فلسفة

فلسفة القديس أوغسطين: هل استطاعت حل مشكلة الشر في العالم؟

القديس أوغسطين هو أحد أهم فلاسفة العصور الوسطى، ساهمت أفكاره الفلسفية في التأثير على الفلسفة المسيحية في ذلك الوقت. حيث كان فلاسفة تلك الفترة يعتقدون أن المسيحية تمثل الحقيقة المطلقة، وكانت المسألة الجوهرية التي ناقشها الأغلبية العظمى من الفلاسفة هي: هل الإيمان هو الطريق الوحيد لقبول المسيحية أم يمكن الوصول إلى الحقائق المسيحية عن طريق العقل؟ في هذا المقال نحاول أن نتعرف على القديس أوغسطين وفلسفته بشيء من التفصيل.

نبذة عن حياة القديس أوغسطين

ولد أوغسطين في عام 354 في طاجستا – الجزائر حالياً – لأم مسيحية وأب وثني. وعندما بلغ السادسة عشرة من عمره انطلق في طريقه إلى قرطاجنة ليتعلم فيها. ثم رحل بعد ذلك إلى روما وميلانو. لكن على الرغم من نشأته المسيحية إلا إنه لم يكن مسيحياً طوال حياته، فلقد تنقل بين العديد من الأديان المختلفة قبل أن يعتنق المسيحية. ففي إحدى فترات حياته كان اعتنق المانوية وشرع في دراسة المذهب المانوي – وهو شكل من أشكال الغنوصية – يقوم هذا المذهب على تأكيد أن العالم يتآلف من مبدأين هما الخير والشر، النور والظلام، الروح والمادة. ومن خلال إرادة الانسان يمكنه أن يتعلى على المادة ليجد الخلاص في النهاية. ومن هنا ندرك أن عقيدة المانوية في الخلاص تنقسم إلى دينية وفلسفية.

مشكلة الشر

لكن سرعان ما ترك القديس أوغسطين هذه العقيدة بعد فشلها في حل مشكلة الشر في العالم. تلك المشكلة التي كانت تشغل تفكيره بصورة مستمرة. حيث شرع يتساءل عن سبب وجود الشر في العالم إذا ما كان خالق العالم هو الخير المطلق؟ ترك أوغسطين هذه العقيدة واعتنق الفلسفة الرواقية في وقت ما من حياته. ومن هنا قاده بعض أصدقائه إلى كتب معينة الفيلسوف أفلوطين، وقد وجد هذه الكتب مفيدة جداً واستوعب من خلالها المبادئ الأساسية للأخلاق الأفلاطونية وعلم النفس ونظرية المعرفة. ووجد في الأفلاطونية الجديدة ضالته حيث ساعدته على حل مشكلة أصل الشر، بعد أن علم أن الشر ليس سوى انعدام الخير. لكنه لم يزل يشعر بأن شيئاً ما مفقوداً – وفي النهاية وجد رضا أكبر في تعاليم المسيحية. لكن بالنسبة له، أضافت المسيحية إلى معتقداته الأفلاطونية، بدلاً من استبدالها بها. وبعد تنصره طور منهجه الخاص في الفلسفة واللاهوت. ذلك المنهج الذي استقاه من الأفلاطونية الجديدة.

في الجزء الأخير من حياة أوغسطين عاد مجدداً إلى قرطاجنة ليعمل هناك أسقفاً لمدينة إيبونا التي تقع غرب المدينة وتوفي هناك عام 430 ميلادية. وقد لقب القديس أوغسطين بابن الدموع. وسبب هذه التسمية أن والدته كان تبكي عليه طوال عشرين عاماً لكي يعود إلى صوابه ويعتنق المسيحية من جديد بعد أن رأته يعتنق المانوية، ويسير على خطى الفلاسفة فيما بعد. حتى شكت إلى أحد القديسين فقال لها: “ابن هذه الدموع لا يهلك”.

اقرأ أيضًا: فلسفة توما الأكويني وبراهينه الخمسة على وجود الله

فلسفة القديس أوغسطين

تأثر أوغسطين بالفلسفة الأفلاطونية حتى بعد أن تنصر وأصبح مسيحياً. وكان يعتقد أنه ليس هناك تناقض بين المسيحية وفلسفة أفلاطون، أما عن الأساس الذي أقام عليه فلسفته فهو أن هناك حدوداً في معرفة الحقيقة لا يستطيع العقل أن يلم بها، ومن هنا يأتي دور الإيمان. فالمسيحية سر إلهي لا يمكن إدراكه بالعقل بل بالإيمان فحسب. وفي تلك اللحظة التي يستقر فيها الإيمان في قلوب المرء ينير الإله طريقه لمعرفة الحقيقة المتعلقة به والتي تتجاوز حدود قدرات العقل.

