فلسفة

الضحك: لماذا نأخذ الحياة على محمل الجد؟

الضحك هو تلك الموسيقى العفوية التي تعزفها الأرواح على أوتار الحياة.. اللغة التي تتجاوز الحدود والجدران، وتضيء القلوب كما تضيء الشمس صفحة النهار.. الفراشة التي تحلق فوق ثقل الهموم، والنسيم الذي يبعث في الصدور حياةً جديدة. في ضحكة واحدة، قد تختبئ حكاية طويلة من الفرح، وربما دمعة خفية من الألم، لأن الضحك لا يكون دومًا انعكاسًا للسعادة، بل هو لغة الشعور في أعمق صوره. فما سرّ هذه القدرة الغامضة التي يملكها الضحك على شفاء النفوس وتلوين الأيام؟ وكيف استطاع أن يصبح عنوانًا للحياة التي لا تستحق أن تُعاش إلا بابتسامة؟

الجنون والعقلانية

عندما أتأمل بتمعن مسرحية حياتي التي تشبه دراما جميع الحيوات يُخيل لي أن الضحك ينتظر مختبئًا خلف الكواليس، كعفريت ماكر، ويكفي فقط إزاحة الستار لسماع قهقهاته؛ وكأن الضحك هو فرصة للوصول أعمق قليلاً إلى قلب الأشياء، حيث تتلاشى الحدود بين المعنى والعبث، وتتكشف المنطقية المزعومة لقناعاتنا بملابسها الرثة وهشاشتها المكشوفة. في تلك اللحظات، أتساءل: هل يمكن أن يكون الضحك أقرب إلى الحقيقة؟ ربما يكون فرصتنا الكبرى للحكمة، ينتظر منا أن نجرؤ على أن نصبح أكثر جنونًا، أي أكثر عقلانية. يُقال إن أبقراط استُدعي لعلاج الفيلسوف ديموقريطس من نوبة ضحك لا تتوقف، وقد شخّص الطبيب حالة الفيلسوف أنه ليس مجنونًا، بل رجلًا حكيمًا، لأنه كان يضحك على مدى غباء الإنسان..

أتحدث عن الضحك الرقيق، العذب، الرحيم، عن مثل تلك الابتسامة التي يُصوَّر بها بوذا متأملاً: قبول هادئ عالمي مصحوب بلمسة من الخبث اللطيف. ربما يكون التأمل هو محاولة للابتسام. لا يعنيني الضحك كأداة للهجوم، أو القهقهة الساخرة التي تهدف إلى الأذى أو الإهانة؛ عندما أفعلها، أشعر وكأني وغد. ولا تعجبني أيضًا ضحكة اللامبالاة تجاه معاناة البشر، الضحك الذي يحتقر ويتجاهل قائلاً: “ليتحملوا عواقب أفعالهم!” هذا النوع يجعلنا بائسين؛ فآلام العالم كبيرة وشريرة لدرجة أنه قد لا يمكننا دائمًا أن نضحك. ولكن ما أروع اللحظة التي نرى فيها شخصًا يتألم وهو يضحك! يا له من درس لنفوسنا المتذمرة الطفولية، العالقة في آلام خيالية سخيفة مقارنة بمعاناة الآخرين!

أليس هذا ما نبحث عنه؟

حس الفكاهة
فلسفة الضحك

شاهدت منذ أيام قليلة فيلمًا وثائقيًا عن حياة الناس في قرية صغيرة في التبت.. حياة قاسية يضطرون فيها لتحدي الطقس وندرة الطعام ويبذلون جهودًا شاقة للبقاء على قيد الحياة، ومع ذلك يحتفلون بمهرجاناتهم التقليدية المليئة بالفرح والحماس، ولا تفارق الابتسامة وجوههم، وبها يواجهون أيامهم الطويلة وسنواتهم المضطربة.. ابك عندما يحين الوقت، واضحك بقية الوقت: أليس هذا هو ما نبحث عنه؟

