يراقب عن كثب طفل صغير لم يتجاوز العاشرة. إنه نفس الطفل الذي أتاه في حلمه منذ قليل. كان يحمل بيده صندوقاً من الحلوى المعدة للبيع، وكان الطفل يرمي بنظرة تملئها الحزن الممتزج بالتمني نحو المتجر، وخاصة نحو لُعبة أطفال معينة تُعرض في واجهة المتجر.
اقرأ أيضًا: خواطر عن النفس: رحلة داخلية يمكنها أن تغير حياتك إلى الأبد |
بندقية بلاستيكية
ظل الطفل واقفاً لفترة زمنية ليست بالقصيرة، وظل كذلك زكريا يراقبه في ذهول. لم تكن تلك هي المرة الأولى التي يشاهد فيها زكريا هذا الطفل البرىء، وهو يجلس على البعد من المتجر ينظر إلى لُعبته الجميلة. بينما اعتقد في قرارة نفسه أن ذلك الطفل لا يملك ثمن تلك اللعبة حتى يستطيع شراءها. كانت اللُعبة عبارة عن بندقية بلاستيكية يخرج منها شعاعاً من الليزر فتبدو كالبندقية الحقيقية.
رق قلب زكريا لذلك الطفل. دخل المتجر وابتاع له البندقية بما حمله معه من أموال، وعندما خرج لم يجد لذلك الطفل أي أثر يُذكر. تلفت حوله يميناً ويساراً وفي الشوارع الجانبية لكنه لم يعثر له على قرار. بدت عليه آثار الحزن والخيبة، لكنه تذكر أنه يراه كل يوم في نفس الموعد.
ذهب في طريقه إلى المقهى وجلس على مقعده في مكانه المفضل في أحد زواياه. بينما يتبعثر العمر بين حبات الدومينو وأعقاب السجائر في هذه المقاهي المركونة بملل. طلب من النادل قدحاً من القهوة. راح يرتشف القهوة، وهو مازال يفكر في ذلك الطفل تارة، ويتأمل وجوه الناس تارة أخرى حتى أتى رفاقه. جلسوا يتناوبون أطراف الحديث، لكن زكريا كان شارد الذهن في ذلك اليوم على غير عادته كما لاحظ رفاقه. بينما تساءل الرفاق في دهشة عن سبب شروده فأخبرهم بكل ما حدث معه في يومه بداية من الحلم حتى قصة الطفل واللُعبة.
اقرأ أيضًا: قصة واقعية مؤثرة عن الظلم: أجــــراس المــــوت |
الطفل واللعبة
وفي خضم الحديث ظهر من العدم ذلك الطفل يدنو من المقهى. يستعد لبيع ما تبقى معه من الحلوى. بينما انفرجت أسارير زكريا لدى مشاهدته الطفل، لوح له بذراعه أن يحضر، وما إن وصل إلى الطاولة وراح يُخرج الحلوى من الصندوق ليُعطيه إياها حتى سقطت من يده على الأرض حينما رأى اللعبة موضوعة على الطاولة.
قدم له زكريا البندقية قائلاً له بابتسامة: إنها لك.
أمسك بها الطفل وتأملها وهو يشعر ببهجة عظيمة، وبكل براءة الأطفال راح يقلبها ويتأملها في نشوة، لكن بعد لحظات أعادها مكانها على الطاولة قائلاً له: لا أقبل الشفقة من أحد. تعجب زكريا من قوله واستدرك: ومَن قال لك أنها شفقة، لقد إتقفنا أنا ورفقائي هؤلاء أن أول مَن يدخل من باب المقهى سيحصل على هذه الجائزة. إنه رهان، وكنت أنت أول الداخلين.
قال الطفل ببراءة: أصدقاً ما تقوله؟
– بكل تأكيد.
ذكريات من المعاناة
أخذ الطفل البندقية. عرض عليه زكريا الجلوس معه بعض الوقت فرضخ الطفل لرغبته. سأله عن إسمه فقال له يحيى. دار بينهما حوار طويل. أخبره فيه الطفل أن والديه قد استشهدوا في غارة من غارات العدو، وأنه يبيع الحلوى حتى يسد جوعه فليس له من أحد يرعاه سوى عمه الفقير المعدم الذي يقطن معه في نفس الحجرة. عندما سمع زكريا تلك القصة من الطفل عادت ذكرياته الأليمة الدفينة تطفو مرة أخرى، فتوجع فؤاده لمَا رأى التشابه الكبير بين قصتيهما.
أخرج يحيى لُعبته من غطائها ووضع بداخلها البطاريات الصغيرة. بينما بدأ يلهو بها فرحاً وتيهاً وهو يصوب شعاع الليزر ناحية الجالسين في المقهى ويضحك في براءة. لقد حصل أخيراً على لُعبته التي تمناها كثيراً.
قال له زكريا: قلت لي أنك تمنيت دوماً أن تحصل على هذه اللعبة بالذات، فهلا قلت لي لماذا؟
أجابه الطفل: لكي أقتل بها مَن قتلوا أبي وأمي.
رق قلب زكريا لحديثه واحتضنه في عطف، وراح يداعبه ويمزح معه لعله يخفف عنه مأساته.
