خلاصة فلسفة كانط: الإنسان الحر هو من يملك إرادة
إيمانويل كانط هو رائد حركة التنوير الأوروبية الذي كرس نفسه للفلسفة من جميع جوانبها: تعلمها وحللها وانتقدها وكتبها ونشرها، بعد أن أدرك أن الفلسفة تشمل العلاقة بين جميع الأحداث والغايات الأساسية التي يتجه إليها العقل البشري. شغل كانط منصب أستاذ الفلسفة في جامعة كونجيسبرج، واشتهر بجانب فلسفته بمحاضراته وأسلوبة التعليمي المتميز، وإن كان عرف أيضاً بصعوبة قراءته وفهمه. في المقال التالي نحاول تبسيط فلسفة كانط من أجل التعرف على أفكار هذا الفيلسوف الرائع.
لمحات من حياته
ولد إيمانويل كانط عام 1742 في مدينة كونجيسبرج في بروسيا الشرقية بألمانيا لأسرة شديدة التقوى والتدين، ولقد أثرت هذه النشأة الدينية في تشكيل فلسفته بعد ذلك، حين كان يرى أن من الضروري حماية دعائم العقيدة المسيحية. كان الفيلسوف الألماني هو أول فيلسوف في التاريخ يقوم بتدريس الفلسفة في الجامعة، أي إنه اتخذ من الفلسفة مهنة له. ولم يكن كانط خبيراً في تاريخ الفلسفة فحسب، بل قدم فلسفته الخاصة كذلك وحاول أن يقدم إجابات على العديد من الأسئلة الفلسفية وذلك بعد أن تعرف على تراث أسلافه السابقين.
تكمن أهمية فلسفته في قدرته على الربط بين الإرادة والمعرفة والأخلاق. ويعد الجسر الذي ربط بين العقلانية والمثالية الأخلاقية. ومن الممكن القول بأنه تمكن في فلسفته من الجمع بين توجه رينيه ديكارت العقلاني وأخلاقيات باروخ سبينوزا والمدرسة التجريبية الإنجليزية المتمثلة في لوك وهيوم وبيركلي.
كان كانط غزير وعميق في انتاجه الفلسفي وعلى الرغم من ذلك لم يحظ بشهرة واسعة في بادىء الأمر ربما لصعوبة أسلوبه أو صعوبة فهم ما أراد أن ينقله، لكن العالم بدأ ينتبه إليه وإلى أهمية فلسفته بعد أن صدرت كتبه الهامة التي تناول فيها نقد المنطق والفلسفة الأخلاقية حتى وإن ظلت هذه الكتب صعبة على الكثير من القراء.
أثرت فلسفة كانط في عدد كبير من الفلاسفة والشعراء من أمثال جوته وشيلر، وقد كان الفيلسوف الألماني شوبنهاور أكثر من تأثر به. ومن أشهر عبارات كانط كانت تلك العبارة التي حفرت على قبره: “يعجز أي عقل ألا يتحير من أمرين: نجوم السماء وأخلاقيات الإنسان”.
فلسفة كانط
من الضروري لفهم فلسفة كانط بشكل أكثر وضوحاً أن تكون على دراية بالقضايا التي كان يتعامل معها وغيره من المفكرين في عصره. فمنذ قديم الزمن كانت معتقدات الناس وممارستهم الأخلاقية تعتمد على الدين في المقام الأول. ومن الدين استقى الناس قواعدهم الأخلاقية التي تستند على فكرة الثواب والعقاب في الآخرة.
مع وصول الثورة العلمية في عصر التنوير خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر ظهرت العديد من الحركات الثقافية والفكرية التي تحدت سلطة المذاهب الدينية. هذه الطريقة الجديدة في التفكير خلقت مشكلة للفلاسفة الأخلاقيين، فإذا لم يكن الدين هو الأساس الذي يعطي المعتقدات الأخلاقية صحتها، فما هو الأساس الآخر الذي يمكن أن يكون؟ فإذا لم يكن هناك إله فلا يوجد ضمان للعدالة الكونية التي تضمن مكافأة الأخيار ومعاقبة الأشرار – فلماذا يجب على أي شخص أن يكلف نفسه عناء محاولة أن يكون صالحاً؟
بدأ إيمانويل كانط في التعرف على العالم بفضل اهتمامه بالفيزياء، ولقد كان شديد الإعجاب العالم الإنجليزي إسحاق نيوين. غاص كانط في بحار الفلسفة. لكن ما هي الفلسفة بالنسبة له؟ لقد كانت بالنسبة له كل شيء فهي تشمل جميع الأحداث والأغراض التي يتجه إليها العقل الإنساني. وبهذه الطريقة قسم الفلسفة إلى ثلاثة أسئلة تتمثل فيما يلي:
- ماذا الذي استطيع معرفته عن العالم؟ تحدد الفلسفة الحدود والمبادئ التي تجعل من الممكن الحصول على معرفة بكل ما هو موجود من الكائنات المادية والطبيعة.
