الفلسفة المعاصرة: أبرز التيارات الفكرية في القرن العشرين

تقف الفلسفة المعاصرة كنافذة مشرّعة على مشهد العالم المضطرب. هي ليست مجرد تأمل هادئ أو انعزال عن الواقع، بل صرخة الروح في وجه تعقيدات الوجود وأسئلته المتكررة. تحمل في طياتها وجع الإنسان الحائر بين ظلال الماضي وضوء المستقبل، وتغزل من خيوط الشك والحقيقة معطفًا يحمي العقول من برد العدمية. في عالم تهزه العواصف الأخلاقية والسياسية، تمد الفلسفة يدها، لا لتعطي إجابات نهائية، بل لتضيء الطريق بأسئلة أعمق تعيد تشكيل ملامح الإنسانية. دعونا نخوض معًا رحلة نتعرف فيها على أهم مدارس الفلسفة المعاصرة وروادها..
هيجل: المثالية
ترسخت في العلوم فكرة التقدم من منتصف القرن الثامن عشر وحتى الفترة الرومانسية في القرن التاسع عشر. حيث بدأت تتشكل أنظمة علمية تفسر نشأة نظامنا الشمسي على أنه عملية متسلسلة زمنياً من تكاثف السدم. وقد أظهر ذلك الطابع التاريخي والتقدمي ليس فقط للكون البشري، بل أيضاً للعالم الطبيعي. ومن جهة أخرى، اقترح لامارك (1744 – 1829) نظاماً تطورياً يفسر التنوع والتشابه بين الأنواع. ورغم أن النظام اللاماركي قوبل بالتجاهل، إلا أنه أدخل مفهوم التطور في العلوم البيولوجية، معارضًا بذلك فكرة الثبات التي كانت تهيمن على العلوم السابقة.
لعبت الحرية كذلك دورًا مركزيًا في الحياة والتأمل الفلسفي والسياسي للأوروبيين في هذه الفترة.. وقد انعكس ذلك في أعمال كانط. لقد أجبرت الثورتان الأمريكية والفرنسية، وسقوط الحكم المطلق، وصعود البرجوازية المتزايد الغرب إلى إعادة التفكير في ظل نموذج جديد: الحرية. إن الفلسفة الكانطية نفسها هي انعكاس لمركزية الحرية. حيث يعتبر الإنسان فاعلاً نشطًا في عملية المعرفة ضمن نظرية المعرفة التي قدمها هذا الفيلسوف.
كانت هذه الاهتمامات المتعلقة بالحرية والتقدم هي البوابة التي ظهرت منها المدرسة المثالية الألمانية، التي أطلق عليها أيضاً اسم “المثالية المطلقة” لتمييزها عن “المثالية المتعالية” الخاصة بكانط. يكمن الفرق الأكبر بين كانط وأتباعه المثاليين في أن كانط يعتبر أن النومينون (الشيء في ذاته) غير قابل للمعرفة. وأن الأسئلة الكبرى في الميتافيزيقا (مثل الله، والروح، والعالم) ستظل بلا إجابة. أما رواد المدرسة المثالية المطلقة فقد رأوا أن بالإمكان تقديم إجابات لتلك الأسئلة. مما جعل الكثير منهم يتبنون مواقف شبه صوفية أو ينخرطون في ميتافيزيقا متشددة. حيث يمجَّد دور الحرية لدى الإنسان وقدرته على الوصول إلى المعرفة الكاملة لما هو واقعي. وفي كل الأحوال، أصبحت التوترات بين المحدود واللامحدود قضية رئيسية لا تقتصر على هؤلاء المفكرين المثاليين، بل تشمل السياق التاريخي للرومانسية بشكل عام.
الجدلية في الفلسفة المعاصرة
سعى هيجل (1770 – 1831) من خلال جدليته إلى حل هذا التوتر بين المحدود واللامحدود، مستخدماً مفهوم التقدم الذي كان ذا قيمة كبيرة في تلك الحقبة. بالنسبة لهذا الفيلسوف المثالي، فإن الجدلية تمثل صيرورة الواقع نفسه، حيث يتحول “ما هو كائن” (المحدود) إلى “ما ينبغي أن يكون” (اللامحدود). ومع ذلك، يفترض هيجل أن المحدود واللامحدود ليسا سوى لحظتين في واقع واحد مطلق، أو بعبارة أخرى، يشمل المحدود اللامحدود والعكس صحيح.
