ديوجانس الكلبي: حكايات أشهر ساخر في التاريخ

You are currently viewing ديوجانس الكلبي: حكايات أشهر ساخر في التاريخ
قصص ديوجانس الكلبي

ديوجانس الكلبي هو واحد من أعظم الشخصيات في تاريخ الفلسفة الغربية، وعلى الرغم من إنه لم يترك وراءه أعمالاً فلسفية جديرة بالتأمل إلا أن حياته كانت مليئة بالحكايات والمغامرات التي تعبر بوضوح عن فلسفة هذا الرجل.

لمحات من حياة ديوجانس الكلبي

وُلد ديوجانس في سينوب، وهي مستعمرة يونانية في تركيا الحالية. وكان ابناً لمصرفي يعمل في سك العملة. وما إن شب ديوجانس حتى بدأ يظهر أن لديه رؤية غريبة للعالم. عمل مع والده لفترة من الزمن، حتى تم نفيهما بعد ثبوت تهمة تزوير العملة عليهما.

انتقل ديوجانس بعد نفيه إلى أثينا. وهناك أعجب بأفكار الفيلسوف أنتيستنيس الأب الروحي للفلسفة الكلبية. حاول ديوجانس أن يقنعه بقبوله كتلميذ له، إلا أن أنتيستنيس رفض الشاب مراراً وتكراراً، ومع إصرار ديوجانس قبله في النهاية. ما لم يكن يعرفه أنتيستنيس في ذلك الوقت أن تعاليمه عن حياة التقشف الشديد والخروج عن الأعراف الاجتماعية ستؤخذ من قبل تلميذه إلى حدود متطرفة لا مثيل لها. لينتهي الأمر بديوجانس ليكون أشهر ساخر في التاريخ. لكن قبل المضي قدماً علينا أن نستعرض لمحة عن الفلسفة الكلبية وأفكار الفيلسوف أنتيستنيس معلم ديوجانس الكلبي.


الفلسفة الكلبية

تأسست الفلسفة الكلبية على يد أنتيستنيس، الذي أعاد تفسير العقيدة السقراطية معتبراً أن الحضارة لم تكن بالضرورة خيراً وأن السعادة والفضيلة ليسا كما يروّج لهما. فالسعادة بالنسبة لديوجانس هي حياة بسيطة متسقة مع الطبيعة، وهذا ما سعى إليه ديوجانس في حياته. وكان يعيش حياته وفقاً لهذا مع السخرية من كل شيء تقريباً.

كان أنتيستنيس أحد تلاميذ سقراط، وتتمحور فلسفته حول كيفية عيش الإنسان حياة سعيدة وفاضلة، فهو يرى أن الإنسان يحمل في نفسه العناصر الضرورية ليكون فاضلاً وسعيداً. لكن من أجل تحقيق هذا الهدف، عليه تحقيق الاستقلالية الشخصية من خلال العقل والممارسة، وما ينبغي أن يسعى إليه الإنسان هو التحرر حتى من نفسه، لتصبح خالية من المشاعر والرغبات والممتلكات والصداقات والأحزان، وغيرها.

ومن خلال هذه النظرة ندرك أن أسعد رجل هو من لديه أقل الاحتياجات والمخاوف، لذا نجد أن معتنقي الفلسفة الكلبية يحتقرون الثروة نفسها، ويتخلصون من أي مخاوف مادية غير ضرورية. وبهذه الطريقة اقتصرت ممتلكاتهم على الحد الأدنى وعاشوا فقط بما يمكنهم حمله على ظهورهم. وقد تُرجمت هذه الأفكار إلى أسلوب حياة حيث أصبح هؤلاء الساخرين يتركون لحاهم وشعرهم دون تهذيب، ويرتدون ملابس قديمة ويحملون على أكتافهم حقيبة صغيرة بها ما يحتاجون إليه فقط. وبالطبع عارضوا القوانين والعادات والتقاليد والأعراف الاجتماعية، من خلال السخرية وعدم الاحترام، وهو ما يفسر أفعال الشخصية الغريبة لبطلنا ديوجانس الذي استمتع بانتقاد واستفزاز المجتمع في عصره.

