أسلوب حياة

الواثق وغير الواثق: أصوات اليقين وهمسات الشك

في عالمٍ تعصف به الرياح وتتناوب عليه أضواء الشمس وظلال القمر، تظهر النفوس كما لو كانت سفنًا تبحر في بحر الحياة. هناك من يسير واثقًا، كأنه ربان يعرف طريقه حتى في أحلك الليالي، يملك البوصلة التي تقوده نحو مراده مهما اشتدت العواصف. وهناك من يتردد في كل خطوة، يتوقف أمام كل موجة صغيرة خائفًا مترددًا… إن الثقة بالنفس ليست مجرد صفة، بل هي نور يضيء مسار الإنسان، فإن غابت اختفت معها الرؤية وحبست النفس في دائرة من القلق. فكيف تبدو هذه النفوس المتباينة حين نقف عند حدودها ونلامس أبعادها؟ دعونا نتعرف على شخصية الواثق وغير الواثق بنفسه..

الواثق وغير الواثق

الحياة مغامرة مجنونة وغير مؤكدة نكافح فيها جميعًا بأفضل ما نستطيع وسط بحر من الجهل والشكوك، وبلا شك، البعض أفضل حالًا من الآخرين. هناك أولئك الذين يجتازون العالم بثقة، مقتنعين بقدرتهم على مواجهة أي شيء ويعرفون ما هو الأفضل لهم.. وهناك أولئك الذين لا يثقون بأنفسهم تمامًا ويميلون إلى التحفظ والخوف على الرغم من أنهم يديرون أمورهم بشكل جيد..

يمكن القول إن الشخص غير الواثق بنفسه أكثر واقعيةً وأكثر انفتاحًا على الاحتمالات الجديدة. ذلك أن غير الواثق متشكك باستمرار، ولا يأخذ أي شيء على أنه أمر مسلم به، ويشكك بلا انقطاع في قناعاته. لكن هل يعني هذا أن الشخص غير الواثق لديه فرص أكبر للوصول إلى الحقيقة، وأن يكون واعيًا بما هي عليه الأمور فعلاً، ولا ينقاد وراء الأحكام المسبقة؟ ليس بالضرورة..

يجب أن يؤخذ في الاعتبار أن عدم الثقة تنبع عادةً من الشعور بالضعف أو عدم الأمان أو تدني احترام الذات. هذا ما يجعله مترددًا وخائفًا، دائم التأهب، لا يستطيع الاسترخاء، وهو ما يخلق لديه حالة من التوتر غالبًا ما تشوش على إدراكه للواقع. فالخوف يدفعه إلى التركيز على المخاطر؛ فالعالم بالنسبة له، هو في الأساس مصدر للتهديدات، وهذا وحده يشير إلى احتمال تشويه الواقع أو على الأقل إلى تصورًا متحيزًا، والأسوأ من ذلك، أن القلق يعمل كضباب يعزله عن محيطه، ويجعل الكثير من التفاصيل تمر دون أن يلاحظها..

السعي وراء الشعور بالأمان

الفرق بين الواثق وغير الواثق بنفسه
البحث عن الأمان المفقود

من المرجح أن يتمسك الشخص غير الواثق بقناعاته بشكل أكثر إحكامًا، ربما بطريقة قهرية وغير نقدية في سعيه للشعور بالأمان. ويمكن أن يصبح فريسة سهلة للأشخاص أو المنظمات أو العقائد التي تمنحه شعورًا بالأمان، وتعطيه ذلك “الملجأ” أمام العالم؛ الملجأ الذي يرى نفسه غير قادر على توفيره لنفسه. قد يجد نفسه في حالة تبعية للمعتقدات الغامضة أو الأديان الغريبة أو حتى الطوائف، فالمجموعات التي يقودها قادة كاريزماتيون تستغل مشاعر العجز وعدم اليقين والخوف لاستقطاب أتباعها ثم استغلالهم. ومع أنه قد يغض الطرف عن كل ما قد يشكك في هذه المعتقدات، فهو على الأغلب يفضل الأمان على الحقيقة..