أتمنى أن أتمكن من الضحك أكثر عندما يجتاحني حزني المفاجيء أو تضايقني مشاكلي السخيفة. أتمكن من ذلك في بعض الأحيان، وأتساءل عما كنت سأصبح عليه دون حس الفكاهة. ربما بفضله تجاوزت العديد من حقول الألغام، وتفاديت الغرق في رمال متحركة. ربما لولا هذا الضحك لتحطمت سفينتي على بعض الشعاب المرجانية للجنون الحقيقي.. هذا ما حدث لهولدرلين بسبب انغماسه العميق في المشاعر، ولنيتشه بسبب تحليقه العالي بالعقل. لا أدّعي مقارنة نفسي بهؤلاء العباقرة إلا في إنسانيتنا المشتركة: كل شيء، حتى الفضيلة، يمكن أن يكون مفرطًا لدرجة أنه يمكن أن يجرنا معه إلى الهلاك. تمتلك الفكاهة القدرة على إنقاذنا من سحر أحلامنا وكوابيسنا، لتعيد أقدامنا إلى الأرض مرة أخرى..

نزوة هائلة أم مزجة ثقيلة..

الحياة مليئة بالعقد.. ثقيلة.. لزجة، وأن تعيش يعني أن تدفع شيئًا باستمرار إلى أعلى التل، مثل سيزيف مع صخرته. نحن ندور وندور في محاولاتنا العقيمة التافهة. حياتنا مرهقة من فرط تفاهتها، لأن كل تافه يُقدم لنا على أنه تحدي.. أن تعيش يعني أن تعمل كثيرًا، أن تتحمل كثيرًا، أن تُصر على أسنانك كثيرًا، وأن تؤمن أن كل هذا العناء يستحق. ذكرنا سارتر أننا أحرار، وهذه الحرية مهمة صعبة تتطلب منا دائمًا مواجهة شيء: الجاذبية التي تريد أن تُلقي بنا إلى الهاوية، الخوف الذي يذكرنا بضعفنا، ميلنا للاستسلام. يبدو أن الأشياء الجيدة تأتي دائمًا بصعوبة، بينما السيئة تأتي من تلقاء نفسها.. وفي أعماق كل ذلك يتجلى الكون كلغز كبير، ومعرفة أن كل شيء سيتبدد مثل الرماد في مهب الريح، وأن وجودنا سيتلاشى قريبًا مثل صدى يلتهمه الصمت..

ينصح الملاح سيدهارتا لتهدئة مخاوفه قائلًا له: “استمع إلى ضحك النهر”… يبدو العالم، حسب الزاوية التي تنظر منها، وكأنه نزوة هائلة، أو مزحة ثقيلة، لكنه أيضًا قصيدة. يضحك الكون لأنه كبير وعبثي، والفكاهة هي عبير ذلك العبث. تنقذنا الفكاهة لأنها تغرقنا في لحظات قليلة من الجنون، حيث يهدد العقل بسحقنا، ثم وبشكل خاطف نصبح أشبه بالوجود نفسه. ننصهر فيه كالحرباء، نسير على خطاه، وننسجم مع إيقاعه الجنوني، وربما لهذا السبب ننساه.. لا شيء له أهمية عميقة، ولا شيء جاد للغاية على مستوى الكون: فلماذا يجب أن تكون مخاوفنا، خساراتنا، آلامنا، التي تبدو تافهة، بهذا القدر من الجدية؟

الضحكة الأخيرة

فلسفة الضحك
المشهد الأخير من فيلم حياة برايان

يقول المصلوبون الآخرون لبرايان في النهاية الرائعة لفيلم Life of Brian:

 

الحياة ضحكة والموت طرفة.. سترى أنها مجرد عرض.. دعهم يضحكون وأنت تموت، وتذكر فقط أن الضحكة الأخيرة لك..

 

إنهم يدعونه إلى القيام بالشيء الوحيد – وهو ليس بالأمر البسيط إذا تحقق! – الذي يمكنه فعله في مواجهة الموت: أن يضحك في وجهه. الإنسان هو ذلك الكائن الذي يستطيع أن يضحك رغم كل شيء، الكائن الذي يملك دائمًا خيار الضحك. إن الضحكة الأخيرة هي حريتنا الأخيرة. ربما قد يخبرنا سارتر، رغم جديته الصارمة، أننا ما زلنا نستطيع الاختيار. يتخيل كامو سيزيف مبتسمًا وهو يرى الصخرة، التي رفعها بكل عرقه، تعود لتسقط بلا هوادة على المنحدر مرة أخرى. يتحول ما هو مؤلم يتحول إلى سخيف عندما نقرر أن نضحك.. وعد أبيقور أيضًا بأن يودع العالم بضحكة، وأكد أنه سيبصق على جميع السجانين الذين يسعون إلى إخضاع الإنسان..

