فلسفة

شفرة أوكام: حكمة البساطة في عالم معقد

كيف تساعدنا شفرة أوكام في حل المشكلات؟

تنساب العديد من الأفكار المتشابكة وتفيض التفسيرات كأنهار في عقولنا.. وطوال حياتنا نجد أنفسنا مضطرين لاتخاذ قرارات، وهي عملية صعبة في كثير من الأحيان. حيث يتطلب اتخاذ القرار جمع المعلومات ومقارنة البدائل، واختيار ما يبدو لنا الأكثر ملاءمة.. ربما تكون القرارات الصغيرة التي نتخذها يوميًا غير مؤثرة وسهلة نسبيًا. لكن ما يحدث عندما نواجه قرارات معقدة قد تكون لها تبعات كبيرة على مستقبلنا؟ ماذا نفعل عندما تتوفر لدينا كل المعلومات والخيارات، ولا نستطيع اختيار مسار محدد؟ هنا تظهر “شفرة أوكام” كأداة حادة تقطع غابات التعقيد، وتفتح دروبًا جديدة نحو البساطة والوضوح. إنه ذلك المبدأ الذي يهمس في أذن الفكر: “لا تعقّد ما يمكن تبسيطه، ولا تضف عبئًا على ما يحتمل الخفة”.. في عالمنا المثقل بالتفاصيل والاحتمالات، يحمل نصل أوكام وعدًا بالنقاء، حيث يكمن الجمال في بساطة الحقيقة، وتُضاء العتمة بإزالة الزوائد غير الضرورية..

ما هو مبدأ شفرة أوكام؟

مبدأ شفرة أوكام، الذي يُعرف أيضًا بمبدأ الاقتصاد، هو قاعدة من قواعد التفكير العقلاني التي تنص على أنه في حالة تساوي العديد من الفرضيات، فإن أبسط فرضية تفسيرية هي الأكثر احتمالًا لأن تكون صحيحة.

كان ويليام أوكام فيلسوفًا وعالم لاهوت إنجليزي عاش في العصور الوسطى. ولد أوكام عام 1285، وكان تراثه الفلسفي موضوع دراسة ونقاش لعدة قرون. وقد عُرف بأفكاره التي تدعو إلى التقليل من الافتراضات غير الضرورية والتركيز على أبسط التفسيرات الممكنة. يستخدم مبدأه الذي أصبح يُعرف باسم “شفرة أوكام” حتى اليوم كإرشاد في الفلسفة، العلم، والمنطق، لمساعدة الناس على تبسيط عملية اتخاذ القرارات وفهم العالم من حولهم.

تشير استعارة الشفرة أو النصل إلى قطع أو إزالة كل ما هو زائد عن الحاجة، والإبقاء فقط على الأمور الجوهرية. ويُقال أن أوكام بمبدأه هذا كان يزيل الزوائد من الأفكار الفلسفية حتى تلك الخاصة بأفلاطون. لكن لا يجب أن نُخطئ الفهم: البساطة لا تعني أنها غير قابلة للنقض. لم يدّعي أوكام أن الخيار الأبسط هو دائمًا الأصح، بل نصح فقط باللجوء إلى التفسيرات المعقدة عند الضرورة القصوى.

تساوي الفرضيات

ما هي شفرة أوكام
ماذا نفعل عند تساوي الفرضيات؟

ورغم أن هذا المبدأ يبدو بسيطًا في صياغته، إلا أن تطبيقه يواجه عدة صعوبات. أولًا، من الصعب تحديد متى تكون الفرضيات التفسيرية في حالة تساوي.. على سبيل المثال، كانت نظرية النسبية أكثر تعقيدًا من نظرية نيوتن في الجاذبية، لكنها اعتمدت لأن نظرية أينشتاين قدمت تفسيرًا أوضح وأوسع، وبالتالي لم تكن في حالة تساوٍ مع فرضية نيوتن، بل كانت متفوقة عليها.

الشرط الآخر لاعتبار الفرضيات في حالة تساوٍ هو مدى توافقها مع الإطار التفسيري المفترض بالفعل أنه صحيح.. أي ما إذا كانت الفرضية متسقة مع المعرفة المتوفرة.. مثلًا، الفرضية التي تقول أن “الثدييات لديها دم حار، لأن الله أراد ذلك” هي أبسط من التفسير العلمي، لكنها لا تتفق مع الأساس العلمي الحالي، حيث أن الله لا يُعتبر أكثر من فرضية غير قابلة للإثبات.

يبدو المبدأ بسيطًا، إلا أن تطبيقه ليس بهذه البساطة. لقد ضربت أمثلة مبسطة لتوضيح معنى “تساوي الفرضيات”، لكن حدود هذه المساواة غالبًا ما تكون غير واضحة. لا تسير الفرضيات التفسيرية بشكل واضح دائمًا، مثلما سارت النسبية مع نظرية الجاذبية. ما يحدث عادةً هو أن الفرضيات، حتى المتناقضة منها، تفسر مجموعة من الحقائق نفسها بينما تتناول كل منها جوانب أخرى لا تستطيع الفرضية الأخرى تفسيرها، والنظريات الموجية والجسيمية عن الضوء هي أمثلة على ذلك. وفي هذه الحالات، التي تحدث كثيرًا في العلم والحياة اليومية، يكون من الصعب تحديد أي الفرضيات تفسر أكثر، وبالتالي تحديد ما إذا كانت في حالة تساوٍ ضرورية لتطبيق شفرة أوكام.