- ماذا عليً أن أفعل؟ تحدد الفلسفة مبادئ أفعال الإنسان وشروط حريته.
- ماذا يمكنني أن أتوقع؟ تحدد الفلسفة مصير الإنسان وتقيم الشروط والإمكانيات التي تحققه.
لكل سؤال من هذه الأسئلة الثلاثة كرس كانط أحد أعماله الرئيسية. الأول كان “نقد العقل الخالص” والثاني “نقد العقل العملي” والثالث “نقد ملكة الحكم”. وللإجابة على هذه الأسئلة بذل حياته بأكملها.
اقرأ أيضًا: فلسفة هيراقليطس: كل الأشياء في تغير مستمر |
العقل والإدراك الحسي
كان العقلانيون يعتقدون بأن العقل هو أساس كل المعارف الإنسانية، في حين كان التجريبيين يعتقدون أن الحواس هي مصدر معرفتنا بالعالم، كما أوضح هيوم أن هناك حدود واضحة للاستنتاجات التي يمكننا استخلاصها من انطباعاتنا الحسية. حاول إيمانويل كانط التوفيق بين هذين الرؤيتين المتعارضتين ورأى أن هناك قدراً من الصواب في كل رؤية منهما. فالموضوع الأساسي الذي يشغل الطرفان هو ما الذي نستطيع أن نعرفه عن العالم؟ هذا السؤال الذي يبدو في ظاهره بسيط هو السؤال المحوري الذي حاول جميع الفلاسفة منذ ديكارت الإجابة عليه. وكان هناك احتمالان هما: أما أن يكون العالم هو بالضبط كما ندركه بحواسنا، وإما أن يكون ما تتصوره عقولنا. بينما أشار كانط إلى أن الادراك الحسي والعقل كلاهما مسؤول عن تكوين مفهومنا للعالم. بمعنى أن عقل الإنسان ينطوي على شروط معينة تسهم في تكوين مفهومنا عن العالم.
لتبسيط المسألة دعونا نستحضر مثالاً صغيراً: تخيل أنك ترى العالم أمامك كما هو بكل ما يحتويه من ألوان خضراء وحمراء وزرقاء وغيرها. ثم جرب رؤيته بعد أن ترتدي نظارة حمراء على سبيل المثال، حينها سترى كل ما يحيط بك وقد تلون باللون الأحمر. إن كل شيء حولك كما هو بالضبط ولكن جميع الألوان أصبحت بنفس لون النظارة، لأن هذه النظارة التي تضعها على عينيك هي التي حددت طريقة رؤيتك للعالم. إن كل شيء تراه هو جزء من العالم المحيط بك، أما كيف تراه فهذا الأمر تحدده النظارة التي تضعها على عينيك.
الحدس
إن كل ما يوجد حولنا سنظل ندركه بوصفه ظاهرة موجودة في زمان معين ومكان معين. وقد أطلق كانط على الزمان والمكان اسم الحدس (التصور). وأكد على أن هذا الحدس موجود في أذهننا قبل أي تجربة. بمعنى أوضح إننا نعرف – قبل أن نضع أي نظارة – أن كل الظواهر المحيطة بنا موجودة في الزمان والمكان، لأننا لا نستطيع أن نخلع نظارة العقل. إذن فإدراك الأشياء في العالم مسألة فطرية. وإدراك الزمان والمكان لا يوجد خارج أنفسنا. وهكذا يعد الزمان والمكان مجرد نمطين خاصين بالإنسان وليسا من صفات العالم المادي. فحينما وضعت النظارة ورأيت أن العالم لونه أحمر، فهذا لا يسمح لك بأن تؤكد أن العالم أحمر اللون بالفعل.
إن ذهن الإنسان ليس مجرد صفحة بيضاء تتلقى سلبياً ما يدون فوقها من انطباعات تنقلها الحواس عن العالم الخارجي، بل يمكن تشبه ذهن الإنسان بالماء الذي يأخذ شكل الكوب الذي يُصب فيه. ومن هنا نتأكد أن انطباعاتنا الحسية تتكيف مع شكلي الحدس في الذهن: الزمان والمكان.
