النسيان: تأملات على ضفاف الذاكرة

تختبىء في زوايا الذاكرة ظلال النسيان، كأنها ربيعٌ يزهر في عتمة الحزن، أو غيمةٌ تمسح حرقة الشمس عن جفون الأيام. النسيان ليس عدوًّا دائمًا، بل هو أحيانًا هبة الطبيعة لنا كي نعيش. كيف لنا أن نتحمل وطأة الذكريات الثقيلة إن لم يكن للنسيان يدٌ تخفف عنّا؟ النسيان هو النهر الذي يغسل أرواحنا من أدران الماضي، وفي الوقت نفسه، هو اللص الذي يسرق لحظات سعادتنا، فتتبدد كالسراب. وبين هبةٍ وسرقة، نقف نتأمل: هل النسيان نعمة أم نقمة؟
السعادة والنسيان
يقول الفيلسوف الألماني ألبرت شفايتزر أن السعادة ليست أكثر من ذاكرة سيئة وصحة جيدة. لا أستطيع أن أشتكي من صحتي؛ لقد صمد الجسم أمام كل شيء تقريبًا حتى سن الأربعين، ولا يزال في حالة جيدة إلى حدٍ محتمل. ومن ناحية أخرى، فيما يتعلق بالذاكرة، لقد كانت دائمًا سيئة للغاية على ما أتذكر، لذا إذا كان ألبرت شفايتزر على حق، فيجب أن أكون سعيداً جداً، على الرغم من أنني أنسى ذلك كثيرًا.
لقد خدعتني ذاكرتي السيئة، وبدا لي أنها أفقرت حياتي، حيث تتلاشى الكثير من القراءات والدراسات والدورس، ولهذا السبب فأنا مجبر على إعادتها مرارًا وتكرارًا، وهذا أمر مزعج للغاية، بالإضافة إلى إنه مضيعة للجهد والوقت. أحسد أولئك الذين يحفظون اسم شخص ما عند لقائه للمرة الأولى، وأولئك الذين تكفيهم قراءة واحدة لتثبيت المفاهيم والتواريخ.
هناك أشخاص يبدون وكأنهم موسوعات متنقلة؛ لا تفوتهم التفاصيل، ولديهم دائمًا في متناول اليد تلك الكلمة التي لا نستطيع تذكرها، يكملون جملنا ويضعون رقعًا على فجواتنا. ومن الصعب الجدال معهم؛ فسحر البيانات يجعل حججهم تبدو أكثر إقناعًا. والأهم من ذلك أن الأرقام والأسماء تحمل شيئًا مهيبًا وجليلاً، وسلطة لا تقاوم تكاد تبدو أكثر واقعية من الواقع نفسه.
وإذا كان الأمر يتعلق بنزاع حول تجارب مشتركة — ما فعله أو لم يفعله كل طرف، وهو موقف نموذجي بين الأزواج — فإن التفوق يكون أكثر وضوحاً: لا يمكنك إقناع شخص يناقش بالتفصيل ما حدث، بينما نحن نحاول التذكر ونتلعثم. هذا على الرغم من أن نجاحهم يعتمد جزئيًا على قدرتهم على التلاعب بالصورة التي يقدمونها — التوازن بين ما يبدو أنهم يعرفونه وما يعرفونه فعلاً، وبين ما يظهرونه وما يخفونه، مثل السحرة — إلا أن هناك بلا شك من يتمتع بذاكرة استثنائية؛ ذاكرة مذهلة بشكل لا مزعج.
الوجه القبيح للنسيان
القلق يملأ العالم بالضجيج ويجعلنا مشتتين. كما إنه وفقًا لعلماء الأعصاب، يؤدي القلق إلى تآكل مناطق الدماغ المسؤولة عن الذاكرة، وخاصة اللوزة الدماغية والحُصين. لا أستطيع إلأ أن أتخيل الحصين الخاص لي مليئًا بالثقوب. عندما يُعرّفني أحد على شخص ما، نادراً ما أتذكر اسمه، وعندما أنجح أخيرًا، يتلاشى اسمه في ضباب المسافة. أكرر أغنية حتى أحفظها، ثم أكتشف أنني لم أعد أتذكر أغنية أخرى كنت أعرفها. الملاحظات حول الموضوع الذي أدرسه تبدو مألوفة بالنسبة لي، لكن لا تسألني عن الموضوع الذي درسته من قبل. لحفظ ثلاثة أبيات من الشعر، أحتاج إلى ثلاث ساعات.. أحيانًا أشعر أنني عندما أحفظ شيئًا ما، أفعل ذلك على حساب محو شيء آخر، كما كان يحدث مع أشرطة الكاسيت عندما كنا نسجل الأغاني من الراديو.. هل تتذكرون؟
هذا هو الوجه القبيح للنسيان، لكن لا ينبغي أن يمنعنا ذلك من تقدير وجهه اللطيف. النسيان خسارة، وهناك أشياء من الأفضل ألا نحتفظ بها، أشياء من الجيد أن تختفي، وتجرفها رياح الزمن. الذكريات غير السارة إذا لم تخدمنا كإشارة لتعلم شيء ما، لا تفعل سوى أن تشغل حيزًا وتكوّن القذارة، مثل الأشياء المهملة التي نكدسها في المخزن. لذلك، أحيانًا يكون النسيان في صالح الحياة، إذ ينظف ما يلوثها ويعرقلها، ويزيل ما يعكر صفاءها ونقائها.
