تحمل المسؤولية بين أجنحة الطموح وثقل الواجب

في عالم تزدحم فيه الأدوار وتتعقد فيه المسؤوليات، تظل فكرة تحمل المسؤولية بمثابة البوصلة التي توجه مسار الإنسان نحو النضج والإنسانية الحقة. فالمسؤولية ليست مجرد واجب مفروض، بل هي تعبير عن القدرة على مواجهة التحديات والالتزام بما هو أهم من الذات. تحمل المسؤولية يتطلب الشجاعة لمواجهة الأزمات، والقدرة على الاختيار بين الصحيح والخطأ، والرغبة في إحداث فرق إيجابي في الحياة. إنها ليست عبئاً على الكاهل، بل فرصة للنمو والتطور، لننمو ونصبح أكثر نضجاً في فهم أنفسنا والآخرين.
ثقل المسؤولية
يروي الطبيب النفسي مورجان سكوت بيك في كتابه الشهير “الطريق الأقل ارتيادًا (سيكولوجيا جديدة للمحبة والقيم التقليدية والنمو الروحي)” حكاية تدعو للتأمل… يحكي أنه أثناء عمله كطبيب في أحد المستشفيات، وجد نفسه منهكًا من كثرة العمل، فقرر أن يطلب من مديره حلًا لتلك المشكلة المزعجة. اكتفى المدير بالرد عليه بلطف شديد ولكن بحزم قائلاً له أن المشكلة تخصه وحده، وبالتالي يجب عليه هو أن يجد لها حلاً..
إن تحمل المسؤولية عن مشاكلنا الخاصة بدلاً من فرضها على الآخرين أو انتظار أن يحلوها لنا هي عادة مزعجة تُعرف بالمسؤولية. لقد انتظرنا جميعًا أن يُنقذنا الآخرون من مشكلاتنا. وأثقلناهم بمسؤولياتنا، وعلى وجه الخصوص عندما نكون نحن سبب تلك المشكلات. ليس هذا فحسب، بل نخدع أنفسنا بشأن سبب الأخطاء ونحاول أن نلقيها على الآخرين أو على العالم الشرير الغادر لنتجنب تأنيب الضمير.. يقع اللوم في الخلافات دائمًا على الآخرين الذين هم أنانيون أو متعنتون أو أغبياء أو وقحون..
سوء النية
وصف سارتر هذه الحيل بسوء النية. يعفينا سوء النية من المسؤولية عبر تصور أنفسنا مجرد ضحايا لقوى طبيعية تفوقنا. إنه عذر فعال يخفف من وطأة الواقع عبر صياغته بصيغة الشرط “لو” بدلاً من مواجهة الحقائق.. “لو كنتَ تستمع لي، لو كنتَ أكثر عقلانية، لو كان لدي وقت أكثر، لو ابتسم لي الحظ..”.. العيب ليس فينا، بل في تآمر المحيط ضدنا.
إنها حيلة ممتازة للنوم بشكل أفضل، لكنها أيضاً أذكى طريقة لتجنب حل المشكلات، لأن أهم خصائص الحياة أنها مصممة بطريقة لا تكون فيها الظروف مثالية أبدًا.. وهذه السمة تجعلها صعبة، ولكنها أيضًا مثيرة إذا ما قررنا مواجهتها والتأكيد على إرادتنا، خاصةً إذا واجهنا حقيقة أن مشكلاتنا هي مشكلاتنا نحن وليست مشكلات أي شخص آخر.. وأنه عندما تتحدانا الحياة، فالمطلوب منا أن نرد عليها. حتى لو كان ذلك يعني الخوض في بحر من الشكوك، أو اتخاذ الخيار غير الملائم. عندما عرض أحدهم على سارتر موقفًا صعبًا، اكتفى بالرد قائلاً: “أنت حر، اختر، اخترع..”..
نحن وحدنا بلا أعذار
نحن لا نحب تحمل المسؤولية لأنها تنطوي على غرورنا، فعندما لا نجد من نلومه، علينا أن نعترف بأننا نحن الذين يجب أن نكافح أو نستسلم.. إننا من يجب أن يختار ويتحمل العواقب. نحن بلا شك أحرار، حتى لو لم نحب ذلك، وهذا ما يتركنا مكشوفين ووحيدين، لذا نفضل وجود قوة أو شخص آخر يتحمل ثقل المسؤولية عنا… هناك قوى وأشخاص يؤثرون فينا هذا أمر مؤكد، لكننا نحن من اخترنا أو يجب أن نختار في النهاية.