اقرأ أيضًا: الفلسفة العدمية: الحياة ليس لها معنى

فلسفة ديوجانس الكلبي

فلسفة ديوجانس الكلبي
أهم مبادىء ديوجانس الكلبي

كان حجر الزاوية في فكر ديوجانس هو التخلي عن كل شيء حتى يحصل على الاستقلال، ومن هنا بحث عن جرة فخارية ليقيم فيها، وكان يرتدي نفس العباءة القذرة والبالية ليلاً ونهاراً، ولم يتوقف الأمر على ذلك بل مشى حافى القدمين في الصيف والشتاء، ولم يكن معه سوى حقيبة ووعاء ليشرب منه الماء، وعندما رأى يوماً صبياً يشرب بيده مباشرة ألقى بالوعاء معتبره ترفاً لا لزوم له.

كان هوس ديوجانس الكلبي هو تحقيق حياة كاملة ومستقيمة، مليئة بالفضيلة وخالية من الرذائل. فمن أهم مبادئ الفلسفة الكلبية ضبط النفس في المشاعر والرغبات، وهذا ما يقود الناس إلى ما اعتبروه أعظم فضيلة: الاستقلال. هذا الاستقلال هو الذي حررهم من الآخرين ومن أنفسهم، فلم يكونوا بحاجة إلى أي شيء أو أي شخص.

المواطنة العالمية

كان ديوجانس من أوائل الفلاسفة الذين دافعوا عن الكوزموبوليتانية – المواطنة العالمية – وعرّف نفسه بأنه “مواطن عالمي”، رافضاً أن يُخصص له منزل أو مكان إقامة. كذلك كان ينتقد الألعاب الرياضية ويرى أنها غبية ومضيعة لوقت يمكن استغلاله بشكل أفضل في محاولة أن تكون أكثر حكمة. لكنه كان يقدر الصيد بكافة أنواعه، لأنه يساعد الإنسان على الاستقلال والحصول على الطعام، لكن أي شيء آخر كان مجرد هراء بالنسبة له.

يمكن رؤية فلسفة ديوجانس بوضوح في أن العيش بسعادة هو أمر بسيط للغاية. فالأغبياء – كما وصفهم – يكرسون أنفسهم في وظائف مرهقة تسرق حيواتهم، ويشترون أشياء لا يحتاجونها ويسعون وراء ملذات لا لزوم لها تحبطهم وتفقرهم. ومن هنا يعرف الرجل الحكيم من أين تبدأ المشكلة – الرغبات والاحتياجات – ويحاول القضاء عليها في مهدها. هذه التعاليم كانت شائعة جداً عبر التاريخ، ونجد أثارها في البوذية والكونفوشيوسية وبعض الأديان الأخرى.

وبنفس الطريقة التي كان بها ديوجانس تلميذاً لأنتيستنيس، كان أقراطس الطيبي تلميذاً لديوجانس، وهو مواطن ثري تمتع بمكانة اجتماعية جيدة لكنه تخلى عن كل شيء ليتبع معلمه. كتب أقراطس العديد من الأعمال الأدبية التي حاول فيها غرس أفكار المدرسة الكلبية الساخرة بشكل غير مباشر. واستطاع تقديم فلسفته بطريقة أكثر متعة وإثارة للاهتمام، كما تمكن من نقل أفكار معلمه.

اقرأ أيضًا: لمحات من حياة الفيلسوف المُعذب فريدريك نيتشه

أغرب حكايات ديوجانس الكلبي

حكايات ديوجانس ليس لها مثيل في عالم الفلسفة. إحدى العادات التي كانت لدى ديوجانس والتي أزعجت المجتمع اليوناني بشكل كبير في عصره كانت عادة ممارسة العادة السرية في الأماكن العامة. فذات يوم، وبينما كان ديوجانس يفعل ذلك وسط حشد من الناس، عاتبه بعض الرجال على ما يفعله، فأجاب بلا تردد: “أتمنى أن أقتل جوعى أيضاً بفرك بطني!” فلم ير ديوجين أي خطأ في موقفه. علاوة على ذلك، فقد افتخر بأنه لا يحتاج إلى أي شخص لتهدئة دوافعه الجنسية. لقد كان بطل الاكتفاء الذاتي.