يميل الشخص غير الآمن إلى تجنب وجهات النظر الجديدة وكذلك التجارب غير المألوفة. فكل ما هو غير متوقع يهدد استقرار عالمه، مما يجعله محافظًا وقليل الميل إلى المخاطرة أو الاستكشاف. ستضعه الأشياء الجديدة على أهبة الاستعداد في البداية، وسيسعى جاهدًا للعثور على حجج لتشويهها أو تبريرات لرفضها..

هشاشة عميقة

ومع ذلك، فإن الشخص الواثق بنفسه بقدر مفرط لديه أيضًا عوائق تمنعه من الوصول إلى الحقيقة. ربما يتبنى موقفًا جامدًا ومنغلقًا، ويرى أن العصف الذهني والتفكير الإبداعي مضيعة سخيفة للوقت، لأنه يعتقد أن لديه كل الأفكار الصحيحة والضرورية. ومن المحتمل أن يعتبر الآخرين محدودي الفهم، ولا يأخذ مقترحاتهم بعين الاعتبار. ينظر إلى المترددين بازدراء، ويشعر تجاه المتعجرفين الآخرين بالعداوة. لن يكون من السهل عليه تطوير علاقات وثيقة مع الآخرين، لأن ذلك يتطلب الإعجاب بالآخرين، على الأقل بدرجة بسيطة، لكن المتغطرس معجب بنفسه فقط، ولذلك، سيتجاهل أي مساهمات من الآخرين، خاصة تلك التي تعارضه، لأنه ينطلق من افتراض أنه هو فقط الذي يحتكر العقل والصواب. تعميه هذه الصرامة عن رؤية أخطائه، وتحرمه من الاستفادة من مساهمات الآخرين التي قد تساعده. ربما تعكس هذه الصلابة في الواقع هشاشة عميقة، أو عدم ثقة بالنفس مخفية بعناية. وربما تعكس قصر نظر نرجسي لا يرى في بركة الحياة سوى انعكاس صورته..

تعكس التصورات التي رسمناها للتو حالات متطرفة، وبذلك فهي تأخذ طابع الكاريكاتير. ولحسن الحظ، فإن الناس معقدون بما يكفي لجعل هذه السمات مجرد ميول سائدة، مليئة دوماً بتفاصيل وسياقات مختلفة. نحن بحاجة إلى تحديد هذا التطرف كي لا نضيع في الخليط الفوضوي للحياة اليومية، حيث توجد استثناءات أكثر من القواعد..

عالم معقد

الواثق وغير الواثق
الشخص الواثق بنفسه

هناك لحظات يمكن فيها للشخص غير الواثق أن يُظهر فيها قراره ولحظات مجده، إذا تمكن من التركيز والتمسك بعالمه المليء بالشكوك، ونجح في التغلب على اعتراضاته وتأجيل دحضها بهدوء، فربما يتمكن من رؤية الصورة كاملة واتخاذ قرار. وفي بعض الأحيان، يكون من الجيد للعقل أن يصمت، ويصغي للحدس، ذلك الحدس الذي يمتلك أسبابه الخاصة التي لا يفهمها العقل. والأهم أن يتغلب غير الواثق على قلقه ويتسامح مع انعدام الأمان دون خوف، والتعامل معه بقدر معين من الثقة. يقول الفيلسوف البريطاني ألان واتس:

بقدر ما يبدو هذا متناقضًا… فإن الحياة تبدو مليئة بالمعنى فقط حين ندرك أنها خالية من الهدف، ونكتشف “سر الكون” عندما نقتنع أننا لا نعرف شيئًا عنه… علينا فقط أن نفتح أعين عقولنا على نحو كاف، وستظهر الحقيقة..

