قصة حدائق بابل المعلقة:أسطورة العالم القديم
كانت حدائق بابل المعلقة أعجوبة معمارية تخلب الألباب، وهي إحدى عجائب الدنيا السبع في العالم القديم، ورغم ذلك هناك مَن يشكك في وجودها التاريخي، نظراً لعدم وجود أدلة أثرية تثبت وجودها بالفعل، وكل ما نعرفه عنها كان من كتابات بعض المؤرخين القدماء. فكيف كان شكل هذه الأعجوبة؟ ومن بناها؟ وما هي القصة الكامنة وراء بناءها؟ وكيف كان مآلها؟ دعونا نخوض معاً رحلة عبر الزمن إلى بلاد ما بين النهرين القديمة لنستكشف قصة حدائق بابل المعلقة.
وصف حدائق بابل المعلقة
رسمت النصوص اليونانية والرومانية[1] وصفاً خلاباً لحدائق كانت فيما مضى أعجوبة من أعاجيب الزمان. صورة حية لحدائق غنّاء تعلو وسط المناظر الطبيعية القاحلة لمدينة بابل القديمة.. تنتشر النباتات المورقة مثل الشلالات من أعلى الحديقة إلى أسفلها.
احتلت حدائق بابل المعلقة مساحة 1600 متر مربع تقريباً، ووصل ارتفاعها إلى 90 متر. وكان هيكلها يتكون من عدة مصاطب متدرجة تشكل من بعيد غابة صغيرة على تل مرتفع. ولكل مصطبة رواق أو غرفة مقببة بها أعمدة تدعم وزن المحاصيل على الشرفة العلوية. وكانت هذه الأروقة محمية من أشعة الشمس المباشرة، ولكنها تتلقى ما يكفي من الضوء للنباتات. سمحت كذلك الحاويات العميقة من الأرض المدعومة بأعمدة والعازلة للماء تماماً بزراعة الأشجار والنباتات الكبيرة المتدلية والمعلقة من الجدران. وكانت نباتات الياسمين والورود والنرجس تملأ الهواء بعطورها العبقة. كما وفرت أشجار الفاكهة الغذاء المنعش لمن يحالفهم الحظ في قضاء ساعات في هذه الحدائق.
يقوم نظام هيدروليكي معقد بنقل المياه من النهر إلى البرك الموجودة على الشرفة العلوية حيث يتم توزيع المياه في جميع أنحاء الحديقة، كما يشكل جداول صغيرة وشلالات. وتتخلل الماء الجذور إلى الأعماق، لتبقي العشب أخضر دائماً. بينما تقوم الرطوبة المحيطة بتغطية أوراق أشجار الحور والسنط والصنوبر والنخيل بالندى. كانت حدائق بابل المعلقة مكاناً غير عادياً يمكن أن يلجأ إليه الإنسان ليحتمي من أشعة الشمس الحارقة وحرارة الصحراء الجافة.
السجلات التاريخية
هذا ما صورته لنا النصوص القديمة والمخطوطات التي كتبها العديد من المؤرخين في الماضي أمثال المؤرخ والكاهن البابلي بيرسوس الذي عاش في القرن الثالث قبل الميلاد. ومع مرور الزمن اقتبس مؤرخين كُثر من كتابات الكاهن البابلي بيرسوس. ومن أمثال هؤلاء المؤرخين المؤرخ اليهودي يوسف بن ماتيتياهو الذي عاش في القرن الأول قبل الميلاد.
الغريب في الأمر أن المؤرخ اليوناني هيرودوت الذي كان الأقرب من زمن نبوخذ نصر الثاني لم يذكر حدائق بابل المعلقة أبداً عند كتابته عن بابل[2]. لكن مع ذلك توجد وثائق كثيرة تتحدث عن هذه الأعجوبة، على سبيل المثال نصوص ديودور الصقلي وسترابو وفيلو البيزنطي الذي قال عنها:
“بها كل ما يمتع العين، وأطيب ما يمكن الاستمتاع به ينبت هناك”[3].