اقرأ أيضًا: قصة واقعية من واقع الحياة اليومية: رتـابـــة الحيــــاة |
بقعة بائسة
مرت الساعات على رواد المقهى، وهم على هذا الوضع من المرح واللهو مع الطفل إلى أن قاربت الساعة على التاسعة مساءً. في تلك الساعة بدأت السحب الغائمة تكسو السماء إيذاناً بنزول الغيث، وأمسى هزيم الرعد يضرب بشدة وتساقط المطر الغزير على أرض تلك البقعة البائسة. كان الليل قد نشر ظلمته في ظل عواء السماء تزامناً مع انقطاع التيار الكهربائي على الحي بأكمله.
كانت الظلمة كالحة أفقدت الجميع الرؤية الواضحة. كان كل شىء ضبابي مشوش، بينما انتشرت الفوضى في كل مكان بعد سماع دوي إنفجارات بالقرب من المقهى. خرج الجميع مهرولين ليتسنى لهم رؤية ما يحدث بالخارج، وما هي إلا لحظات قليلة حتى بدأ القصف الجوي بالصواريخ يعم أنحاء متفرقة من الحي. امتزجت أصوات القنابل مع دوي الرعد في مشهد يتكرر كثيراً.
ركض يحيى مع الراكضين إلى الخارج لينظر ما يحدث، فإذا بهم يروا الدمار حولهم في كل مكان. بينما بعض المساكن أمست جبالاً من الأطلال ومدافن لأجساد سكانها. الغبار تخلل السماء، فزاد من ظلامها.
نظر زكريا بجانبه فلم يجد الطفل يحيى، فارتعدت أوصاله خوفاً عليه، وانطلق يبحث عن الطفل اليتيم حتى لا يتعرض للأذى. فتش عنه هنا وهناك وهو لا يكاد يُبصر في ظل العتمة الشديدة التي سيطرت على الأجواء. توقف للحظات حينما رنا إلى سمعه صرخات الألم والقهر تسحق مسامعه بعلوها، وتنهيدات الأمهات الثكلى تنفطر لها القلوب.
اقرأ أيضًا: قصة خيالية قصيرة: مَــن فــيـنــا المــيــت؟ |
البحث عن الطفل
سمع بجانبه شيخاً يبكي كالطفل على ولده الذي لا يستطع أن يجده، بينما يعتقد أنه قد مات تحت الأنقاض، وهناك أم تنوح وهي حاملة ابنتها الميتة على كتفها. كانت الأطفال تبكي بكاء البرىء والشيوخ تدمع في صمت.
عاد زكريا إلى المقهى. توفق على عتبته وهو ما فتىء يبحث عن يحيى وما إن وجده حتى إحتضنه بشدة. ثم أشاح ببصره لدى سماعه دبيب مكتوم، وأشباح سوداء تشق الطريق وهي تحمل الأسلحة النارية وتقتل كل مَن يقابلها من ذوي الأرواح المعذبة، حتى وقف قائد الكتيبة أمام الرجل العجوز الذي كان يبكي فقيده بعد أن سمع سبابه للجنود فداس على رقبته في مشهد من الذل والإهانة.
اقرأ أيضًا: قصة النبي زكريا: لا تُكلم الناس ثلاث ليال سوياً |
قتلوه كما لو كان أحد أنبيائهم
لم يتحمل زكريا هذا المشهد المهين فأخرج مسدسه الصغير الذي كان قد دسه في جيبه عند خروجه وراح يُمطر طلقاته في صدور الجنود المحتلين فقتل منهم أربعة، أما باقي الجنود فاخترقت رصاصاتهم صدر زكريا فخر على الأرض صريعاً. بينما استمر الجنود في طريقهم.
كان يحيى يشاهد في ذهول ما يحدث على الأرض، وما أن رأى زكريا قد سقط صريعاً حتى حمل بندقيته الليزر وركض وراء الجنود في بسالة وراح يصوب ناحيتهم شعاع الليزر الخارج من فوهة اللعبة، وفي تلك اللحظة التي شاهد فيها الجنود ذلك الشعاع مصوب ناحيتهم حتى أمطروا صاحبه بوابل من الرصاص بلا تردد. سقط الطفل شهيداً وهو يعانق لعبته بعد أن أحاط الموت الخلاء كله، وأغرقت الدماء الشوارع. أما اللعبة فمازالت صامدة بين يديه وقد اكتست بالغبار والدماء.
انطلق الشيخ الذي كان يبكي فقيده ناحية الطفل. جس نبضه فوجده قد فارق الحياة. بينما نظر إلى الحشد الذي تجمع حول الطفل وقال لهم والدموع تسيل من عينيه: قتلوه كما لو كان أحد أنبيائهم.
وإتجه بنظره ناحية ضوء يأتي من بعيد، فإذا بطفل صغير يحمل شمعة مضيئة يمشي الهوينا. لقد كان ولده لا يزال حياً. انتصب الشيخ واقفاً وركض نحو ابنه كي يحتضنه، لكن الأبن الصغير أزاح والده من طريقه وواصل مسيره حتى جسد الطفل يحيى. انحنى بجسده وإلتقط البندقية التي كان يعانقها يحيى ووضعها على كتفه.
نهاية القصة القصيرة عن معاناة الشعب الفلسطيني
بعد أن قدمنا هذه القصة القصيرة عن المعاناة التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني، لابد أن نشير إلا أن مثل هذه المواقف تعد غيض من فيض فالقصص الواقعية الحزينة التي تحدث على الأراضي الفلسطينية يومياً لا تعد ولا تحصى.