أوغسطين وأفلاطون

حاول القديس أوغسطين أن يوفق بين الأفكار التي جاءت في الكتاب المقدس وبين أفكار أفلاطون وبالتحديد أفكاره الخاصة بعالم المثل. يقول أوغسطين إن أشكال الطبيعة والقوانين الطبيعية موجودة في عقل الله وأنها موجودة بشكل مستقل عن العالم وقبل خلقه. لذا فهذه مثل المثل الأفلاطونية.

في البداية أكد أوغسطين على خلق العالم من العدم على يد الله، وهي الفكرة التي استند عليها الكتاب المقدس، ومن هنا استطاع أن يستنبط أن المثل التي تحدث عنها أفلاطون كانت موجودة من قبل بالفعل ولكن في عقل الله قبل أن يخلق هذا العالم. كما استطاع أن يحل مشكلة أصل الشر في العالم عن طريق العودة إلى الأفلاطونية الجديدة. حيث اتفق مع أفلوطين في أن الشر هو غياب الله، لذا نجد أن الشر في فلسفة القديس أوغسطين لم يكن له وجود مستقل، نظراً لأن الله لا يخلق سوى الخير، والشر ينبع من معصية البشر لله. إذن فإرادة الخير هو عمل من أعمال الله أما إرادة الشر فهي الابتعاد عن أعمال الله.

الأفلاطونية الجديدة

ما جعل الأفلاطونية قريبة جداً من كاثوليكية أوغسطين هو التزامها بما يمكن أن نطلق عليه “الفلسفة المتعالية”. حيث تشتمل هذه الفلسفة على الاهتمام بالتأمل الداخلي داخل الروح، والكشف عن المستويات الروحية الأعلى للواقع، والالتزام بواحد أو خير لا نهائي هو مصدر الواقع المحدود. أما بالنسبة لأوغسطين، أصبحت هذه الفلسفة المتعالية جوهر فهمه عن الله والروح، وهما الشيئين الذي شرع في فهمهما من خلال دراسة الكتب المقدسة واستكشاف الأعماق المذهلة للمعاني الروحية الخفية. لقد انطلق من كتاباته المبكرة ليضفي على المسيحية الكاثوليكية تلك الرؤية الجديدة.

لكنه في الوقت نفسه اعتبر أن الفلسفة المتعالية للأفلاطونية غير كافية. حيث فشلت في توضيح طبيعة الله الحقيقية، وفكرة الخلاص. لذا قدمت المسيحية الكاثوليكية سرداً حقيقياً ومناسباً، مكملاً ما كان الأفلاطونيون قادرين فقط على رسمه في الخطوط العريضة.

عدل أوغسطين تعاليم الأفلاطونية الجديدة عن “درجات الوجود” أو “انبثاق الواحد”. حيث يعتبر أوغسطين أن الخلق هو خير في جوهره، على الرغم من أن الخطيئة الأصلية قد أفسدته. ويؤكد أن هناك “سلسلة من الوجود” أي التسلسل الهرمي للمخلوقات. أما الأهم من ذلك هو إنه يرفض فكرة أن الروح أسيرة في جسد مادي، ويعتقد أن الروح يمكن لها أن تصعد من خلال درجات الوجود إلى الربوبية. وبما أننا لا نستطيع أن نخلص أنفسنا، فلا يمكننا الاعتماد سوى على نعمة الله. بينما الإيمان والتواضع يجعلانا قابلين للنعمة.

فلسفة القديس أوغسطين في الخلاص والهلاك

يؤكد القديس أوغسطين في البداية على أن الإنسان كائن روحي له جسداً مادياً، كما يعتقد أن الروح البشرية خالدة و (على الأقل يحتمل أن تكون) إلهية. من أجل تحقيق السعادة وتحقيق الذات، نحتاج إلى تحويل قلوبنا و “العقل” بعيداً عن أي شيء مادي – المال، والممتلكات، والشهرة، والمنافسة، وما إلى ذلك.

وساهم في صياغة عقيدة الخطيئة الأصلية. حيث أن جميع البشر مذنبون لكن الله شاء إنقاذ البعض من الهلاك، ورغم أن هذه النقطة بالتحديد أثارت قضية الإرادة الحرة والقضاء والقدر. فلقد أنكر القديس على الإنسان أي حق في الاعتراض على حكم الله. بينما أشار في ذلك إلى رسالة القديس بولس الرسول إلى أهل رومية:

“من أنت أيها الإنسان لتجاوب الله، ألعل الجبلة تقول لجابلها لماذا صنعتني هكذا؟ أم ليس للخزاف سلطان على الطين، أن يصنع من كتلة واحدة إناء للكرامة وآخر للهوان”.

