قانون الكارما: قدر مكتوب أم مصير نصنعه بأيدينا؟

تتشابك خيوط المصير البشري في نسيج غير مرئي، وهنا يولد السؤال الأبدي: هل نحن صانعو أقدارنا أم أن الحياة تمضي بنا وفق قانون خفي لا نملك حياله إلا الامتثال؟ يقف قانون الكارما عند مفترق الفلسفة والتجربة مثل مرآة تعكس أفعالنا، لا لتعاقب أو تكافئ، بل لتُظهر لنا ببساطة ما زرعناه في تربة الزمن.
الإنسان، في بحثه عن المعنى، لطالما تأرجح بين الإيمان المطلق بالحتمية المطلقة، حيث كل شيء مكتوب، وبين الإيمان بحرية الإرادة، حيث كل شيء ممكن. لكن ماذا لو كانت الحقيقة أكثر تعقيدًا من هذين النقيضين؟ ماذا لو كنا ننسج أقدارنا بخيوط غير مرئية، لحظة بلحظة، بينما تظل بعض الخيوط الأخرى امتدادًا لما غزلناه في الماضي، سواء كنا ندرك ذلك أم لا؟
هذا هو جوهر الكارما، لا كقيد يقبض على أعناقنا، بل كدعوة للفهم، ومسؤولية تلقي بين أيدينا مفاتيح التغيير. فبين الظلم والعدل، وبين العبثية والمعنى، تمتد الحكاية التي نحاول سبر أغوارها، بحثًا عن إجابة قد تكون، في نهاية المطاف، أكثر بساطة مما نظن، وأشد عمقًا مما نتصور.
ما هو قانون الكارما؟
الكارما هي إحدى العقائد الأساسية في البوذية، وهي القانون الأزلي الذي يحكم أفعال البشر بميزان العدالة الخفي. ليست الكارما مجرد مفهوم ديني، بل فلسفة عميقة تمتد جذورها إلى ما قبل ظهور بوذا. ومع ذلك، كان بوذا هو من صاغ هذا المفهوم وألبسه حلة الوضوح، حتى صار أحد أسس الفكر البوذي.
تعني الكارما، في جوهرها، الفعل أو السلوك، إذ تشمل كل فعل متعمد، سواء أكان فكريًا أم لفظيًا أم جسديًا. فما يصنعه الإنسان بيديه، أو يفكر فيه بعقله، أو ينطق به بلسانه، هو في نهاية الأمر بذور تُزرع في تربة الحياة، لتنبت ثمارها في وقت ما، هنا أو في حياة أخرى. إنها سلسلة مترابطة من النتائج التي تبنى على اختيارات الإنسان وقراراته.
لكن الكارما ليست سجنًا من الماضي، بل هي نهر يتدفق بين الماضي والحاضر والمستقبل، يشكل حاضرنا من ماضينا، ويخط ملامح المستقبل من حاضرنا. ولعل أبسط تعبير عن هذا القانون ما تعلّمه الأم لطفلها حين تهمس له:
كن صالحًا، فستنال السعادة والحب، وإن أسأت، فلن تجد غير الحزن والجفاء..
باختصار، الكارما هي قانون السبب والنتيجة في المجال الأخلاقي. ترتبط الكارما بصورة كبيرة بمبدأ تناسخ الأرواح. فكما نزرع، نحصد ما نزرعه في مكان ما وفي وقت ما، سواء في نفس الحياة التي نحياها أو في الحياة المستقبلية. إن ما نحصده اليوم هو ما زرعناه سواء في الحاضر أو في الماضي.
قانون الكارما والقوة العليا
ما يميز الكارما عن التصورات الدينية الأخرى للعدالة أنها لا تعتمد على قوة عليا توزّع المكافآت والعقوبات، بل إنها قانون مستقل، كالجاذبية التي لا تميز بين الأجساد الساقطة. السعادة والشقاء، وفقًا للكارما، ليسا هدايا تمنح ولا عقوبات تفرض، بل هما ببساطة نتائج لأفعال سابقة، سواء في هذه الحياة أو في حيوات سابقة.
