فلسفة

التوحيد والآلهة المتعددة بين ديفيد هيوم ومحي الدين بن عربي

لطالما شغلت فكرة التوحيد والآلهة المتعددة عقول الفلاسفة منذ فجر التاريخ. وقد أدلى كل منهم بدلوه في هذه القضية ولعل أكثر فلاسفة الغرب اهتمامًا بهذا الموضوع هو الفيلسوف ديفيد هيوم. إلا أن هناك أيضًا فلاسفة عرب قد تناولوا هذه الفكرة كذلك. ولعل أهمهم الفيلسوف الصوفي العربي محي الدين بن عربي. في هذا المقال نستعرض سويًا رؤية ديفيد هيوم ومحي الدين بن عربي حول التوحيد والآلهة المتعددة.

تعدد الآلهة عند ديفيد هيوم

يرى ديفيد هيوم أن فكرة الإله الواحد المتطورة من الديانات الوثنية متعددة اﻵلهة، نشأت من رؤية بعض العقلاء وتأمل النخب الذكية، لوجود قوة ذكية غير مرئية يخضع لها كل ما في الوجود. إلى أن هذه الفكرة المنطقية البسيطة تعود عند مستوى فهم العوام المنتمين لديانة الإله الواحد للانحدار، وتفقد نقائها الأصلي إلى ديانة تتعدد فيها اﻵلهة. حيث أن هذا الإله المسؤول عن كل شيء عند البسطاء يتعرض لكثير من اﻹطراء وأعلى درجات التقديس والصفات. بينما يعجبون ببلاغة من يصف هذا الإله ويتقدس الشخص ويصبح مقدساً وتصبح اﻷوصاف والتجليات وقائع وحقائق مادية وتدخل إرادات خيرة وشريرة إلى هذه الارادة القادرة لتساهم في تسيير الكون والإنسان. فما الملائكة والشياطين في ديانة الإله الواحد إلا اﻵلهة المسؤولة عن قوى الطبيعة والمؤتمرة من إله يعلو الجميع .

وبالتالي حسب هيوم ﻻ يعود البسطاء في ديانة الإله الواحد تستند إلى الفكرة المنطقية التي تعتمد على البرهان بوجود قوة ذكية واحدة غير مرئية. ولكن يخضع هذا الإله لمنظور عاداتهم وأمزجتهم وخرافاتهم وحاجاتهم. وهو انحدار إلى الديانات المتعددة اﻵلهة.

آلهة الطبيعة

يرى هيوم في كتابه التاريخ الطبيعي للدين أن:

“لطالما كانت أفكار الدين الأولى لم تنشأ من التأمل في أعمال الطبيعة. بل من الاهتمام بما يتعلق بأحداث الحياة ومن الآمال والمخاوف المتتالية التي تشغل عقل الإنسان. ووفقاً لذلك نجد أن لدى عبدة الأوثان الذين فصلوا دوائر آلهتهم ملاذاً إلى تلك القوى الخفية. والتي أخضعوا أنفسهم لسلطانها وإلى الدائرة التي تدبر ذلك المسار للأحداث التي يشاركون فيها في أي وقت فيستحضرون جونو في الزيجات، ولوسينا في الولادات، الخ.. فكل حدث طبيعي يجب أن يكون محكوما بقوة ذكية.”

ويذهب ديفيد هيوم أنه حتى في داخل الديانة الواحدة، فإن الأفراد والأنبياء والأبطال في الوعي الجمعي للعامة مع الزمن لا يختلفون عن آلهتهم مع الزمن. بينما يصبحون ويتحولون إلى أرباب. فيقول هيوم في ذلك:

“يفترض أن يكون معظم آلهة العالم القديم ذات زمن أناساً. ونظر إلى تأليههم أنه نتاج إعجاب الناس بهم وحبهم لهم والتاريخ الحقيقي لمغامراتهم الذي أفسدته التقاليد، ورفع بسبب سماته المدهشة غدا مصدراً وفيراً للخرافة. ولاسيما في مرورها عبر أيدي الشعراء والبلاغيين والرهبان الذين وضعوا تحسيناتهم واحداً بعد آخر على ما يثير إعجاب ودهشة عامة الناس الجاهلة. جاء الرسامون والنحاتون ليأخذوا نصيبهم من الربح في الأسرار المقدسة. بينما صقلوا الأفراد بتمثيلاتهم الحسية لآلهتهم التي ألبسوها أشكال الإنسان الأمر الذي زاد ولاء العامة لها وحدد هدفها”.

تعدد الآلهة عند محي الدين بن عربي

أما محي الدين بن عربي فقد اعتمد مصطلح (المرئي) أو المرئيات على الموجودات. والرائي هو الإنسان. بينما للمرئي وجودين وجود؛ كما يراه الرائي عن طريق الحواس وصورة الفكر ووجود للمرئي يستقل هو به.

ويقول الشيخ الأكبر بأنه:

“من قطع إياه رأى الأشياء على حقائقها من جهة ذواتها.”

أي من نظر إلى الشيء متخلياً عن أهوائه وأخيولاته؛ فسوف يرى حقيقة الشيء. ولهذا كانت درجة العوام عنده رؤية الواحد كثيراً /أي العودة لتعدد اﻵلهة عند هيوم/فيرون الأشياء والموضوعات حسب أفكارهم ونظرتهم وحاجاتهم وأمنياتهم ﻻ بحسب طبيعتها الحقيقية. بينما هناك آلهة المعتقدات حسب الشعوب. والإله المجعول حسب منظور العامة للفكرة الأصيلة للإله في الدين الواحد. بينما هناك من أسماء الله ((الرزاق)) ويطلبه بهذا الاسم للرزق. وهو المنتقم لمن أراد الانتقام. وهو العادل لم ظلم وأراد العدل.