اقرأ أيضًا: فلاسفة الطبيعة: من أين تأتي كل الأشياء في العالم؟ |
قانون السببية
أكد إيمانويل كانط على أن قانون السببية (علاقة السبب بالنتيجة) يشكل جزءاً من ذهن الإنسان. ولقد زعم هيوم أن قوة العادة هي ما تجعلنا نرى علاقة سببية وراء كل العمليات الطبيعية. حيث كان يرى أننا لا نستطع الإدراك بحواسنا أن كرة البلياردو السوداء هي سبب حركة الكرة البيضاء. ولذلك لا نستطيع أن نثبت أن الكرة السوداء ستؤدي دائماً إلى تحريك الكرة البيضاء إذا اصطدمت بها. لكن ما لا نستطيع أن نثبته في رأي هيوم قد جعل منه كانط إحدى صفات العقل الإنساني. إن قانون السببية قانون أبدي ومطلق لأن العقل الإنساني يدرك ببساطة كل شيء يحدث بوصفه علاقة سبب بنتيجة.
تشير فلسفة كانط إلى أن قانون السببية كامن في عقولنا وليس في العالم المادي. إذن يتفق مع هيوم في أننا لا نستطيع أن نعرف بشكل مؤكد ما هو العالم “في ذاته” فنحن لا نستطيع أن نعرف إلا العالم “بالنسبة لي” أو “بالنسبة لسائر البشر”. لذا يمكن اعتبار أن أعظم إسهامات كانط في الفلسفة هي التفرقة التي وضعها بين “الأشياء في ذاتها” و “الأشياء كما تبدو لنا”. فنحن لا نستطع معرفة الأشياء في ذاتها وكل ما نستطيع معرفته هو الأشياء كما تبدو لنا.
مثال توضيحي
ولتبسيط المسألة نستحضر مثالاً أخر: دعونا نتخيل قطة مسلتقية في فناء المنزل، ثم إذا بها ترى كرة تتدحرج آتية من إحدى الغرف. إن كل ما ستفعله القطة هو الركض وراء الكرة. لكن تخيل أنك جالس في نفس الفناء ورأيت هذه الكرة، فهل ستجري وراءها أم ستلتفت لترى من أين جاءت هذه الكرة. بكل تأكيد ستبحث في السبب وراء جريان الكرة، لأنك كائن إنساني، ولذلك ستفتش عن سبب كل حدث لأن قانون السببية جزء من تكوينك. هل يبدو الأمر بسيطاً؟! إذا كان كذلك فدعونا نتعمق أكثر.
إن ما فعلته مع الكرة هل تتخيل أن يفعله طفل صغير؟ فهل سيبحث الطفل عن سبب دحرجة الكرة أم سيجري وراءها. ربما يكون رد فعل الطفل الصغير تجاه هذه الحادثة مثل رد فعل القطة. ويشير كانط إلى أن عقل الطفل الصغير لم يتطور بالكامل لتتكون لديه ادراكات حسية يمكنه معالجتها وتنظيمها. إذن لا معنى للحديث عن ذهن فارغ.
وجود الله عند كانط
تناول جميع الفلاسفة فيما سبق المسائل الفلسفية الكبرى مثل ما إذا كان روح الإنسان خالدة، وهل الله موجود؟ وما إذا كانت الطبيعة تتكون من جسيمات غير قابلة للانقسام بعد حد معين. وما إذا كان الكون محدود أو غير محدود. وكان كانط يعتقد أن الإنسان لا يستطيع أن يصل إلى معرفة يقينية عن هذه الأسئلة. وهذا لا يعني أنه لم يتحدث عن هذه الأمور.
كان إيمانويل كانط يعتقد أن العقل الإنساني يعمل خارج حدود ما يستطيع الإنسان معرفته. ولكن في الوقت نفسه توجد في طبيعتنا الإنسانية رغبة ملحة في طرح هذا النوع من الأسئلة. غير أننا عندما نتساءل مثلاً عما إذا كان الكون محدود أم لا فإننا نتساءل عن واقع لا نكون سوى جزء ضئيل جداً منه، لذا لن نستطيع أن نعرف أبداً هذا الواقع معرفة كاملة.