يقول سارتر “نحن وحدنا، بلا أعذار”… الابتكار، والاختيار، واتخاذ القرار مع مواجهة الأمور وجهاً لوجه هو السبيل الوحيد لحل المشكلات، وقبل أي شيء قبولها كجزء منّا عندما تكون كذلك. وإذا كان على كل شخص أن يتحمل مشكلاته، فلا يصح أيضًا أن نتحمل مسؤوليات الآخرين، لأننا، بذلك، نحرمهم من جزء من حياتهم، ونضيف لأنفسنا حملاً لا يخصنا. عرف مدير سكوت بيك وسارتر كيف يعيدان المشكلات إلى أصحابها. ويمكننا أن نفترض أنه، لو كانت المشاكل تعود إليهما، لما حاولا تحميلها على غيرهما. مشكلتك هي مشكلتك، ومشكلتي هي مشكلتي…
الثمن الذي ندفعه
تتطلب الحياة أنواعًا عديدة من الشجاعة؛ منها القدرة على إدارة الأزمات والاستعداد لارتكاب الأخطاء. هذا على افتراض أنه عاجلًا أم آجلًا، وفي مكان غير متوقع، قد نؤذي شخصًا ما ونكون سببًا لمعاناته.. وربما يكون هذا الشخص هو آخر من كنا نرغب بإيذائه.. وأننا لن نتمكن دائمًا من أن نكون طيبين أو مفيدين أو حتى عادلين، مهما بذلنا من جهد. الأمر الثاني هو قبول فكرة أن الجميع لن يحبونا؛ لأننا لن نرضيهم، أو لأننا نقف عقبة في طريق خططهم، أو لأننا ببساطة لا نستحق محبتهم..
مواجهة القيود الذاتية، والأخطاء التي لا يمكن تجنبها، والظلم المفاجئ. هذا هو الثمن الذي يعرفه جيدًا من يختار تحمل المسؤولية. القيادة تعني الاضطرار إلى اتخاذ قرارات أكثر، وبعواقب أكبر، وهذا يعني الحكم على النفس والتعرض لحكم الآخرين بصرامة أكبر، مع امتلاك ذرائع أقل للتملص. من يتصدر الصفوف هو أول من يتلقى الضربات، ويجب عليه أن يمهد الطريق للآخرين. ومن يعتلي المنصة يكون أكثر عرضة للرؤية، ويجد زوايا أقل يمكنه الاختباء فيها. يجب عليه إزاحة العقبات، والدفاع عن المواقف، وتحمل المسؤولية، والشعور بثقل مدى اعتماد الآخرين على ما يفعله أو لا يفعله..
التضحية من أجل الآخرين
المسؤول هو من يستجيب. ويدرك القائد بسرعة أن لتحقيق مكسب، يجب أن يخسر أحدهم شيئًا، بدءًا من نفسه، حيث يخسر قوته، براءته، صلابته، وطمأنينته. يخسر تلك الراحة في عدم الاكتراث، وتلك الطمأنينة في معرفة أن هناك مخرجًا قريبًا. هل هناك رضا عن الشعور بالسيطرة، أو فخر بالاعتراف، أو متعة بالطاعة؟
ربما شيء من هذا يكفي البعض لتعويض السهر والجهد. لكن بمجرد أن يتوقف المرء للتفكير، يدرك مدى هشاشته وضعفه، ومدى عبث كل ما يغذي الأنا، ومدى الوحدة التي يشعر بها من عليه اتخاذ القرارات والتعامل مع غرور الآخرين. لا أعتقد أن الكبرياء يكفي لتحمل ضغط المسؤولية، ولا حتى الفضول يدوم طويلاً. إن ما يجعل المرء يتحمل قيادة الآخرين، إذا لم تكن اللا مبالاة أو النرجسية المفرطة، لا بد أنه يشبه ما يجعل العلاقات تدوم، عندما تدوم العلاقة فيرجع ذلك إلى الرغبة في مشروع مشترك أو المحبة التي تدفعنا إلى التضحية من أجل الآخرين، لأن العيش، والتعايش، وأخذ المبادرة، رغم ما ينطوي عليه من متعة، هو قبل كل شيء تضحية.
التحرر من تحمل المسؤولية
كم من المرات يرغب المرء في التحرر من تحمل المسؤولية، وكم من المرات يتمنى لو كان في وضع يتيح له أن يُنسى، وألا يكون لديه شيء ليتذكره، خاصةً، عندما كان عليه أن يتحمل، وأن يفرض باسم المصلحة العامة، وأن يدافع عن الجماعة ضد الفرد. ما أثقل الشر الذي يجب ارتكابه للحفاظ على الخير!
باختصار، ليس هناك ما يدعو للندم: الشخص هو سيد قراراته وعبد لنتائجها. كان لا بد من وجود من يقود، وكنت هناك. لا أشعر بالندم، ولا أشعر بالفخر الكبير أيضًا. كان هناك الكثير مما كان يمكنني القيام به بشكل أفضل: أخطائي لم تبق بداخلي، بل انتشرت آثارها في أماكن أخرى. علي أن أقبل ذلك، وأتطلع إلى أن يحررني المرفأ القادم، وأن أعود إلى نفسي، وحدي، خفيًا ومجهولًا، متحررًا مرة أخرى من ذلك القيد الثقيل الذي تفرضه المسؤولية..
وفي الختام، لا يعد تحمل المسؤولية مجرد عبء ثقيل، بل هو حافز يدفعنا نحو أعالي القيم الإنسانية. المسؤولية تمنحنا القدرة على التأثير في مسار حياتنا وحياة من حولنا، وهي حجر الزاوية لبناء مجتمع قائم على الاحترام المتبادل والوعي الجماعي. فكلما زادت مسؤولياتنا، زادت فرصنا في أن نصبح نسخاً أفضل من أنفسنا، ولن ندرك معنى الحياة حقاً إلا إذا تعلمنا كيف نتحملها بكل ما فيها من تحديات وأعباء.