هنا نجد أن القديس أوغسطين يحاول أن يوضح في فلسفته أنه ليس هناك إنساناً يستحق الخلاص من الله، ورغم ذلك فإن الله ينقذ بعضهم من الهلاك برحمته. وبالتالي فإن معرفة الناجين من الهالكين أمر مقدر سلفاً. وهو ما يعود بنا إلى مفهوم القضاء والقدر. وعلى الرغم من أن القديس أوغسطين لم يكن يرغب في تقسيم البشر إلى قسمين إلا عندما توسع في الفكرة الواردة في الكتاب المقدس عن الخلاص والهلاك وصل إلى ذلك الأمر.

مدينة الله

في كتابه مدينة الله أشار أوغسطين إلى أن التاريخ البشري كله تاريخ من الصراع بين المدينة الأرضية ومدينة الله. وكلا المدينتان يتصارعان داخل نفس كل انسان، ولكنه أشار إلى فكرة أن مدينة الله موجودة بطريقة ما داخل الكنيسة والمدينة الأرضية موجودة في الدولة او السلطة السياسية. هذا التصور هو الذي تم استخدامه فيما بعد لتبرير الصراع الذي لم يتوقف طوال العصور الوسطى بين الكنيسة والدولة على السيطرة. وفي تلك الأوقات انتشر مصطلح “لا خلاص خارج الكنيسة” بصورة كبيرة.

من هنا ندرك أن الفيلسوف أوغسطين هو أول فيلسوف أدرج التاريخ في فلسفته. حيث أنه أشار إلى أن مسيرة التاريخ ما هي سوى صراع بين الخير والشر. وهي الفكرة الخطية للتاريخ التي يقول بها الكتاب المقدس. فالكتاب المقدس يشير إلى أن العناية الإلهية هي التي توجه البشر منذ خلق آدم على هذه الأرض وحتى آخر الزمان.     

الروح البشرية

في فلسفة القديس أوغسطين ليس للإنسان روح إلهية مستقلة عن الجسد وتستمر حياتها في الآخرة. بل سنقوم في جسد جديد مجيد، إذ لا يمكن للجسد والروح أن يتواجدوا بشكل مستقل. (من الغريب أن العديد من المسيحيين المعاصرين قد تبنوا كلا المعتقدين، أي الحياة الروحية الآخرة والقيامة.) وبالتالي، فإن الروح يحتمل أن تكون أبدية. على عكس الفلاسفة الأفلاطونيين، يقول أوغسطين إنه لا يمكننا تحقيق الاتحاد مع الله، لا في هذا العالم ولا في العالم الآتي. (ومع ذلك، فإن هذا هو ما يسعى إليه المتصوفة المسيحيون؛ لذا فقد نجحت الأفلاطونية في اختراق المسيحية).

اقرأ أيضًا: الفلسفة الهيلينية: كيف امتزج الدين بالفلسفة؟

بشكل عام، أنشأ أوغسطين نظاماً أصلياً داخل اللاهوت المسيحي، مستقل تماماً عن الأفلاطونية على الرغم من التأثر الواضح بالأفلاطونية، إلا إنه يعتمد في فلسفته على الكتاب المقدس وتعاليم بولس الرسول. وفي النهاية فإن القديس أوغسطين هو مفكر واقعي ومتزن كان له الأثر الكبير على اللاهوت المسيحي في العصور الوسطى.

وائل الشيمي

كاتب وأديب بدأ مسيرته الأكاديمية في مجال الصحافة، حيث حصل على بكالريوس في هذا المجال، وقاده شغفه بالإنسانية إلى دراسة علم النفس والفلسفة، وقد ساعدته دراسته وقراءاته في فهم أبعاد الشخصية البشرية وتعقيداتها. في روايته "الأجنحة السوداء" صور قضايا الوجود والتحديات النفسية التي يواجهها الإنسان في رحلة بحثه عن الإله، في سياق سردي مشوق يحمل في طياته تأملات فلسفية حول الحياة والموت، الحرية والقيود. كما أطلق في مجموعته القصصية "علامات لا تُمحى" مجموعة من القصص التي تتناول الجوانب المظلمة من التجربة البشرية، تاركاً آثارًا لا تُمحى في ذهن القارئ. إلى جانب أعماله الروائية والقصصية، ساهم الكاتب بالعديد من المقالات النقدية والحوارات الفكرية في الصحف والمجلات والمواقع الإعلامية، حيث شكلت كتاباته مساحة للتفكير والتحليل حول قضايا ثقافية واجتماعية معاصرة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

دعمك يهمنا ❤️

نحن نعمل بجد لتقديم محتوى مجاني ومفيد لك. هل يمكننا الاعتماد على دعمك بتعطيل مانع الإعلانات؟ شكرًا مقدمًا!