وعلى خلاف المعتقدات الدينية التي ترى في الحياة الآخرة ميدانًا للقصاص أو الثواب، فإن البوذية ترفض فكرة الحساب في عالم ما بعد الموت، وترى أن العدالة تتحقق عبر التناسخ والتجدد، حيث تستمر الروح في التجسد، محمولة على أجنحة أفعالها، إلى أن تبلغ حالة التحرر المطلق.
ليس هذا المفهوم مجرد نظرية فلسفية، بل هو موقف وجودي يتبناه البوذي لمواجهة مصاعب الحياة. فإن وُلد فقيرًا، قيل له: “إنها نتيجة كارما سابقة، ولكنك تستطيع اليوم أن تزرع ما سيؤتي ثماره في المستقبل”.. وإن عاش في ثراء، فهو ليس أكثر من محصلة أفعال سابقة طيبة. فالحياة دائرة لا تتوقف، وما نصنعه الآن هو ما سنجده لاحقًا، تمامًا كما يحصد الفلاح ما زرعه في حقله.
تفسير أسباب الكارما
يتذمر الكثير من الناس من حياتهم، ويوجهون أسئلة لا حصر لها عن الأسباب الكامنة وراء كل ما يحدث لهم في هذه الحياة. هذه الأسئلة على غرار لماذا ولدت فقيرًا في هذه الحياة؟ تجيب البوذية بسبب الكارما الشريرة في الماضي.. ولماذا ولد هذا الشخص غنيًا؟ ترد البوذية بسبب كارماه الطيبة. وفي نهاية الأمر نجد أنها تنصح المؤمنين:
“كن راضيًا عن نصيبك المتواضع؛ ولكن افعل الخير لتكون غنيًا في حياتك القادمة. كن متواضعًا وتحمّل معاناتك بصبر. افعل الخير الآن. حينها يمكنك أن تكون على يقين من حياة أفضل وأكثر سعادة بعد الموت.
لكن، هل تعني الكارما أن الإنسان محكوم بمصيره، أسير لما فعله في ماض قد لا يذكره؟ هنا يكمن الفارق الجوهري بين الكارما وبين التصورات الجبرية للقدر. فالإنسان ليس دمية في يد قوى غامضة، بل هو فاعل قادر على تغيير مسار حياته. فكما يستطيع البحّار توجيه سفينته رغم الرياح والتيارات، يمكن للإنسان، عبر إدراكه وخياراته، أن يغيّر مسار الكارما الخاصة به.
بوذا نفسه رفض الحتمية الصارمة التي تردّ كل شيء إلى الأفعال الماضية، وقال:
لو كان كل شيء مشروطًا بأفعالنا السابقة فقط، لكان البشر محكومين أن يكونوا مجرمين أو فاضلين بلا حول لهم ولا قوة..
إن الحرية الإنسانية جوهرية في البوذية، ولو كانت الكارما تحكم كل شيء بشكل مطلق، لتحولت الحياة إلى آلة لا عقل لها، تسير وفق برامج مكتوبة سلفًا، دون مجال للإرادة أو التغيير. وهذا يتناقض مع جوهر الفلسفة البوذية، التي تؤمن بأن كل لحظة تحمل في طيّاتها إمكانات جديدة، وكل فعل جديد يمكنه إعادة رسم المسار.
لا شيء يحدث عبثًا من منظور الكارما. الفروق بين البشر – بين الغني والفقير، الذكي والبسيط، الصحيح والمعاق – ليست مصادفات، بل امتداد لما كان. غير أن هذا لا يعني أن الطفل الفقير يستحق معاناته، أو أن المظلوم مسؤول عن ظلمه، بل يعني أن الحياة ليست سلسلة من الأحداث العشوائية، بل هي شبكة معقدة من الأسباب والنتائج.
وإن كانت الكارما تفسّر التفاوت بين البشر، فإنها تمنحهم أيضًا مفتاح التغيير. فلا شيء مكتوب سلفًا، ولا قدر لا يمكن تغييره. إنما الإنسان هو من يخلق مستقبله بأفعاله، وهو من يبني جنته أو جحيمه، لا في عالم آخر، بل هنا والآن.