أما الشخص الذي يتمتع بثقة زائدة عن الحد، فمن الأفضل له أن يتعلم بعض الحذر من نظيره. إن العالم معقد للغاية بحيث لا يمكن الاعتماد على أي صيغة سحرية تغطيه بشكل نهائي.. من الضروري ترك نافذة مفتوحة في ذلك المنزل المحكم الإغلاق، والسماح للهواء بأن يعبث ببعض الأشياء. تساعدنا بعض الشكوك في ألا نكون أسرى لمعتقداتنا. إن الحقائق التي نعتبرها غير قابلة للتشكيك هي تلك التي يجب التشكيك فيها باستمرار.

فضائل الواثق وغير الواثق

صحيح أن الثقة في العلاقات تعود بالكثير من الفوائد وقد تضعنا في مكانة عالية لبعض الوقت. لكنها مكانة هشة وسرعان ما ستظهر فيها العيوب، وستصبح مثيرة للملل؛ إذ أن صخب الأنا، رغم جاذبيتها، دائمًا ما تسبب الإزعاج في النهاية؛ فهي تحمل طابعًا طفوليًا واستبداديًا..

في العمق، يمكن للأشخاص الواثقين وغير الواثقين أن يكملوا بعضهم بشكل رائع، إذا تعلم كل منهم أن يكبح نفسه ويقدّر فضائل الآخر. يجد غير الواثق في الشخص الواثق دعوة للشجاعة والثبات، وحافزًا للتقدم بدلًا من الهروب أو التردد. ومن جانبه، قد يجد الواثق في الآخر توازنًا صحيًا، وتساؤلًا عن جموده، وإشارة نحو آفاق مختلفة..

هكذا يكتشف الناس، عندما ننظر إلى بعضنا البعض بعيون جيدة، أننا نستطيع أن نكمل بعضنا البعض، ونجد أكوانًا مشتركة بدلاً من الاصطدام أو اللامبالاة. وهكذا، يبقى الفارق بين الواثق وغير الواثق كالفارق بين من يسير تحت سماء صافية ومن يختبئ خلف جدار يخشى المطر. الواثق يفتح الأبواب ويمضي، يعرف أن العالم ليس مثاليًا ولكنه يؤمن أن المحاولة تستحق. أما غير الواثق، فقد يبقى سجين هواجسه، يكتب في دفاتر التردد بدل أن يرسم على جدران الواقع. وبين هذين النقيضين، تظل الحياة تقدم فرصها، بانتظار أن يقرر كل إنسان إلى أي جهة ستنتمي خطاه..

وائل الشيمي

كاتب وأديب بدأ مسيرته الأكاديمية في مجال الصحافة، حيث حصل على بكالريوس في هذا المجال، وقاده شغفه بالإنسانية إلى دراسة علم النفس والفلسفة، وقد ساعدته دراسته وقراءاته في فهم أبعاد الشخصية البشرية وتعقيداتها. في روايته "الأجنحة السوداء" صور قضايا الوجود والتحديات النفسية التي يواجهها الإنسان في رحلة بحثه عن الإله، في سياق سردي مشوق يحمل في طياته تأملات فلسفية حول الحياة والموت، الحرية والقيود. كما أطلق في مجموعته القصصية "علامات لا تُمحى" مجموعة من القصص التي تتناول الجوانب المظلمة من التجربة البشرية، تاركاً آثارًا لا تُمحى في ذهن القارئ. إلى جانب أعماله الروائية والقصصية، ساهم الكاتب بالعديد من المقالات النقدية والحوارات الفكرية في الصحف والمجلات والمواقع الإعلامية، حيث شكلت كتاباته مساحة للتفكير والتحليل حول قضايا ثقافية واجتماعية معاصرة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

دعمك يهمنا ❤️

نحن نعمل بجد لتقديم محتوى مجاني ومفيد لك. هل يمكننا الاعتماد على دعمك بتعطيل مانع الإعلانات؟ شكرًا مقدمًا!