رواية مذلون مهانون: أطروحة نفسية عن الأنانية

You are currently viewing رواية مذلون مهانون: أطروحة نفسية عن الأنانية
ملخص ومراجعة رواية "مذلون مهانون"

لم تحظ رواية “مذلون مهانون” بالشهرة الكافية مقارنةً بالجريمة والعقاب أو الأخوة كارامازوف، لكنها واحدة من أعظم روايات عملاق الأدب الروسي دوستويفسكي، إنها رواية متقنة تأسر القارئ منذ اللحظات الأولى، وتدور أحداثها حول مجموعة من الشخصيات العاجزة والمهانة في مؤامرة مضطربة مليئة بالحزن والألم، لكن يبدو أنها تمنح الأمل من جديد على مصير أبطالها في النهاية. دعونا نتعرف على ملخص رواية مذلون مهانون ثم نقدم تحليل سريع لهذه التحفة الأدبية.

ملخص رواية مذلون مهانون

يقص علينا القصة إيفان وهو كاتب شاب قرر أن البحث عن مكان جديد ليعيش فيه، وخلال بحثه تقابل مع رجل عجوز مع كلبه في أحد المقاهي. يموت الكلب في المقهى، ثم يخرج العجوز وهو يترنح من أثر الصدمة. يساعده إيفان ويحاول أن يصل به إلى منزله، وفي الطريق يموت الرجل. يعرف إيفان مكان إقامة العجوز، فيعلم أنه يقطن إحدى الغرف، ولم يدفع إيجاره لمدة شهور.

قرر إيفان أن يقطن غرفة الرجل، لعل أحد أقربائه يزوره. لكن بعد مرور خمسة أيام لم يظهر أحد، وذات يوم تظهر فتاة صغيرة تبلغ من العمر عشرة أعوام تقريباً على باب الغرفة لتسأل عن جدها العجوز. وعندما عرفت أنه مات هربت ولم تعد. ثم بعد أيام عادت من جديد، وأثناء هروبها كالعادة تبعها إيفان ليعرف قصتها.

كان إيفان متبني من عائلة متوسطة الحال، وهي عائلة إخمينيف المكونة من الزوج والزوجة والابنة ناتاشا وبالطبع إيفان. توصم العائلة بوصمة عار عندما تهرب ناتاشا مع ابن الأمير الثري فالكوفسكي على أمل الزواج منه. وكان الأمير الثري أرستقراطي أناني يحب الجاه والثروة، ولا يكترث لشيء غيرهما. أما ابنه أليوشا فهو فتى بريء متقلب المزاج، وعلى الرغم من حبه لناتاشا إلا أنه يدمر مستقبلها عن غير قصد ويضع علاقتها مع والديها على المحك. أحب إيفان نفسه ناتاشا من قبل ولكنه تخلى عن حبه هذا طالما ذلك سيسعد ناتاشا، وحاول على الرغم من ذلك أن يتوسط بين العاشقين.

فتاة فقيرة

يعرف إيفان أين تعيش الفتاة الصغيرة، ويخلصها من براثن قوادة عديمة الضمير، ثم يعتني بها في منزله. وبعد أن تشعر الفتاة الصغيرة بالعاطفة تجاهه تشرع في قص قصتها عليها. يعلم إيفان أنها كانت تعيش مع والدتها. وقد ولدتها في الخارج بعد أن هربت مع والدها وسرقت أموال أبيها. ثم تخلى عنها ذلك الرجل الذي أحبته وسرق مالها وتركها مع ابنتها لتعاني من الفقر وشظف العيش، حتى ماتت في النهاية نتيجة لمرض السل.

يريد الأمير الثري أن يزوج ابنه أليوشا إلى فتاة من عائلة ثرية تمتلك الكثير من الأموال التي يحتاج إليها، لذا يحاول بشتى الطرق أن يُبعد ابنه عن طريق ناتاشا، وفي الوقت ذاته يرفع قضية على والدها ويتهمه فيها بالسرقة. تضع كلتا القصتان إيفان في قلب الأحداث، ويصبح مراقباً بل ومشاركاً في الصراعات منذ بدايتها حتى نهايتها.

مراجعة رواية مذلون مهانون

تحليل رواية مذلون مهانون
الكاتب الروسي فيودور دوستويفسكي

كتبت رواية مذلون مهانون بعد وقت قصير من مرحلة حاسمة في حياة دوستويفسكي، وذلك بعد سجنه لمدة أربع سنوات، ثم خدمته اللاحقة كجندي لمدة خمس سنوات. وتعتبر إحدى الروايات الرئيسية في مسيرة دوستويفسكي، فهي بمثابة تأكيد على الاتجاه الذي ستتخذه مسيرته الأدبية الاستثنائية منذ ذلك الوقت فصاعداً. إنها عبارة عن سجل للحب المستحيل والدراما الاجتماعية ومجموعة رائعة من الشخصيات العظيمة التي استحقت ثناء تولستوي عليها.