قانون السبب والنتيجة
إذا تأملنا في طبيعة الكون، وجدنا أن كل شيء قائم على قانون السبب والنتيجة. لا شيء يحدث بلا سبب، وإن لم ندركه. هذه الفكرة، رغم بساطتها الظاهرة، تحمل في طياتها تصورًا مذهلًا للوجود: كل فعل، مهما بدا صغيرًا، يترك أثره. كل فكرة، كل كلمة، كل خيار، هو حجر يُلقى في ماء الحياة، فتتسع دوائره حتى تصل إلى الشاطئ، وإن طال الزمن.
ولعل هذا هو جوهر التعاليم البوذية: أن تدرك أنك لست مجرد متلقٍ للأحداث، بل أنت جزء من هذا النسيج الكوني المعقد، قادر على غزل خيوط مصيرك بيديك. فإن كنت تعاني اليوم، فلا تيأس، لأنك قادر على تغيير ذلك. وإن كنت تنعم بالسعادة، فكن واعيًا لأسبابها، وازرع المزيد منها في رحلتك.
مَن هو فاعل الكارما؟
لا يوجد فاعل لقانون الكارما. أو كما قال بوذا نفسه:
لا يوجد فاعل… هناك مَن يفعل..
فما معنى هذا الكلام. على سبيل المثال الجدول الذي نراه هو حقيقة واضحة. أما بالمعنى النهائي فهذا الجدول يتكون من مجموعة من الصفات. ففي حين يمكن للعالم أن يستخدم مصطلح ” الماء” في المواقف العادية، إلا إنه في المختبر يستخدم مصطلح H 2 0.
وعلى غرار هذا الأمر. ففي المواقف العادية يتم استخدام مصطلحات مثل الرجل والمرأة والوجود والذات وما إلى ذلك. لكن كل هذه المصطلحات تتكون من ظواهر نفسية وفيزيائية تتغير باستمرار ولا تبق كما هي لمدة لحظتين متتاليتين. لذلك، لا يؤمن البوذيون بكيان غير متغير. لا يؤمنون بفاعل بعيدًا عن الفعل، لا يؤمنون بمدرك بعيدًا عن الإدراك، بواعي فيما وراء الوعي. إذن مَن الذي يختبر التأثير؟ الإجابة هي: الإرادة هي نفسها الفاعل، والشعور هو نفسه حاصد ثمار الأفعال.
التفاوت بين البشر
ما هو سبب عدم المساواة الموجودة بين البشر؟ ولماذا يجب أن يولد شخص في أحضان الرفاهية، ويتمتع بصفات عقلية وأخلاقية وجسدية جيدة، وآخر في فقر مطلق غارق في البؤس؟ لماذا يجب أن يكون أحدهم معجزة عقلية والآخر أحمق؟ ولماذا يجب أن يولد شخص بصفات الأنبياء وآخر له ميول إجرامية؟ لماذا يمتلك البعض مواهب وقدرات عبقرية والبعض الآخر مصاب بالعمى أو الصمم أو التشوهات الجسدية؟ إما أن هذا التفاوت بين البشر له سبب، أو إنه عرضي بحت. فلا يوجد شخص عاقل يفكر في عزو هذا التفاوت، وهذا التنوع إلى فرصة عمياء أو حادث محض.
في هذا العالم لا يحدث شيء لشخص لا يستحقه لسبب أو لآخر. وفي العادة لا يستطع رجال الفكر العادي فهم السبب أو الأسباب الفعلية. كما لا يقتصر السبب أو الأسباب المحددة غير المرئية للتأثير المرئي بالضرورة على الحياة الحالية، بل يمكن إرجاعها إلى ولادة سابقة قريبة أو بعيدة.
وفقًا للبوذية، لا يرجع هذا التفاوت إلى الوراثة والبيئة أو “الطبيعة والتنشئة” فحسب، بل يرجع أيضًا إلى الكارما. بمعنى آخر، إنه نتيجة أفعالنا في الماضي وأعمالنا الحالية. نحن أنفسنا مسؤولون عن سعادتنا وبؤسنا. نحن نصنع الجنة الخاصة بنا. كما نصنع الجحيم الخاص بنا. نحن مهندسو مصيرنا.