المصباح

تقول إحدى الحكايات الأخرى عن ديوجانس أنه كان ينام في جرته ليلاً، فمر به أحد الأشياء وترك له مصباحاً بجواره حتى يتمكن من الرؤية في الظلام. لكن الرجل الطيب لم يعرف الكثير عن ديوجانس الذي لم يهتم مطلقاً بامتلاك أي شيء. ومن هنا شرع في استخدام المصباح كأداة لاستفزاز الناس في الشارع. حمل المصباح في وضح النهار وراح يسير في شوارع أثينا، ويصرخ قائلاً: “ابحث عن رجل شريف”.

طبق العصيدة

قصة أخرى تقول أنه كان يأكل طبقاً من العصيدة حين مر به معلمه أريستيبس، فسأله الأخير الذي كان معتاداً على إطراء النبلاء والحكام بسخرية: “إذا تعلمت الإطراء على بعض أعيان المدينة يمكنك التوقف عن تناول العصيدة”. فرد عليه ديوجانس قائلاً: “إذا أكلت العصيدة، ربما تتوقف عن التزلف والتسول”.

ديوجانس والإسكندر

ربما كانت أكثر حكاياته شهرة، هي قصته مع الإسكندر الأكبر. حيث كان الإمبراطور يسير في المدينة مع حاشيته عندما وجد ديوجانس مستلقياً في منتصف الشارع. كان الإسكندر مدركاً لشهرته وعبقريته، وكان مفتوناً برؤيته للحياة. قال له الإمبراطور: “ما هو الشيء الذي تريده، وسأحققه لك على الفور”. فأجابه سريعاً: “الشمس.. عليك أن تتنحى جانباً لأنك تحجب عني الشمس”. في تلك اللحظة انفجرت حاشية الإمبراطور بالضحك والشتائم ضد الفيلسوف. لقد كان ملك مقدونيا الشاب الذكي الذي كان تلميذاً لأرسطو معجباً جداً باتساق هذه الشخصية المتجولة، لذا قال: ” لو لم أكن الإسكندر لوددت أن أكون ديوجانس”.

اقرأ أيضًا: أقوال الفلاسفة عن الموت: نموت.. لكن العرض يستمر!

السنوات الأخيرة من حياة ديوجانس

أغرب حكايات الفلاسفة
ديوجانس الكلبي

ألقي القبض على ديوجانس خلال رحلة من رحلاته، وأسر كعبد على يد بعض القراصنة. بينما انتهى به الأمر في مدينة كورنثوس، حيث اشتراه النبيل اكسينياديس، الذي عرف شهرته. لذلك، اتخذ قرار شرائه ليكون معلماً لأبنائه، مع منحه كامل الحرية لذلك الأمر. قبل الرجل الحكيم العرض وذهب إلى العمل. هناك أجبر الصغار على المشي حفاة الأقدام مثله، وعلمهم ارتداء نفس الملابس دائماً، وتناول الطعام بشكل مقتصد، وشرب الماء فقط. لقد علمهم أن يعيشوا، بشكل أساسي، كمتهكمين حقيقيين. لكنه لم يكتف بمراقبة عاداتهم، بل قام أيضاً بتوجيه عقولهم بشكل رائع، وجعلهم يحفظون مقاطع كاملة من أعظم الحكماء والشعراء في ذلك الوقت، فضلاً عن تعليمهم ركوب الخيل والتعامل مع القوس والسهام. ويبدو أنه ظل في هذه المدينة حتى لقى حتفه.

