مات الله: رحلة البحث عن المعنى الضائع

حين تتوارى السماء عن الأنظار، وتصبح الصلوات أصداء تتبدد في الفراغ، نتساءل: ما الذي يبقى للإنسان عندما يموت إلهه؟.. عبر صفحات التاريخ، كان الله مرآة نرى فيها معنى الوجود ونظمه. لكنه لم يكن مجرد فكرة، بل كان المركز الذي يدور حوله الكون الأخلاقي والميتافيزيقي. جاء نيتشه ليحطم هذه المرآة بعبارته الشهيرة “مات الله”، فاتحًا أبوابًا لفلسفة جديدة تقف على أنقاض ما كان يومًا مقدسًا. ليس موت الله إقرارًا بفناء إلهٍ فعلي، بل هو انهيار المعنى الذي لطالما صنعناه في ظلّه. إنها لحظة فاصلة، تجبر الإنسان على مواجهة الحياة بجرأتها، بصراحتها، وبلا ملاذ سماوي. في هذه اللحظة، يطرح السؤال: كيف يمكننا إعادة بناء أنفسنا في عالم بلا مركز؟
فرضية غير ضرورية
على الرغم من أن أول من صاغ عبارة “مات الله” كان هيغل في عمله “فينومينولوجيا الروح” إلا أن هذه العبارة اكتسبت معناها وأهميتها الحالية بفضل الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه.
إن الفكرة التي حاول نيتشه التعبير عنها بهذه العبارة – مات الله – ليست أن الله كواقع قد توقف عن الوجود، فهذا سيكون تناقضًا واضحًا؛ بل ما تعنيه الفكرة هو أن مفهوم الله باعتباره القائم على النظام الوجودي للعالم قد انهار. لقد قوض العلم والنقد الفلسفي أسس الواقع، وأصبح الإنسان والعالم بشكل تدريجي أقل مركزية. وتحول الله إلى ما وصفه لابلاس بـ”فرضية غير ضرورية”.
فتح هذا الوضع الذي يحرر الفرد منطقيًا من قبضة الإله الأب القادر على كل شيء والمراقب لكل شيء الباب أمام العدمية واليأس. لقد انهارت الأرضية التي كنا نعتقد أنها متينة تحت أقدامنا. وانهارت معها حقائقنا الحميمة الراسخة، ونحن معها. لاحظ الكاتب الروسي دوستويفسكي العواقب الأخلاقية لاختفاء الله عندما صاغ عبارته الشهيرة في عمله “الأخوة كارامازوف”:
إذا لم يكن الله موجودًا، فكل شيء مباح؛ وإذا كان كل شيء مباحًا، أصبحت الحياة مستحيلة.
توصل نيتشه إلى نفس النتيجة، لكنه رأى ضرورة جعل الحياة ممكنة بدون الله، عبر الحاجة الملحة إلى خلق قيم جديدة لا تستند على إله يكره الحياة.
الإيمان والإلحاد
ومن المفارقات أن الانتقادات لفكرة نيتشه تأتي من كلٍ من المؤمنين والملحدين. بالنسبة للمؤمنين، الله لم يمت أو بالأحرى، مات فقط بالنسبة للكتلة الاجتماعية – القطيع الاستهلاكي – بينما هم يواصلون العيش في ظل إلههم وتحت حماية مبادئ أخلاقية راسخة يمليها القائد الروحي، سواء كان بابا أو إمامًا أو غورو. ومن وجهة نظر الملحدين، الذين لم يدركوا عمق فكر نيتشه. يلومونه لاعتقاده أن الأخلاق مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالله، في حين أن ملايين الملحدين واللاأدريين يمكن أن يكون لديهم مبادئ أخلاقية متينة مثل أولئك الذين يؤمنون بالله.
أعتقد أن المؤمنين يتخذون موقفًا فكريًا أشبه بوضعية الجنين. وهو إنكار غير عقلاني لحقيقة اجتماعية وتاريخية لا يمكن إنكارها، وهي أن الله لم يعد الدعامة الأخلاقية لغالبية السكان في الغرب. أما الملحدون الذين ينكرون العلاقة بين الله والنظام الأخلاقي، فهم لا يفهمون ما كان يقصده نيتشه. لقد أدرك نيتشه أن الكثيرين بعد “موت الله” سيحاولون ملء عرشه السابق بـ”العقل”، أو “الإنسان”، أو “التضامن العالمي”، أو “المصلحة المشتركة”. الأصنام زائفة التي يحاولون من خلالها تجنب الحقيقة المؤكدة بأنه بدون الله، فإن كل نظام أخلاقي ليس سوى قواعد لعبة للتعايش، لكنه ليس إطارًا مرجعيًا للحياة. ويصبح كل تقييم لما هو خير أو شر مجرد ثرثرة تجار يتحدثون عن السعادة أو المصلحة أو الحقوق غير القابلة للتصرف، لكنه لا يستطيع تأسيس قيم عميقة وراسخة وجوديًا..