هذا التفاوت الواضح بين البشر دفع واحدًا من الشباب الباحثين عن الحقيقة إلى الذهاب لبوذا بغرض سؤاله عن هذه المشكلة المعقدة.
تساءل الشاب قائلاً: ” ما السبب في أن نجد بين البشر قصير العمر وطويل العمر، الصحيح والمريض، القبيح والجميل، الفقير والغني، الجاهل والحكيم؟” وكان رد بوذا: ” كل الكائنات الحية لها أفعال (كارما) وهي ميراثها، وأسبابها الأخلاقية. فالكارما هي التي تميز الكائنات وترفعهم إلى حالة عالية أو تهبط بهم إلى حالة منخفضة”..
الكارما بين الوراثة والميول الخفية
نولد محملين ببصمات وراثية لا مفر منها، تحملها إلينا الجينات كما يحمل النهر ماءه إلى البحر. لكن، في أعماقنا، هناك شيء آخر، شيء لا تستطيع الخلايا أو الأحماض النووية تفسيره بالكامل. إنها القدرات الفطرية الغامضة، التي تنبع من مكان أعمق من مجرد سلاسل الحمض النووي. وفقًا لقانون الكارما، فإن هذه الميول الفطرية لم تأت من فراغ، بل هي إرث من حيوات سابقة، تراكمت عبر الزمن كطبقات من الضوء والظل، تشكّل جوهر من نكون.
هذه الميول الكارمية المتراكمة ليست مجرد ظلال ماضٍ غابر، بل قوى تتجاوز أثر الجينات، فتشكل طبيعتنا الجسدية، والعقلية، والروحية. والدليل على ذلك، كما تراه الفلسفة البوذية، أن العظماء لا يفسرون بسلالة أسلافهم وحدها. خذ بوذا، مثلًا، الذي ورث كغيره خلايا والديه الملكيين، لكنه لم يكن انعكاسًا لهما، ولا امتدادًا لعظماء السلالة. بل كان شيئًا متفردًا، شيئًا لا تفسره سوى الكارما، التي خطّت مساره منذ حيوات سابقة، وجعلته مختلفًا عن كل من سبقه.
قانون الكارما والـقـدر
يخلط البعض بين مفهوم الكارما والقدرية، فيرون أن الكارما لا تختلف كثيرًا عن الاعتقاد بأن هناك قوة إلهية تتحكم في مصائرنا، كما لو كنا بيادق على رقعة شطرنج، تتحرك وفق إرادة عليا لا يد لنا فيها. لكن الفارق جوهري، لأن البوذية لا ترى الإنسان كائناً محكومًا، بل كائناً مبدعًا، صانعًا لمستقبله بيديه.
لو كانت الكارما تسير كقدر لا يمكن تغييره، لما كان هناك مجال للاختيار، ولأصبحت الحياة مجرد خط مستقيم مرسوم مسبقًا. لكن الحقيقة أن الكارما ليست قانونًا مغلقًا، بل تيار متغير، تتدفق فيه الأفعال والنوايا، فيخلق كل منها تأثيرًا يمكن للإنسان إعادة توجيهه. إنها ليست سجنًا، بل خريطة، وما زال بإمكاننا أن نختار أي الطرق نسلك.
الإنسان ليس عبدًا لماضيه، وليس مجرد انعكاس لجيناته أو أفعاله السابقة. بل هو نسيج من الإمكانات، تتداخل فيه الكارما مع الإرادة، والماضي مع الحاضر، والاختيار مع الضرورة. صحيح أن أفعالنا الماضية تلقي بظلالها على حاضرنا، لكنها لا تقيدنا، بل تمنحنا مفاتيح لفهم قوانين الوجود، حتى نصبح أسياد مصائرنا، لا عبيدًا لها.
الاعتقاد بالكارما ليس مجرد تفسير فلسفي للحياة، بل هو موقف يعزز المسؤولية الأخلاقية. البوذي الذي يفهم الكارما لا يستسلم، بل يعمل على صنع مستقبله بوعي وإرادة. إنه يدرك أن كل لحظة تمنحه فرصة جديدة لبذر الخير، وأنه مهما كانت حمولته من الماضي ثقيلة، فهو قادر على التخفف منها، والانطلاق نحو مصير يصنعه بنفسه.