إن معرفتنا بالعالم تأتينا عن طريقان هما الإدراك الحسي والعقل. فكل ما نعرفة يأتينا عن طريق الحواس. ويجب أن تتكيف هذه المعرفة مع صفات العقل الذي يبحث عن السبب وراء كل حدث. ولكن عندما نتساءل من أين جاء العالم فإن هذا العقل يدور في فراغ. لأن العقل لا يملك عن هذه الأسئلة مادة مدركة بالحواس يمكن معالجتها. ولا تتوافر لديه تجربة حسية لأننا لم نجرب لا من حيث الزمان ولا المكان الواقع الكبير الذي نشكل جزءاً منه.
ومن هنا يمكننا القول بأن العالم لابد له بداية في الزمان. كما يمكننا أن نقول كذلك إنه موجود منذ الأزل دون بداية. إن العقل لا يمكنه الفصل في هذين الاحتمالين. يمكننا أن نتبنى الاحتمال الأول لكن هل يمكن لشيء أن يوجد دوماً بلا بداية؟ كما يمكننا تبني الاحتمال الثاني لكن هل يمكن لشيء أن يوجد من العدم؟ إذن كل احتمال منهما لا يمكن تصوره ومع ذلك فإن أحدهما صحيح والآخر خطأ. لكننا لن نعرف أبداً.
اقرأ أيضًا: فلسفة ديموقريطس وابتكار نظرية الذرة |
الميتافيزيقا عند كانط
فحص إيمانويل كانط وانتقد الحجج التقليدية التي تحاول إثبات وجود الله في نقد العقل الخالص. ففي ذلك الكتاب نفسه، كشف عن استحالة الميتافيزيقيا أن تثبت وجود الله أو نفيه ويشمل الأمر كذلك خلود الروح. ولا يمكن معرفة كلا المفهومين من خلال العقل النظري. لكنهما مفروضان على العقل العملي كمسلمات. أي كشيء غير قابل للإثبات، ولكنهما ضروريان للأخلاق.
تشير فلسفة كانط إلى أن الفشل سيكون حليفنا دوماً إذا حاولنا إثبات وجود الله عن طريق العقل. فلقد حاول العقلانيون أن يثبتوا وجود الله بمجرد وجود هذه الفكرة في أذهاننا. كما حاول أخرون إثبات أن الله موجود كعلة أولى كما فعل أرسطو والقديس توما الأكويني. ومع ذلك رفض كانط هذه البراهين لأنها لا تستند على أساس قوي. فلا العقل ولا التجربة توفر هذا الأساس الذي يمكن الاستناد عليه في إثبات وجود الإله من عدمه. وكلا الاحتمالين يتساويان في نظر العقل. وطالما يعجز العقل وكذلك التجربة عن تقديم إجابات على هذه الأسئلة ينشأ فراغاً لا يملؤه سوى الإيمان.
لقد أكدت حركة الإصلاح الديني على الإيمان بينما رأت الكنيسة الكاثوليكية منذ العصور الوسطى أن العقل هو الركيزة الأساسية للإيمان. إلا أن إيمانويل كانط لم يكتف بمجرد الزعم بأن هذه الأسئلة الكبرى ينبغي تركها لإيمان الفرد. لقد كان يعتقد أن من الجوهري للأخلاق الإنسانية افتراض أن للإنسان روحاً خالدة وأن الله موجود وأن للإنسان إرادة حرة. وقد أطلق على هؤلاء الثلاثة اسم المسلمات العملية. والمسلمة هي فكرة نأخذها على علاتها دون برهان. والمقصود في رأي كانط بالمسلمة العملية مبدأ يتصل بالسلوك العملي ويعتبر ضرورة أولية يقتضيها قيام الأخلاق الإنسانية. ومن هذا المنطلق يعتقد كانط أن افتراض وجود الله ضرورة أخلاقية.
الأخلاق عند كانط
إن تفكير هيوم فيما يدلنا عليه العقل والحواس أجبر كانط على أن يفكر من جديد في كثير من أسئلة الحياة الهامة وفي مقدمتها مسألة الأخلاق. لقد قال هيوم إننا لا نستطيع أن نثبت ابداً ما هو صحيح وما هو خاطئ؟ ويرى أن ما يحدد الفرق بين الحق والباطل أو الصواب والخطأ لا عقلنا ولا تجاربنا بل مشاعرنا. غير أن كانط رأى أن هذا أساس ضعيف واهن يصعب الاستناد إليه. ورأى أن الفرق بين الحق والباطل أو الصواب والخطأ مسألة تتعلق بالعقل لا بالمشاعر. وهو يتفق في هذا مع العقلانيين الذي قالوا إن القدرة على تمييز الحق من الباطل كامنة في العقل الإنساني. إن الجميع يعرفون ما هو حق وما هو باطل، ليس لأننا تعلمناه ولكن لأن هذا التمييز كامن في العقل كملكة فطرية.