تبدو خفّتنا ثقيلة فقط لأننا ما زلنا نحلم بأن نكون ذوي أهمية. ومن منظور الكون، نحن مجرد حادثة متناهية الصغر لا تكاد تُذكر، حكة عابرة في جسد الكون اللامتناهي. فلماذا لا يكون الكون على حق، وهو الأضخم والأقدم؟ لماذا لا نضحك معه على أنفسنا؟ هذه الضحكة لا تمنحنا راحة هائلة فقط، بل تؤكد لنا أيضًا أننا كائنات حرة. إنها في الوقت ذاته استسلام وإعلان نهائي للكرامة. لا يتعلق الأمر بالبطولات، لأن البطولات تعني الخوض في بؤس تفاهتنا، بل على العكس تمامًا، يتعلق الأمر بإقرار تفاهتنا، ولكن دون خجل، بالنظر إليها وجهًا لوجه. يحمل الضحك في طياته نوعًا من الانتقام: أنا لا شيء، لكنك مجرد لا شيء أكبر… سأختفي، لكن وجودي لم يكن أقل وضوحًا من وجودك..

الضحك سر البقاء

الضحك
مشهد الرقص في فيلم زوربا اليوناني

الضحك هو الشيء الأكثر إلحاحًا، هو الشيء الأكثر جدية. هذه المواقف الصارمة والجادة تضعنا في حالة توتر مع المحتوم الذي ينتصر دائمًا. إذا كان لا بد له أن ينتصر، فلننتصر عليه باستسلامنا مع ضحكتنا. يخفف الضحك أثقالنا، لأنه يسلمها للجاذبية. علينا أن نتخلى عن كل شيء على طول الطريق، وننظف حقيبة أعبائنا. يعيدنا الضحك إلى مكاننا الصحيح، وفي الوقت نفسه يعيد ترتيب كل شيء آخر. الحياة مأساوية وهذا يعني أيضًا أنها كوميدية، لذا فإن الفكاهة تحل هذا التناقض..

هل رأيت زوربا اليوناني؟ الحماقة تؤذي بشكل أقل عندما تصاحبها ضحكة صاخبة. يقترح أوج ماندينو قائلاً:

سأضحك على نفسي، لأن الإنسان يكون الأكثر هزلية عندما يأخذ نفسه على محمل الجد..

يقولون إن ديمقريطس العجوز لم يكن يستطيع كتم ضحكته عندما تأمل في الطبيعة الدرامية للإنسان…

ينبغي على من قضى وقتًا طويلًا في صحبة نفسه أن يكون قد تعلم أن يحتفظ من وقت لآخر ببعض الضحك لنفسه؛ فنحن عادةً لا تنقصنا الأسباب، والضحك المتساهل يخفف من وطأة المرارة ويغمرنا بعطف يفتح لنا أبواب المحبة. يقول رومان رولان:

كلما زاد جنوننا، زاد ضحكنا؛ وكلما ضحكنا أكثر، أصبحنا أكثر عقلانية..

عندما نضحك، نستعيد المقياس الحقيقي للأشياء، الذي لا يكون مأساويًا كما نميل إلى افتراضه بتلذذ مبالغ فيه، ونستعيد ذلك الشعور بأن “حالتنا يائسة، لكنها ليست خطيرة”..

والأهم من ذلك أن نتقبل حجم جهلنا، ونعالج أنفسنا من داء الغرور الغبي والمزيف؛ وننقذ أنفسنا من طغيان الأنا بأوهامها الغريبة عن الكمال. وهذا هو ما يجلب لنا راحة كبيرة، وكما يقول برتراند راسل:

ما نقوم به ليس بهذه الأهمية التي نميل إلى افتراضها؛ نجاحاتنا وإخفاقاتنا، في النهاية، ليست ذات أهمية كبرى… فالأنا لدى الشخص هي جزء صغير وغير مهم من العالم..

إن حس الفكاهة يعرفنا برفق مقياسنا، ويحررنا من غرورنا، ويغلف ضعفنا برداء من الرقة..