كان فيلو البيزنطي من أوائل من وضع قائمة عجائب الدنيا السبع في العالم القديم. وهي القائمة التي بدأها اليونانيون في العصر الهلنستي، وتضمنت القائمة أبرز المعالم المعمارية التي صنعتها يد الإنسان حتى ذلك الحين، مثل الهرم الأكبر بالجيزة، وتمثال رودس العملاق، وحدائق بابل المعلقة. ثم جاء الرسام الهولندي مارتن فان هيمسكيرك ليرسم هذه العجائب الخلابة من خياله على لوحات في القرن السادس عشر.
من بنى حدائق بابل المعلقة؟
يعود أصل الشك حول وجود حدائق بابل المعلقة من عدمه إلى أنه في وقت إعداد قائمة عجائب الدنيا السبع، خلال القرن الرابع قبل الميلاد، كانت مدينة بابل وسكانها بالفعل مجرد أثار. ونظراً لقلة الأدلة الموجودة مع العديد من الشهادات والموروثات التاريخية التي لا يمكن إثبات صحتها، اقترح الكثيرون أن حدائق بابل المعلقة ليست أكثر من مجرد أسطورة من أساطير الزمن الغابر. فلا نعرف عن مساحاتها الخضراء إلا من الأوصاف الموجودة في سجلات المؤرخين اليونانيين والرومان القدماء. وهي أوصاف رومانسية لحدائق رائعة، وليست الحدائق المعلقة التي تستحق أن تكون أعجوبة عالمية.
نظريات تاريخية
كانت هناك العديد من النظريات التي تتعلق ببناء حدائق بابل المعلقة. ومنها أن نبوخذ نصر الثاني بناها في القرن السادس قبل الميلاد. وكان السبب الرئيسي لتشيده هذه الحدائق هو إرضاء زوجته أميتيس التي كانت في الأصل فارسية من ميديا – منطقة تقع في إيران الحالية. حيث قدم الملك البابلي حدائق بابل المعلقة كهدية لزوجته التي كانت تشعر بالحنين إلى وطنها في بلاد فارس التي كانت تتمتع بمناظر طبيعية مختلفة تماماً عن تلك الموجودة في بابل. فهناك النباتات الجميلة والجبال الخضراء والغابات الكثيفة. تفكر الملك نبوخذ نصر الثاني في كيف يجعل الصحراء تتفتح بالأزهار والنباتات. لكن ليفعل ذلك كان من الضروري وجود أعجوبة في هندسة الري أيضاً. يعتقد العلماء أنه كان من الممكن استخدام نظام من المضخات وعجلات المياه والصهاريج لرفع ونقل المياه من نهر الفرات القريب إلى الجزء العلوي من الحدائق.
وتشير وثائق أخرى إلى أن نبوخذ نصر قام ببساطة بتوسيع ما كانت قد بنته الملكة الآشورية القديمة (والأسطورية تقريباً) سميراميس، مؤسسة مدينة بابل، في القرن الحادي عشر قبل الميلاد. بينما تقول نظرية مختلفة أيضاً إلى أن حدائق بابل المعلقة قد بناها بالفعل الملك الآشوري سنحاريب (704 – 681 قبل الميلاد) في قصره في نينوى.
أين اختفت حدائق بابل المعلقة؟
كانت معظم الروايات اليونانية والرومانية المتعددة عن الحدائق المعلقة مكتوبة بخط اليد بعد قرون من الدمار المزعوم لهذه العجيبة الخلابة. ورغم ذلك فعلى مدار قرون بحث علماء الآثار عبثاً عن بقايا حدائق بابل المعلقة. لدرجة أن مجموعة من علماء الآثار الألمان أمضوا عقدين في مطلع القرن العشرين في محاولة لاكتشاف علامات العجائب القديمة دون أي يوفقوا إلى معرفة أي شيء عن هذه الأعجوبة. مما دفع الكثير من علماء الآثار للتشكيك في وجود حدائق بابل المعلقة من الأساس. واعتقدوا أن عجائب الصحراء المفترضة مجرد سراب تاريخي أو أسطورة قديمة.