يرى إيمانويل كانط أن كل إنسان يتمتع بعقل عملي. أي بذكاء يتيح له القدرة على تمييز الصواب من الخطأ في كل حالة. إن القدرة على تمييز الحق من الباطل او الصواب من الخطأ قدرة فطرية مثل كل الصفات الأخرى للعقل. فكما أننا جميعاً كائنات تتمتع بنفس العقل ونستطيع بالتالي أن نتصور مثلاً وجود علاقة سببية بين الأشياء فإننا نستطيع جميعاً أن نتبين نفس القانون الأخلاقي العام. وهذا القانون الأخلاقي يتمتع بصلاحية مطلقة شأنه شأن القوانين الطبيعية. وأهمية القانون الأخلاقي بالنسبة لحياتنا الأخلاقية لا تقل عن أهمية قانون السببية بالنسبة لعقلنا وفهمنا.
اقرأ أيضًا: أفلوطين: كيف أثرت نظرية الفيض الإلهي على الديانات التوحيدية؟ |
القانون الأخلاقي
لما كان هذا القانون يسبق أي تجربة فهو يسمى قانوناً صورياً أي غير مرتبط بأي حالة معينة أو اختيار أخلاقي محدد. إنه ينطبق على الناس كافة في كل المجتمعات وجميع العصور. وبالتالي فإنه لا يقول لك ما يجب أن تفعله أو لا تفعله إن وجدت نفسك في حالة بعينها، بل يقول لك كيف يجب أن تسلك في جميع الحالات.
تصوغ فلسفة كانط القانون الأخلاقي بوصفه أمراً مطلقاً. وهو يقصد بذلك أن القانون الأخلاقي يتسم بطبيعة مطلقة أي إنه يطبق على جميع الأحوال. ويقصد بكونه أمراً إنه قاعدة واجبة ملزمة يجب الإذعان لها. ويصوغ كانط هذا الأمر المطلق بطرق مختلفة. فهو يقول أولاً: “تصرف وفقاً للقاعدة التي تريدها أن تصبح قانوناً عاماً”. إذن عندما أفعل شيئاً ما يجب أن أتاكد أني أريد أن يفعل الآخرون نفس الشيء إن كانوا في نفس وضعك. وعندئذ فقط تتصرف وفق القانون الأخلاقي الكامن في نفسك.
كما صاغ إيمانويل كانط هذا الأمر المطلق بتلك الطريقة أيضاً: “تصرف بحيث تعامل الإنسانية في شخصك أو في شخص كل إنسان سواك بوصفها غاية ولا تعاملها أبداً كما لو كانت مجرد وسيلة”. إذن يجب علينا ألا نستغل الآخرين لتحقيق مصلحتنا. لأن كل إنسان غاية في حد ذاته. إلا أن هذا لا ينطبق على الآخرين فحسب، وإنما عليك أنت أيضأً. إذ يجب عليك ألا تستغل نفسك وتتخذها وسيلة للحصول على شيء ما. وهذا مثل القاعدة الذهبية التي تقول: “لا تفعل للآخرين ما لا تريد أن يفعلوه لك”.
تلك أيضاً قاعدة صورية للسلوك أي أنها تغطي كل الخيارات الأخلاقية ونستطيع أن نقول إن هذه القاعدة الذهبية تعبر عن مضمون قانون كانط الأخلاقي الكلي.
أخلاق الواجب في فلسفة كانط
يرى إيمانويل كانط أن القانون الأخلاقي قانون مطلق وكلي مثل قانون السببية تماماً. إن قانون السببية لا يمكن إثباته بالعقل هو أيضاً ولكنه مطلق وثابت وعندما يصف كانط القانون الأخلاقي فإنه يصف في الواقع الضمير الإنساني. إننا لا نستطيع أن نبرهن على ما يقوله لنا ضميرنا الأخلاقي إلا أننا نعرفه مع ذلك تماماً. فأحيانا تحاول أن تكون لطيف مع الآخرين وخدوم لهم لأنك تعرف أن هذا سلوك مفيد فهو مثلاً وسيلة لاكتساب تقدير الآخرين.