أسماء وصفات

وهذا مفهوم العوام وهدفهم في الأسماء والصفات. وعندما تصبح الملائكة موكلة منة الإله الأعلى بأعمال إدارة الكون. ولعل ديفيد هيوم أراد بفكر العوام الذي وقف عنده الشيخ الأكبر بانحدار الديانة الواحدة إلى مفهوم تعدد الآلهة. بينما العامة تطلب آلهة المنافع والحوائج، وليس الإله الواحد في الفكرة الأصيلة للدين، إلا أن الشيخ الأكبر يميز هنا بين منظور العوام ومنظور الخواص. حيث أن الخواص هم الذين يرون الكل واحدًا، ويرون الأسماء والصفات نسبًا محدثة وهي غير الذات الإلهية فيقول الشيخ الأكبر فالعز والذل مثلاً :

إنما هو لنا بنسبة شيء إلى شيء إذ أن المتغاير كله للمحدث فإذا نسب إليه سبحانه أهل العز يسمى معزاً، وأهل الذل يسمى مذلاً. بينما إذا اعتبرت ذلك المعنى مع نسبته إلى الماضي من الأزمنة استعير له لفظ الأزلية وإلى الاستقبال استعير له لفظ الأبدية …فمن حيث هو تعالى مكمل لنا بالصفات صارت عندنا أسماء له وأما من حيث ذاته فهو لا تغاير بين ما تسميه له علماً وإرادة وقدرة.”

أي من رأى الواحد واحداً في كل الصور وقد نظم يقول :

لقد صارَ قلبي قابِلا كُلَّ صورةٍ/ فمرعًى لغزلانٍ وَديْرٌ لرُهبانِ
وبيتٌ لِأَوثانٍ وكعبةُ طائٍف /وألواحُ توراةٍ ومصحفُ قُرآنِ
أَدينُ بدينِ الحُبِّ أَنّى َتَوجَّهَتْ / ركائِبُهُ فالحُبُّ ديني وَإِيماني

التوحيد عند هيوم

رأى هيوم أن فكرة التوحيد عبر الأزمان تأتي بعد عملية إصلاح للأذكياء. بينما وبفعل الزمن والتراكمات تنحدر إلى عبادة الآلهة المتعددة باعتبار أن البشر حسب قوله:

“مهما كان ميل البشر قوياً للاعتقاد بقوة ذكية خفية في الطبيعة فإن ميلهم قوي بالمثل لتركيز انتباههم على أشياء حسية مرئية. وللتوفيق بين هذين الميلين المتعارضين يدفعون إلى توحيد القوة الخفية مع شيء مرئي ما.”

بينما يقول أيضاً:

“ما زال البشر يتقلبون بين هذه العواطف المتعارضة لايزال الضعف نفسه يجرهم إلى أسفل من إله روحي كلي القدرة إلى إله جسدي محدود. ومن إله جسدي ومحدود إلى تمثالا وتمثيل مرئي والمسعى نفسه إلى العلو لايزال يدفعهم إلى الأعلى من التمثال أو الصورة المادية إلى القوة غير المرئية ومن القوة غير المرئية إلى إله كامل لا محدود خالق الكون وسلطانه”.

التوحيد عند بن عربي

بينما ذهب ابن عربي أن علم العوام والخواص بالذات الواحدة وتعددها فهم محكومون بها كلا بحسب الملكة المعطاة له وجنسه وثقافته ومدى تحصيله وموقعه. حيث يقول في مثال من كتاب شجون المسجون وفنون المفتون:

“اعلم أن كشف الأولياء يمثل بالسراج في آحاد البيوت ليلا وكشف الأنبياء عليهم السلام بمنزلة نور الشمس العام على الموجودات نهاراً. بينما الناس بمنزلة الطيور المستعلي بعضها فوق بعض بحسب القوة المعطاة لكل واحد منها من حيث جنسه وخلقته. فشتان بين الناظر بالنور السفلي جزئياً وبين الناظر بالنور العلوي كلياً ((ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور)). بينما مرادنا بالجعل هاهنا يرجع إلى النور الخارج لا إلى نور البصر، لأن نور النار ها هنا من جعل البشر ونور الشمس من جعل خالق الشمس والقمر.”

لقد سارت الفكرة الدينية، من تعدد الآلهة إلى التوحيد، في دروب متعرجة بين تأملات النخبة وخيالات العامة، بين حكمة الفلاسفة وفطرة البسطاء. رأى ديفيد هيوم في هذا المسار انحدارًا من الفكرة العقلانية إلى ممارسات أسطورية، بينما فتح ابن عربي بابًا على العرفان، حيث تتجلّى الذات الإلهية في صور لا تحصى، لكن الجوهر واحد. فالتوحيد عنده ليس نفيًا للكثرة، بل هو رؤيتها في الواحد، واعتراف بأن الله يُرى بكل الأسماء والصور، لكنه ليس محدودًا بأيٍّ منها.

وهكذا، التقت الفلسفة بالحكمة الصوفية، وتقاطعت رؤية هيوم العقلانية مع إشراقات ابن عربي، وكأنّ كلاً منهما يقرأ النصّ الإلهي بلغته الخاصة، بين عين ترى التفاصيل، وعين ترى الكل في الكل.

المراجع:

  • التاريخ الطبيعي للدين.. ديفيد هيوم.
  • شجون المسجون وفنون المفتون للشيخ الأكبر (محي الدين بن عربي).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

دعمك يهمنا ❤️

نحن نعمل بجد لتقديم محتوى مجاني ومفيد لك. هل يمكننا الاعتماد على دعمك بتعطيل مانع الإعلانات؟ شكرًا مقدمًا!