تظهر أفكار دوستويفسكي الفلسفية والأخلاقية في كل فقرة، ويرشدك في كل صفحة، ويحملك عبر الصفحات مثل ريشة في مهب الريح. إننا لا نرى الكاتب أبداً، ولا نجده، يختبئ ولا يُدرك، في حين يمنح شخصياته مساحة في العمل لتبرز معالمها، ويرسمها تحت خلفية واضحة ككائنات حية يمكننا الشعور بها. التوتر في رواية مذلون مهانون ليس ساحقاً ولكن الغموض مستمر، والرغبة في معرفة ما يفكر فيه هذا الشخص أو ذاك، وما سيقول وماذا سيفعل، ونستمر هكذا حتى النهاية.

عمل عظيم آخر لدوستويفسكي تسود فيه أنانية المعاناة مع الشخصيات التي تسعى إلى إعادة خلق أحزانها بنفسها. يبدو أن اللذة التي نشعر بها أثناء الألم هي الصيغة المختارة في السرد. لكن ما يجذب القارئ بالفعل هو تغير المنظور قرب نهاية الرواية. وما يبدو للوهلة الأولى أنه عذاب ناجم عن مظالم الآخرين، يتحول إلى استشهاد بسبب الإهانات التي ألحقتها الشخصيات بأنفسها.

أول عالم نفس حقيقي

قال نيتشه بعد قراءة رواية مذلون مهانون أن دوستويفسكي هو أول عالم نفس حقيقي. حيث يستكشف في هذا العمل أغوار النفس البشرية، ويحفر ويدقق في العقل البشري. ويجعلنا نتساءل إلى أي مدى يمكن أن يفعل الإنسان لتحقيق رغباته الخاصة؟ وكيف يمكن أن يضحي الإنسان بأثمان باهظة من أجل حب مستحيل تحقيقه؟ وإلى أي مدى يمكن أن تتغلب أنانية الإنسان عليه؟

حقق إريك فروم قبل وقت طويل العديد من الاكتشافات فيما يتعلق بإخضاع الشخصية الإنسانية، لكن فيودور دوستويفسكي في رواية مذلون مهانون قسم الناس إلى ساديين ومازوشيين، إلى مهانين ومذلين. يحب بعض الأشخاص الخضوع بينما يحتاج البعض الآخر إلى إخضاع الآخر من أجل البقاء، وقد استطاع أن يوضح هذه الحقيقة بشكل يستحق الاحترام في روايته. لكن دوستويفسكي لا يتوقف عند هذا الحد، بل يضع الأديب أسس فلسفته المستقبلية في هذه الرواية وينحاز بوضوح إلى جانب المهانين، فمن خلال المعاناة يتطهر البشر، ومن خلال التسامح والمغفرة تتحقق السكينة. وعلى الرغم من الكآبة الواضحة التي تتميز بها أعماله إلا أنه متفائل للغاية، لأنه يعتقد أن الناس لديهم القدرة على التغيير. ويمكنك أن تتفق معه أو تختلف بناءً على تجربتك الحياتية الخاصة من خلال طرح هذا السؤال: ما الذي ستنتجه المعاناة وتجارب الحياة الصعبة للإنسان.. مزيد من الرحمة والتسامح والإنسانية أم الغضب تجاه العالم أجمع؟

الاختيار وفرصة الخلاص

تتتبع الرواية بوضوح قصتين رئيسيتين: تاريخ عائلة إخمينيف ومأساة عائلة سميث. يعتقد دوستويفسكي أن النتيجة في مواقف الحياة المماثلة يمكن أن تكون مختلفة وتعتمد على الاختيار الأخلاقي للشخص. فالرجل العجوز سميث لم يغفر لابنته، وتوفيت عائلته بأكملها، بما في ذلك نيللي البريئة. في حين وجد إخمينيف القوة للتسامح. وحصلت هذه العائلة على بعض فرص الخلاص. ولا يدعو دوستويفسكي إلى التواضع المذل لتحمل الإذلال والإهانات، بل يعتقد ببساطة أن فعل الخير والتسامح مع الأخطاء وتقديم يد المساعدة أمر ضروري للغاية. وهذه هي الطريقة الوحيدة للنجاة من متاعب الحياة القاسية.