ليس علينا أن نسعى إلى النسيان، فهو سيأتي من تلقاء نفسه. وفي المقابل، إذا حاولنا جاهدين أن ننسى، سنجعل النسيان مستحيلًا. “وكأن فن النسيان بين أيدينا… لا شيء يرسخ أمرًا في ذاكرتنا مثل الرغبة في نسيانه” كما أخبرنا مونتين. إن عقولنا مبرمجة للاحتفاظ بما يؤثر علينا أكثر من غيره، وخاصة الأشياء السيئة كالخوف، والغضب، والخجل، والنفور، هذه الأشياء السيئة تؤثر علينا أكثر من الأشياء الجيدة. الطريقة الأفضل لنسيان ما يزعجنا هي التقليل من شأنه وتركه يبهت في زوايا الذاكرة.
أوراق الماضي
أعلم أننا لا نستطيع سوى العيش في الحاضر، فهو وحده موطن الواقع بكل أفراحه وظلاله. لكن طرقات الحاضر مغطاة بأوراق الماضي المتساقطة. عقولنا سردية بطبيعتها، وهذا يجعلنا مخلوقات من الذاكرة. لذلك، حتى الماضي له قوانينه المتعلقة بالرغبة. هناك نسيان سيئ يفككنا، يسرق منا ما أحببناه، ويتركنا شفافين بتجريدنا من حنيننا. فما زلنا نريد الاستمتاع مجددًا ببيت طفولتنا، بقبلة الحب الأول، بلقطات حلم سعيد بعيد المنال، بالنزهات جنباً إلى جنب مع الصديق الذي فقدناه. حلوة هي تلك الذكريات الجميلة، ولكن لها طعم الفقد المر.
ولكن هناك أيضًا نسيان حلو، لن يجعل ماضينا أفضل، بل سيجعل القصة التي نرويها عنه أكثر انتعاشًا. وهذا بحد ذاته شيء قيم، لأن ما نريده هو أن نكون سعداء، وما نسعى إليه هو الفرح. شخص ما ألحق بي الكثير من الأذى: لن أتعاون معه بإحياء جراحه القديمة. كنت أنا من تسبب بالأذى: أستحق أيضًا الغفران. ارتكبت خطأً بالأمس: أتعلم منه، إن استطعت، ثم أتركه يمر.
النسيان العذب
علينا أن نكون إلى جانب النسيان العذب. علينا أن نقف إلى جانبه ونتركه يعمل في هدوء، ينحتنا ليطهرنا، مثل المطر. كان ألبرت شفايتزر على حق عندما قال أن هناك الكثير مما يجب نسيانه. علينا أن نتخلى عما تعلمناه بشكل خاطئ لنعطي أنفسنا الفرصة لتعلم ما هو صحيح. علينا أن نتخلى عن الألم الذي يمنعنا من العيش، بأن نعبر من خلال حزن الاعتراف بما لا يمكن تغييره. دعونا نتوقف عن البحث في سلة مهملات الماضي، وإذا كان لا بد أن نستحضر شيئًا، فليكن فقط ما يقف في صف الفرح والضحك.
وفي النهاية، يبقى النسيان لغزًا لا يُفسَّر، ورفيقًا لا يُستغنى عنه. هو الشاعر الذي يكتب أبيات الزمن بحبر باهت، والموسيقي الذي يعزف سيمفونية الحياة بخفوت. لولاه لما مضينا في حياتنا خطوةً واحدة، ولولاه لما افتقدنا شيئًا من جمالها. تأملاتنا فيه ليست إلا مرآةً لذواتنا، ترينا كم نحن هشّون أمام تياره، وكم نحن أقوياء في استدعاء ما يهرب منه. فلتكن تلك الثنائية لغتنا مع النسيان، لغةَ تصالحٍ بين ذكرى تُشرق وأخرى تغيب.
شكراً لك على هذا المقال الرائع، لكن في خاطري سؤال، او يمكنك كتابة مقالة منفصل عن الموضوع، ما هيي اسباب ضعف الذكرة، وكيف يمكننا تقويتها؟
تحياتي إليكِ يا عزيزتي، وشكرًا على إشادتك الرائعة بالمقال، أما بخصوص سؤالك عن أسباب صعف الذاكرة فهناك العديد من الأسباب النفسية والجسدية يمكننا تناولها في مقال منفصل في القريب العاجل، وإلى هذا الحين يمكنك الاطلاع على مقال الذاكرة البشرية لمزيد من المعلومات حول عمل الذاكرة من خلال هذا الرابط:
https://manthoor.com/definition-of-human-memory-its-types-and-how-it-works/