مات الله أم مات نيتشه
تسخر العبارة الشهيرة “مات نيتشه” التي تحاول الرد على العبقري الألماني من مفهوم “الموت” بمعناه الحرفي. وهو ليس المعنى الذي استخدمه نيتشه في عبارته التي نحللها اليوم. مات نيتشه بالفعل في 25 أغسطس 1900 في فايمار، لكن هل يمكننا القول إن تأثيره على الثقافة الغربية قد مات أيضًا؟ على عكس ما يحدث مع “جثة الإله”، التي تتحول بشكل متزايد إلى بضائع أو فولكلور سياحي، فإن انهيار كل إطار للتقييم الأخلاقي الموضوعي بشر نيتشه، هو اليوم أكثر من أي وقت مضى الحقيقة المؤلمة التي لا مفر منها للإنسان المعاصر.
فيما يلي النص 125 من كتاب “العلم المرح” تحت عنوان الأخرق.. حيث يتم التعبير عن فكرة “موت الله” بكل الدراما الشعرية التي استطاع قلم المفكر الألماني الحاد أن يصوغها.
الأخرق
أما سمعتم بذلك الرجل الأخرق الذي بعد أن أوقد فانوسه في وضح النهار، صار يجري في ساحة السوق ويصيح دون توقف: “أبحث عن الإله! إني أبحث عن الإله!”.. ولما كان كثير ممن لا يؤمنون بالإله متواجدين هناك، تسببت صيحاته في ضحك هائل. قال أحدهم: هل فقدناه؟ قال آخر: هل شرد مثل طفل؟ أم اختفى في مكان ما؟ هل هو خائف منا؟ هل أبحر؟ أم هاجر؟ هكذا كانوا يصيحون ويضحكون جميعًا في ذات الوقت.
سارع الأخرق إلى وسطهم واخترقهم بنظراته، وصاح فيهم: “أين الإله؟” أنا سأقول لكم لقد قتلناه أنتم وأنا! نحن كلنا قتلته! ولكن كيف فعلنا ذلك؟ كيف استطعنا أن نفرغ البحر؟ من أعطانا الإسفنجية لمحو الأفق كله؟ ماذا فعلنا بإبعادنا هذه الأرض عن شمسها؟ إلى أين تسير الآن؟ إلى أي شيء تقودنا حركتها؟ أبعيدًا عن كل الشموس؟ ألم نندفع في منحدر طويل؟ وذلك إلى الخلف، إلى الجانب، إلى الأمام، على كل الجوانب؟ أما يزال هناك أعلى وأسفل؟ ألسنا نتيه كما لو عبر عدم مطلق؟ ألا نحس نفس الفراغ؟ أليس الجو أبرد مما كان؟ أليس الوقت ليلًا باستمرار ويصير ليلًا أكثر فأكثر؟
ألا يجب أن نوقد الفوانيس منذ الصباح؟ هل نسمع ضجيج حفاري القبور وهم يدفنون الإله؟ ألا نشم أيضًا رائحة العفن الإلهي؟ فالآلهة تتعفن أيضًا! مات الإله! ولقد قتلناه! كيف سنعزي أنفسنا نحن أكبر القتلة؟ إن أقدس وأقوى ما ملك العالم إلى الآن قد نزف دمه بطعنات مدانا – من سيمسح هذا الدم عن أيدينا؟ أي ماء سيطهرنا؟ أية مراسم تكفيرية، أية ألعاب مقدسة يجب علينا أن نبتكر؟ وعظم هذه الفعله، أليس شيئًا يفوق طاقتنا؟ ألا يجب علينا أن نصير نحن أنفسنا آلهة كي نبدو جديرين بهاته الفعلة؟ لم تحدث أبدًا فعلة أعظم من هذه – وكل من سيولد بعدنا سينتمي بمقتضى هاته الفعلة نفسها، لتاريخ أسمى مما كان عليه التاريخ حتى الآن!
هنا توقف الرجل الأخرق وتأمل مستمعيه.. وهم بدورهم ركنوا إلى الصمت وصاروا ينظرون إليه دون أن يفهموا. وأخيرًأ ألقى بفانوسه على الأرض فتكسر وانطفأ. قال إثر ذلك: لقد أتيت قبل الأوان.. لم يحن أواني بعد. هذا الحدث الرائع ما يزال يمشي ويسافر لم يبلغ آذان الناس بعد. يلزم الصاعقة والرعد بعض الوقت، يلزم ضوء النجوم بعض الوقت، يلزم الأفعال بعض الوقت، يلزمها كلها بعض الوقت بعد تمامها لترى وتسمع. ولا تزال هذه الفعلة أبعد عنهم بعد النجوم الأشد بعدًا ومع ذلك فهم الذين قاموا بها! ويحكي أيضًا أن الرجل الأخرق دخل في نفس اليوم مختلف الكنائس حيث رتل، ولما طُرد خارجًا وأرغم على تبرير سلوكه لم يكف عن تكرار: ما هي هذه الكنائس إذن إن لم تكن مدافن وقبور الإله؟[1]“..