أطروحة نفسية عن الأنانية

يمكن أن يتخيل القارئ أن رواية مذلون مهانون عبارة عن أطروحة نفسية لدراسة ظاهرة مثل الأنانية. فهذه الصفة هي إحدى أكثر الصفات التي تظهر بوضوح في صفحات الرواية. فالأمير يبدو أنه أناني بشكل فظ في جميع تصرفاته، وحتى أليوشا ابنه أناني أيضاً، فهو لا يستطع التخلي عن حياته الغنية مقابل حب حياته، ويدرك أنه لن يتمكن من إعالة أسرته إذا رفض والده إعالته. 

هناك نوعاً من الأنانية كذلك في ناتاشا المضحية التي تستمتع بمعاناتها، فهي لا تريد أن تلاحظ عذاب والديها. وقد أعمتها مشاعرها التي تكنها لأليوشا عن حب والديها، إنه حب أناني مستعبد، حتى إنها تخبر إيفان الذي تعلم بحبه لها عن تجارب حبها مع أليوشا، ولا تفهم مدى القسوة والأنانية التي تعامل بها الشخص الذي يحبها. حتى العجوزان سميث وإيخمينيف ليسا أقل أنانية في شكاواهما الغاضبة، وانغماسهما في الكراهية دون ملاحظة معاناة أحبائهما، فكبريائهما أقوى من الحب نفسه.

وتظهر صورة أنانية المعاناة بمهارة أكبر في شخصية نيللي التي تحب أن تشعر على الدوام وكأنها ضحية. حيث ترفض الفتاة الاعتناء بنفسها، ولا تريد أن تثق بأحد من الناس وتعتبرهم قاسيين. إنها مستعدة لتعاني من الجوع والتجول بلا هدف والتسول، ولا تريد تغيير نمط حياتها، بل تريد أن يعاني الجميع مثلها.

مشاعر مهووسة

إنه عمل متقن يأسر القارئ منذ اللحظة الأولى. معرفة علاقة الحب بين ناتاشا وأليوشا من خلال عيون إيفان، وحيل الأمير، ودخول كاتيا لإنهاء الرومانسية بين بطلي العمل الرئيسيين، قصة نيللي وكيف ينتهي بها الأمر بالارتباط مع الحبكة الرئيسية. كل هذه الأمر تجذب القارئ بشكل لا يوصف. إن شخصية إيفان باعتبارها المركز الذي تجتمع فيه كل هذه الحياة والقصص معاً، وأدائها أمام كل شخصية، تم بناؤه بشكل جيد بحيث يشعر المرء بالمودة والتعاطف مع الشخصية.

الإذلال والإساءة والإهانة التي تقوم بها الطبقات الاجتماعية المهيمنة في ذلك الوقت هي الحلول التي تقدمها الرواية من أجل تحقيق أهداف الخصم التافهة. ولكنها تسلط الضوء على الكفاح ضد الإهانة التي يتلقاها الشخصيات الرئيسية، والشعور بالكرامة والقيمة الإنسانية، وأهمية بناء العلاقات القائمة على الحب والتسامح والتضحية والحفاظ عليها يضفي معناً جديداً عليها. إن رواية “مذلون مهانون” هي الخيار الأمثل لأي شخص فقط الثقة في الحساسية الإنسانية.

فيودور دوستويفسكي هو أستاذ عظيم في خلق جو ثقيل وقمعي، وغالباً ما يكون أبطال إبداعاته الأدبية في حالة متطرفة من الهيجان الحسي، ويبدو لنا أن هذه الشخصيات على حافة الجنون حرفياً. إنها شخصيات مهووسة بمثل هذه المشاعر المثيرة للإعجاب، مع نوبات من الشفقة التي تعد السمة الرئيسية لأبطاله. لكن تأثير هذه المشاعر والعواطف لا تتلاشى وتترك أثراً باقياً لا يمحى على القارئ.

الشخصيات في الرواية

شخصيات رواية مذلون مهانون
صورة رمزية للفتاة الصغيرة في الرواية

تعاني الشخصيات في الرواية من مصير مظلم ومأساوي كما هو الحال في روايات المعلم الروسي دوستويفسكي. إيفان مجرد متفرج وراوي للأحداث، كما اعترف هو نفسه في البداية، وهو محكوم عليه بالموت بسبب نقص المال لشراء منزل دافئاً يمكنه الراحة فيه. ولا يواجه الأب المكلوم هروب ابنته فحسب، بل يواجه أيضاً دعوى قضائية مرهقة يفرضها عليه الأمير الظالم بدافع الانتقام والرغبة في المال. تعرف ناتاشا أن إيفان هو الرجل المناسب لها، وتعرف كذلك أنه يحبها، لكنها تفضل على ذلك العاطفة المضطربة التي يثيرها فيها أليوشا. إذا نظرنا إلى حال كل هذه الشخصيات نجد أن جميعها تتعرف للذل والمهانة بطريقة أو بأخرى، وبذلك تصبح مجرد دمى دمرها مصير كارثي ومأساوي.