اليقين المطلق والاحتمالات

نصل أوكام
نصل أوكام والبحث عن الحقيقة

هناك تعقيد آخر يتم تجاهله في الغالب عند استخدام هذا المبدأ.. وهو أن شفرة أوكام لا تنص على أن الفرضية الأبسط هي الصحيحة، بل هي الأكثر احتمالًا لأن تكون صحيحة. وهذا أمر بالغ الأهمية ولا يجب أن يُنسى. على سبيل المثال، إذا لم يحضر صديق موعدًا متفقًا عليه، يمكننا طرح عدة فرضيات:

(1) نسي الموعد.

(2) نام ولم يستيقظ.

(3) تعرض لحادث مروري ومات.

(4) اختطفته مركبة فضائية من كوكب بعيد لإجراء تجارب جينية عليه.

جميع هذه الفرضيات تفسر غياب الصديق.. لكن وفقًا لشفرة أوكام، فإن الفرضية الرابعة مستبعدة تقريبًا، بينما تكون الفرضيتان الأولى والثانية الأكثر ترجيحًا، مع صعوبة تحديد أيهما أصح. ومع ذلك، ماذا عن الفرضية الثالثة؟ رغم كونها غير محتملة، إلا أنها تظل ممكنة. لذلك، عند تبني الفرضية الأولى أو الثانية، يجب أن نتذكر أن ذلك يستند إلى حساب احتمالي، وليس إلى يقين مطلق.

الجنون والخرافة

رغم استحالة الوصول إلى يقين تام، فإن مبدأ شفرة أوكام لا غنى عنه للتفكير العقلاني السليم.. وإهمال هذا المبدأ قد يدفعنا نحو الجنون أو الخرافة. إذا سمعت صوتًا في مطبخي وبدلًا من التفكير في أنه تيار هوائي أو كأس انزلق، اعتقد أن شبح جدي الراحل قرر تحريك الكؤوس بينما آخذ قليولة، فإنني بذلك أهمل مبدأ شفرة أوكام وأسير نحو منحدر الخرافة. يحدث الشيء نفسه في حياتنا الاجتماعية: إذا لم يتصل بي صديق، فإن التفكير العقلاني سيقودني إلى استنتاج أنه ربما نسي أو كان مشغولًا أو لم يكن مهتمًا. أما التفكير غير العقلاني، وتجاهل مبدأ شفرة أوكام، سيفتح الباب على مصراعيه للهواجس الاضطهادية والمؤامرات ضدي، وأشكال مختلفة من البارانويا.

إذا اعترفنا بالطابع الاحتمالي لنصل أوكام وافترضنا أنه يجب أن يكون دليلًا وليس عقيدة في التفكير العقلاني، فسوف نتبنى شكًا صحيًا تجاه الأمور غير المعتادة، مع موقف متواضع ومنفتح تجاه الأفكار الجديدة. بالطبع، هذا سهل القول ولكنه صعب التطبيق.

وهكذا، تظل شفرة أوكام سلاحًا فريدًا في أيدي العقول الباحثة عن الحقيقة. ليس وعدًا يقينيًا، ولكنه دليل رقيق، يقودنا عبر متاهات الشك نحو بصيصٍ من اليقين. يذكرنا هذا المبدأ بأن التبسيط ليس ضعفًا، بل فنًا؛ وأن العالم، مهما بدا معقدًا، يخفي في طياته نمطًا بسيطًا ينتظر أن يكتشف. دعونا نحمل هذه الشفرة بحكمة، لا كحكمٍ مطلق، بل كرفيق مخلص في رحلتنا لفهم أنفسنا والكون من حولنا.

وائل الشيمي

كاتب وأديب بدأ مسيرته الأكاديمية في مجال الصحافة، حيث حصل على بكالريوس في هذا المجال، وقاده شغفه بالإنسانية إلى دراسة علم النفس والفلسفة، وقد ساعدته دراسته وقراءاته في فهم أبعاد الشخصية البشرية وتعقيداتها. في روايته "الأجنحة السوداء" صور قضايا الوجود والتحديات النفسية التي يواجهها الإنسان في رحلة بحثه عن الإله، في سياق سردي مشوق يحمل في طياته تأملات فلسفية حول الحياة والموت، الحرية والقيود. كما أطلق في مجموعته القصصية "علامات لا تُمحى" مجموعة من القصص التي تتناول الجوانب المظلمة من التجربة البشرية، تاركاً آثارًا لا تُمحى في ذهن القارئ. إلى جانب أعماله الروائية والقصصية، ساهم الكاتب بالعديد من المقالات النقدية والحوارات الفكرية في الصحف والمجلات والمواقع الإعلامية، حيث شكلت كتاباته مساحة للتفكير والتحليل حول قضايا ثقافية واجتماعية معاصرة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

دعمك يهمنا ❤️

نحن نعمل بجد لتقديم محتوى مجاني ومفيد لك. هل يمكننا الاعتماد على دعمك بتعطيل مانع الإعلانات؟ شكرًا مقدمًا!