الضحك والسخرية

نحن نتحدث عن الضحك اللطيف، وليس السخرية القاسية التي يمارسها طغاة الداخل الذين يناودون بالذنب والعار، ويستغلون كل فرصة لإذلالنا. إنه لأمر مؤسف، بل ومحزن بعمق، أن نشاهد كيف يسخر شخص من نفسه بمرارة؟! من يملك شيئًا من النزاهة، حتى وإن كان خاليًا من الحب، سيشعر بعدم الارتياح أمام هذا المشهد المشوه. إن التفكير في الحماقة أمر محرج في حد ذاته، لأنه يذكرنا بأسوأ ما في أنفسنا. هناك من يخفف هذا الانزعاج بأن ينضم إلى ضحكات الآخرين بضحكات أكثر شراسة. إن لم نمنح أنفسنا حدًا من الاحترام والحنان، فإننا ندعو الآخرين إلى فعل الشيء ذاته..

يبحث القساة والحمقى دائمًا عن ضحايا لتوجيه أصابع الاتهام إليهم. إنهم مثل الجوارح، كائنات تتغذى على ضعف الآخرين، حيث يجدون في ذلك وهمًا بالتفوق، مما يخفف من نقص احترامهم لأنفسهم. من الخطأ أن نقدم لهم هذا الغذاء؛ في الواقع، يجب علينا تجنبهم كأعداء خطيرين، أو على الأقل، ألا نترك سخرياتهم السامة دون رد من طرفنا. ربما نتمكن من التخلص منهم، وإن لم نفعل، فعلى الأقل سنسدي لهم معروفًا: من الواضح أنهم يستنجدون بصرخة خافتة لتذكيرهم بضعفهم الخاص..

ربما من الأفضل، إذا أردنا أن نضحك على أنفسنا، أن نفعل ذلك في خصوصية تامة. وإن كان لا بد، فبصحبة صديق محب يكبح أي قسوة نميل إليها تجاه أنفسنا. الضحك، ككل شيء، يستحق الاحترام فقط إذا حافظ على كرامة الإنسان. حتى الحمقى يستحقون الحياة..

في الضحك يكمن سر البقاء، وقوة التجاوز، وحلاوة اللحظات التي تجعل للحياة معنى أعمق. إنه التوقيع الذي نضعه على صفحات يومياتنا لنقول للعالم إننا هنا، نعيش رغم كل شيء. وبين ضحكة خافتة تسكنها الطمأنينة، وضحكة عالية تملأ الأرجاء بالفرح، تتجلى إنسانيتنا بأبسط وأجمل صورها. فالضحك ليس مجرد فعلٍ لحظيّ، بل هو طاقة متجددة تمنحنا الأمل وتجعلنا نرى العالم بعينٍ أقل قسوة. فلنضحك، ليس فقط لأن الحياة تحتاج ذلك، بل لأننا نحن من يحتاجه لنعبر طريق الحياة بخفة وجمال.

وائل الشيمي

كاتب وأديب بدأ مسيرته الأكاديمية في مجال الصحافة، حيث حصل على بكالريوس في هذا المجال، وقاده شغفه بالإنسانية إلى دراسة علم النفس والفلسفة، وقد ساعدته دراسته وقراءاته في فهم أبعاد الشخصية البشرية وتعقيداتها. في روايته "الأجنحة السوداء" صور قضايا الوجود والتحديات النفسية التي يواجهها الإنسان في رحلة بحثه عن الإله، في سياق سردي مشوق يحمل في طياته تأملات فلسفية حول الحياة والموت، الحرية والقيود. كما أطلق في مجموعته القصصية "علامات لا تُمحى" مجموعة من القصص التي تتناول الجوانب المظلمة من التجربة البشرية، تاركاً آثارًا لا تُمحى في ذهن القارئ. إلى جانب أعماله الروائية والقصصية، ساهم الكاتب بالعديد من المقالات النقدية والحوارات الفكرية في الصحف والمجلات والمواقع الإعلامية، حيث شكلت كتاباته مساحة للتفكير والتحليل حول قضايا ثقافية واجتماعية معاصرة.

‫2 تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

دعمك يهمنا ❤️

نحن نعمل بجد لتقديم محتوى مجاني ومفيد لك. هل يمكننا الاعتماد على دعمك بتعطيل مانع الإعلانات؟ شكرًا مقدمًا!