بريق من الأمل

لكن مع مأساة كل شخصية وألمها نجد في رواية “مذلون مهانون” بريقاً من الأمل يخلص كل تلك الشخصيات التعيسة. ولا يتعلق الأمر بالقدرة على الخلاص فحسب، بل بنوع من الفداء الأخلاقي الذي يرفعهم فوق البؤس الذي يحيط بهم. إن شخصية إيفان، على سبيل المثال، لا تستسلم للحظة واحدة، ولا يبخل بجهوده في مساعدة ناتاشا على العودة إلى منزلها والتصالح مع والدها، على الرغم من إدراكه لاستحالة حبه لها، إلا أن ثباته يحوله إلى شخصية ملحمية مهيبة لقدرته على التسامح والتضحية. وكذلك تفعل ناتاشا التي تضحي بالغالي والنفيس من أجل حبها، حتى وصل بها الحال للتضحية بوالديها. وهذه التضحيات وذلك التسامح لا يُترجم إلى مصير أكثر رحمة، بل يحول هذه الشخصيات إلى شخصيات طيبة فوق العادة والمألوف. إنها شخصيات عظيمة بشكل مؤسف.

يمثل الأمير الثري الشر تماماً، وقد استوعب جميع السمات السلبية للأغنياء: الأنانية والقسوة والجشع. إنه مستعد لكسب المال بأي ثمن حتى وإن استخدم القسوة والخسة والنذالة. لقد تزوج من أجل المال، ثم سرق زوجته الحامل وطردها إلى الشارع، ولا يتذكر ابنه إلا إذا تسنت له الفرصة للربح من وراء زواجه. كما افترى على مالك الأرض ودمر حياته من أجل المال والانتقام.

يتميز الأمير ظاهرياً بوسامته وتعبيراته التي تتناقض مع طبيعته الداخلية، ليتضح للقارئ أن معاملته الطيبة وأسلوبه المهذب ليسا سوى قناع يُخفي وجهه الحقيقي. فهذه شخصية قوية وماكرة تستمتع بالتلاعب بالناس واستغلال نبلهم وشهامتهم لأغراضه الخاصة. خلق دوستويفسكي على الجانب الآخر صورة الراوي إيفان وهو كاتب طموح، نبله ورغبته في مساعدة الغرباء على الرغم من فقره يتعارض بشدة مع سخرية الأمير وأنانيته، حتى إن تخلى عن حبيبته لرجل آخر عندما رأى أن سعادتها ستكون معه.

اقتباسات من رواية مذلون مهانون

  • ليس العقل هو المهم، ولكن ما يرشده.
  • الأحمق الذي يعترف بأنه أحمق لم يعد أحمقاً!
  • إذا أردت أن تحظى بالاحترام، فاحترم نفسك أولاً.
  • القلب الكريم يستطيع أن يحب من باب الشفقة.
  • أعمق الأنانية تكمن في أساس كل الفضائل الإنسانية.
  • أنا أميل إلى الشك في السيئ قبل الخير، وهي سمة من سمات القلب القاسي.
  • نحن نخلق لأنفسنا الأحزان، بل ونشكو.
  • كل الحب يمضي، لكن الاختلاف يبقى إلى الأبد.
  • الإنسان طاغية بطبيعته ويحب أن يكون معذباً.
  • أليس من الأفضل للجميع أن يعبروا عن مشاعرهم؟ كم من الشر يمكن القضاء عليه بالصراحة!
  • يقولون إن الشخص الذي يتغذى جيداً لا يستطيع أن يفهم الجياع؛ لكن حتى الجائع لن يفهم دائماً غيره.
  • كنت أعرف من قبل وحتى في أسعد لحظاتنا كان لدي شعور بأنه لن يعطيني سوى العذاب. ولكن ماذا عليّ أن أفعل إذا كان العذاب منه الآن هو السعادة بالنسبة لي؟

لا يمكن الشك في أن رواية “مذلون مهانون” هي إحدى إبداعات دوستويفسكي، وتكاد تكون على قدم المساواة مع نصب أدبي عظيم مثل “الجريمة والعقاب”. قصة مظلمة تشرح الواقع الاجتماعي القبيح في القرن التاسع عشر مع حصة عادلة من الوعظ الأخلاقي. لقد أنتج دوستويفسكي كوكتيلاً صالحاً للشرب في جرعة واحدة، مع الاحتفاظ بحالة مثيرة للعقل لفترة طويلة.

اترك تعليقاً