الأبحاث والاكتشافات الجديدة
تعتقد الدكتورة ستيفاني دالي الباحثة الأثرية في جامعة أكسفورد بإنجلترا أنها وجدت دليلاً على وجود عجائب العالم القديم الأسطورية. وقد ذكرت ذلك في كتابها الذي يحمل عنوان “لغز الحديقة المعلقة في بابل: عالم بعيد المنال تتبعه عجائب[4]“، والذي نشرته مطبعة جامعة أكسفورد.
تؤكد دالي أن السبب وراء عدم العثور على أي آثار للحدائق المعلقة يرجع إلى أنها لم يتم تشيدها هناك من الأساس. لقد أمضت الباحثة عقدين من الزمان في البحث عن حدائق بابل المعلقة ودراسة النصوص المسمارية القديمة. وتوصلت في النهاية إلى أن الحدائق كانت متواجدة بالفعل، لكن ليس في المكان الذي كان علماء الآثار يبحثون فيه، بل هذه الحدائق قد شيدن على بعد 300 ميل شمال بابل أي في نينوي عاصمة الإمبراطورية الآشورية المنافسة للإمبراطورية البابلية.
كما توصلت الباحثة إلى أن الملك الآشوري سنحاريب، وليس نبوخذ نصر الثاني، هو الذي بنى هذه الأعجوبة في أوائل القرن السابع قبل الميلاد، أي قبل قرن مما كان يعتقده العلماء في السابق.
حدائق نينوي المعلقة
كشفت الحفريات الأخيرة حول نينوى[5]، بالقرب من مدينة الموصل العراقية الحديثة عن أدلة على وجود نظام قنوات مائية واسع النطاق ينقل المياه من الجبال. بينما تحمل هذه القنوات نقوشاً تقول “سنحاريب ملك العالم“. كما صورت النقوش البارزة من القصر الملكي في نينوى حديقة مورقة تسقيها قناة مائية. أما السبب الرئيسي في الارتباك الذي حدث بشأن موقع الحدائق فربما يكون بسبب الغزو الآشوري لبابل عام 689 قبل الميلاد. فبعد الاستيلاء على نينوي تم إطلاق اسم “بابل الجديدة” عليها.
هذه الاكتشافات الجديدة يمكنها أن تُدحض الأفكار القائلة بأن العجائب القديمة كانت مجرد سراباً تاريخياً. لكنها قد تُثبت أيضاً أن حدائق بابل المعلقة تم تسميتها بشكل خاطئ ويجب أن يكون اسمها الحقيقي حدائق نينوى المعلقة. وفي النهاية نصل إلى أن حدائق بابل المعلقة لم تكن أسطورة اخترعها بعض المؤرخين، بل كانت ذات يوم واحدة من عجائب الدنيا التي صنعتها يد الإنسان.
المراجع
[1] Hanging Gardens of Babylon.
[2] Why Did Herodotus not Mention the Hanging Gardens of Babylon?
[3] Philo of Byzantium’s on the Seven Wonders.
[4] The Mystery of the Hanging Garden of Babylon: An Elusive World Wonder Traced.
اعتقد أنها كانت موجودة في الحقيقة، وليست أسطورة، وسوف يأتي اليوم الذي يثبت فيه علماء الآثار ذلك..
شكرا لك على هذا المقال الخيل الزاخر بالمعلومات. أكثر ما أعجبني فيه جزء البحث عن مكان الحدائق وربطها بحدائق نينوي المعلقة التي لم أكن أعرفها أو سمعت عنها من قبل.
يمكن أن يكون الخطأ في التسمية هو ما أصاب العلماء بالحيرة
نأمل ذلك بكل تأكيد، فالحضارة السومرية كانت عظيمة بالفعل
مقال وافي … شكرا لك
لماذا كل هذه الضجة حول وجودها أو عدمه
ما صنع هذه الضجة كتابات المؤرخين اليونانيين عنها
العفو يا صديقي
انهم يبحثون في المكان الخطأ
من الممكن ذلك، وكما أشار الباحثون إلى أن الخطأ ربما جاء من التسمية فهي حدائق نينيوي وليست بابل