أصل الأخلاق وفكرة الإنسان المتفوق
موضوع رئيسي في فلسفة نيتشه هو أصل الأخلاق. اعتقد الفيلسوف الألماني أن مفاهيم الخير/الشر كانت في البداية ذات طابع وصفي فرضته الطبقة الأخلاقية الأرستقراطية. بالنسبة للإنسان النبيل، الخير هو الحياة نفسها، والدافع الشرس الذي يدفعنا لاحتضانها رغم الألم، وقبول طبيعتها العبثية والزائلة. تتجسد إرادة العيش لدى الإنسان النبيل في فرحة برية تنعكس في أناشيد هوميروس أو أغاني محاربي الفايكنغ. يعتبر نيتشه هذا النمط من الحياة المليء بالفرح، الغريزي وغير المكترث “خيرًا”. بينما يرى في قيم الإنسان العادي، أو القطيع الذي يعيش حياة طويلة دون مجد “شرًا”.. ويرى أن هؤلاء العبيد أو القطيع كما يطلق عليهم يستحقون الشفقة وليس الكراهية أو الحقد.
ومع ذلك، تختلف عقلية القطيع عن عقلية الإنسان النبيل، فهي تبني أخلاقها على أساس الحقد والعداء للحياة. يشعر العبد بالحسد تجاه قوة النبيل، لكنه يدرك عجزه عن امتلاك هذه الطاقة، فيكره هذه القوة ويسميها “شرًا”. يحول العبد ضعفه إلى فضيلة عبر الحقد، ويحول جبنه إلى حذر. وعجزه عن القتال إلى وداعة. وكرهه للحياة إلى حب للآخرة. باختصار، يحوِّل العبد القيم النبيلة إلى رذائل. مثال واضح على هذا التحول هو “رجل الدين” الذي يمارس الصوم، والرهبانية، والتمارين الجسدية المفرطة، والعزلة، وأي شكل من أشكال التعذيب الذاتي. موقفه هذا معادٍ للحياة وغير طبيعي، وممارساته “الزهدية” تعكس في الواقع احتقاره لنفسه وللحياة.
الانقلاب الأخلاقي
في هذا التركيز السام على الذات، يصبح رجل الدين “ذكيًا”، وبفضل هذا المكر الممزوج بالحقد، يغوي الأرواح النبيلة تدريجيًا، فيقلب النظام الأخلاقي رأسًا على عقب ويغذي الشعور بالذنب. ولدعم هذا الانقلاب الأخلاقي، يخترع الإنسان المتدين عالمًا آخر يفوق عالمنا: العالم السماوي.
يرى نيتشه أن المسيحية هي أفلاطونية للعامة.. أي نسخة مبسطة من الأفلاطونية لتكون مفهومة لدى الجماهير. ومفهوما “العالم السماوي والعالم الظاهري” وازدراء الملذات الجسدية هما سمتان مشتركتان تعرّفان المسيحية وفلسفة أفلاطون. وبالتالي، تُعد المسيحية مثالاً على أخلاق العبيد: فكرة أن الفقراء سيرثون الأرض، وأن التواضع، والبساطة، والتقشف هي فضائل حقيقية، تمثل كراهية المسيحي للحياة وأخلاقه العبدية. وقد تأثر الغربيون بهذا السم، ويجب عليهم الآن التخلص من تأثيره.
موت الله والإنسان المتفوق
بتجاوز هذا التأثير المسيحي الضار وبافتراض موت الله، يولد الإنسان المتفوق. الإنسان المتفوق –الذي لا ينبغي فهمه كمفهوم عنصري– هو الذي يخلق قيمًا أخلاقية جديدة تؤكد على الحياة التي أنكرها المسيحية. هذه القيم الجديدة هي نتاج إرادة القوة التي من خلالها يحتضن الإنسان المتفوق الحياة في صراحتها ويؤكد قيمًا جديدة تحل محل القيم القديمة التي تنكر الحياة[2].
إرادة القوة، التي تتجاوز الخير والشر، لا يجب أن تفهم كإرادة للسيطرة أو القوة السياسية، بل كتمظهر لقوة تؤكد الحياة وتبني قيمًا جديدة تتجاوز العدمية. تصل إرادة القوة إلى أوجها في مفهوم العود الأبدي: يجب على الإنسان المتفوق أن يعيش كما لو كان سيعيش الحياة التي اختارها مرارًا وتكرارًا، إلى الأبد.
لا تزال أعمال نيتشه مثيرة للجدل حتى اليوم. يعتقد البعض أنه أبو الفاشية بسبب تأكيده على الحياة مقابل العقل وأيديولوجيته غير الديمقراطية. بينما يرى آخرون أن نيتشه وضع أول فلسفة تكسر تقاليد الأفلاطونية/ المسيحية وقدم تحليلًا ثاقبًا لانهيار القيم التقليدية.
هوامش
[1] العلم المرح – فريدريك نيتشه – ترجمة حسان بورقية ومحمد الناجي.