تعددت الأوقاويل بشأن موت ديوجانس الكلبي. فمنها أنه مات مريضاً بعد تناوله لأخطبوط نيء. وهناك أقاويل أخرى تقول أنه كتم أنفاسه حتى مات. وغيرها تقول أن كلباً مصاباً بالسعار عضه، فمات على إثر هذه العضة. وعلى أية حال حينما سأله البعض عما يريد أن يفعلوه بجسده بعد موته، فأجابهم أنه لا يريد أن يدفن، بل عليهم ترك جثته خارج أسوار المدينة لتأكلها الحيوانات. وعندما سألوه عن خشيته من الموت، قال لهم: “عندما أكون موجود فلا وجود للموت، وعندما أكون ميتاً فلا وجود لي، فلماذا اهتم بالموت”. وبعد موته أقام له أهل مدينة كورنثوس نصباً تذكارياً عبارة عن عمود رخامي عليه رسم لكلب.

اقرأ أيضًا: المعضلات الأخلاقية في الفلسفة

متلازمة ديوجانس

اللافت للنظر أنه عندما نتحدث اليوم عن الاضطراب النفسي المعروف باسم “متلازمة ديوجانس”، فإننا نشير إلى اضطراب لا علاقة له بحياة الفيلسوف. حيث يتميز هذا الاضطراب بالاكتناز القهري لجميع أنواع المواد، حتى ينتهي الأمر بمن يعانون منه إلى العيش في ظروف غير إنسانية وغير صحية. بينما ديوجانس كان على العكس من ذلك، فلقد احتقر كل شيء وعاش حياته دون امتلاك أي شيء.

سُمي الكلابيون بهذا الاسم بسبب أسلوب الحياة البسيط والحر الذي اختاروه. وهو أسلوب يرفض جميع الأعراف الاجتماعية ويحتقرها. ومثلما كانت تعيش الكلاب متجولة حرة طليقة عاش رواد الفلسفة الكلبية. وعلى الرغم من الانتقاد الشديد الذي تعرضوا له في عصرهم، إلا أنهم لم يكونوا منافقين بأي حال من الأحوال، بل على العكس كانوا أكثر الناس صدقاً في التاريخ. لقد انتقدوا كل شيء بغض النظر عن مكانة محاورهم. وعصوا أي قانون لم يوافقوا عليه. ولم يضبطوا أفعالهم وفقاً للعادات والتقاليد، والتي يمكن أن تجلب لهم العديد من المزايا. لكنهم رفضوا كل هذا. باختصار لم يعرضوا أنفسهم للبيع.

اقرأ أيضًا: فلسفة إبيكتيتوس: أفضل الطرق لتحقيق السلام الداخلي

أقوال ديوجانس الكلبي

  • فلنمدح من يحتقر المال، ونحذر من الاقتداء به.
  • العبيد يخدمون أسيادهم، والأشرار يخدمون أهواءهم.
  • الأشخاص الذين ينغمسون في الرفاهية هم مثل أشجار التين التي تنمو على حافة الهاوية. ليس الرجال هم من يجمعون الثمار، بل الغربان والنسور.
  • الجشع هو سبب كل الشرور.
  • العظماء مثل النار، ومن الملائم عدم الاقتراب منها أو الابتعاد عنها.
  • كلما زادت معرفتي بالناس، كلما أحببت كلبي.
  • السبيل الوحيد للإنسان للحفاظ على حريته هو أن يكون دائماً على استعداد للموت من أجلها.
  • الخير الوحيد هو المعرفة، والشر الوحيد هو الجهل.
  • الحكمة بمثابة قيد للشباب، وتعزية للمسنين، وثروة للفقراء، وزينة للأثرياء.

وفي الختام يبدو لنا أنه برغم مرور العديد من القرون على وفاة مثل هؤلاء، إلا أننا لازلنا لم نفهم تعاليم ديوجانس والكلاب، وربما تكون هذه هي المشكلة الكبرى في العالم اليوم. فلا يوجد أحد نزيه يوقظنا بوحشية من عاداتنا الخاطئة.

اترك تعليقاً