لكن هذا الأسلوب في التصرف لا يتفق بصورة كاملة مع القانون الأخلاقي. ربما كان سلوك متفقاً من الناحية الشكلية أو السطحية مع القانون الأخلاقي وهذا أمر جيد في حد ذاته. ولكن كي يستحق سلوك ما أن يوصف بأنه سلوك أخلاقي يجب أن يكون ثمرة لانتصارك على نفسك. عندما تتصرف بوحي من الواجب وحده. أي وأنت تشعر أن واجبك يقضي بأن تتبع القانون الأخلاقي عندئذ فقط يمكن أن يعتبر تصرفك عملاً أخلاقياً. ولذا فإن أخلاق كانط تسمى أحياناً أخلاق الواجب.
كأن تشعر أن من واجبك مثلاً أن تجمع المال لعمل من الأعمال الخيرية. فأنت تفعل ذلك لأنك تعرف أنه صواب فحتى إن ضاع المال، فالمهم أنك أطعت القانون الأخلاقي. لقد تصرفت بوحي من الإرادة الخيرة. والإرادة الخيرة هي التي تحدد إن كان عمل من الأعمال صحيحاً من الناحية الأخلاقية أم لا، وليس النتائج المترتبة على ذلك العمل. ولذا فإن أخلاق كانط تسمى أيضاً أخلاق الإرادة الخيرة.
اقرأ أيضًا: السفسطائيون: كيف اكتسبوا هذه السمعة السيئة؟ |
الإرادة الحرة في فلسفة كانط
إن الأخلاق في فلسفة كانط تفترض ثلاث مسلمات هم وجود الله وخلود الروح والإرادة الحرة. ولكنه قال من جهة أخرى أن كل شيء يخضع لقانون السببية. فكيف إذن أن تكون إرادة الإنسان حرة مع خضوع الإنسان لقانون السببية؟
في تلك النقطة يقسم كانط الإنسان إلى جزأين بطريقة تذكرنا بطريقة ديكارت الذي قال أن الإنسان “كائن ثنائي” لأنه يملك عقلاً وجسداً. إذ قال كانط أننا نخضع بوصفنا كائنات حسية لقانون السببية، فنحن لا نقرر ما ندركه بحواسنا بل تأتينا الانطباعات الحسية بحكم الضرورة وتؤثر علينا شئنا أم أبينا. ولكننا لسنا كائنات حسية فحسب إننا أيضاً كائنات عاقلة.
نحن ننتمي بوصفنا كائنات حسية إلى عالم الطبيعة، وبالتالي نخضع للعلاقات السببية وللقوانين الطبيعية التي تتحكم فينا. ونحن بهذه الصفة لا نملك على ذلك المستوى إرادة حرة غير أننا أيضاً كائنات عاقلة، ونشكل بالتالي جزءاً مما أسماه كانط العالم المعقول. أي الذي يجب أن تنظم العلاقات فيه استنادا إلى العقل. وعندما نتتبع عقلنا العملي الذي يتيح لنا أن نقرر الاختيارات الأخلاقية السليمة فإننا نمارس إرادتنا الحرة، لأننا نكون عندئذ خاضعين للقانون الأخلاقي الذي وضعناه بأنفسنا واخترنا أن نخضع له بملء إراداتنا. أي أن الحرية هي الخضوع الإرادي للقانون الأخلاقي.
عندما تختاز أن تساعد الآخرين حتى وإن كان هذا على حساب مصلحتك، فأنت تتصرف في هذه لحالة بطريقة حرة، ولن تكون حراً إذا اكتفيت باتباع رغباتك. حيث يحتاج الإنسان للاستقلال والحرية كي يسمو فوق رغباته واهوائه.
في الختام لا يسعنا سوى القول بأن فلسفة كانط نجحت في إخراج الفلسفة من المأزق الذي تسبب فيه الخلاف بين المذهب العقلاني والمذهب التجريبي، ومع موت كانط عام 1804 تنتهي حقبة عظيمة في تاريخ الفلسفة لتبدأ غيرها.
المراجع
1. Author: Rohlf, Michael, (5/20/2010), Immanuel Kant, www.plato.stanford.edu, Retrieved: 12/19/2022. |
2. Author: Otto Allen Bird, (10/21/2022), Immanuel Kant, www.britannica.com, Retrieved: 12/19/2022. |
3. Author: Emrys Westacott, (8/31/2019), Moral Philosophy According to Immanuel Kant, www.thoughtco.com, Retrieved: 12/19/2022. |