تتكون الجدلية عند هيجل من ثلاث مراحل: الأطروحة، ونقيض الأطروحة، والتركيب. تمثل الأطروحة المرحلة التأكيدية، على سبيل المثال: البذرة. أما نقيض الأطروحة فهو نفي الأطروحة، عندما تتحلل البذرة وتكف عن كونها بذرة لتتحول إلى نبات. وأخيراً، يمثل التركيب نفي النفي، أي التأكيد الذي يحتوي على توتر الأطروحة ونقيضها، كما في المثال عندما تولد بذرة جديدة من النبات. وكما يظهر في المثال، فإن كل لحظة جدلية تتضمن اللحظة السابقة وتكون نتيجة لمستقبلها. يرى هيجل أن هذا العملية تتكرر في كل ما هو واقعي، سواء في الفكر أو في تاريخ الإنسان أو في تطور الكائنات، وقام بتحليل كل ما هو موجود من منظور هذا التقدم الجدلي.
تنبع الجدلية الهيجلية من حدس هيراقليطس بأن كل شيء في حالة تغير مستمر. إنها عملية تطورية تتكرر باستمرار، حيث تصبح كل تركيبة أطروحة جديدة في حركة جدلية جديدة.
الفلسفة الماركسية: كارل ماركس
لم يكن لفلسفة كارل ماركس (1818 – 1883) تأثير عميق في تاريخ الفلسفة المعاصرة فحسب، بل كانت أيضًا من أبرز العوامل التي شكّلت مسار التاريخ في القرن العشرين. قام ماركس ببناء فلسفة سياسية واقتصادية تستند على جدلية هيجل، لكنه استبدل مثالية هيجل بالمادية. ولم تسعى هذه الفلسفة المعاصرة إلى انتقاد أوضاع الظلم واستغلال الطبقة العاملة في زمنه فحسب، بل سعت إلى تغييرها جذريًا.
استبدل ماركس الجدلية الهيجلية بالمادية الجدلية. حيث لم تعد الفكرة هي الهدف النهائي للمادة، بل أصبحت المادة هي الشرط الأساسي لوجود الفكرة. بمعنى آخر، يرى ماركس أن النظام الاجتماعي بقوانينه وأعرافه وفنونه وتقنياته هو نتاج احتياجات الإنسان المادية، وليس العكس. فليست الأيديولوجيا هي التي تشكل واقعنا الملموس، بل الواقع المادي الملموس هو الذي يشكل أيديولوجياتنا.
العبودية في فكر ماركس
انطلاقًا من هذا المبدأ، أكد ماركس على أن الإنسان لا يغير الطبيعة بعمله، بل الحقيقة هي أن العمل يغيّر الإنسان نفسه، ويعيد تشكيل علاقاته الاجتماعية وطريقة فهمه للعالم. كان أول نمط إنتاج هو “الشيوعية البدائية”، حيث كانت الملكية جماعية وتقسيم العمل بسيطًا. في هذا النظام، كان الأفراد يقضون معظم وقتهم في تأمين ضروريات الحياة، ولم تكن هناك فائض سلع للتجارة. انهار هذا النظام البدائي عندما ظهرت الملكية الخاصة، مما أدى إلى خلق طبقة أرستقراطية (الأكثر امتلاكًا) وطبقة من العبيد (المملوكين). ومع ولادة مفهوم الملكية والثروة، بدأ تقسيم العمل بهدف إنتاج فائض أكبر، وبالتالي تراكم الملكية. أدى تراكم الممتلكات واتساع الفوارق بين الأغنياء والفقراء إلى وضع حد للشيوعية البدائية وظهور نظام اجتماعي جديد: العبودية.
ظهرت هذه الأنظمة الاجتماعية القديمة التي تقوم على العبودية في الغرب. وتجنب الأحرار العمل الذي كانت تقوم به المجموعة الاجتماعية ذات الأغلبية: العبيد. شهدت مثل هذه المجتمعات ولادة مفاهيم مثل أوقات الفراغ، والأسواق، والفصل بين الريف والمدينة. لكن هذا النظام انهار بسبب الصراع بين السادة والعبيد وعدم قدرته الاقتصادية على الاستمرار. وانتهت هذه الحقبة بانتصار المسيحية خلال العصور الوسطى.
الصراع بين البرجوازية والنظام الإقطاعي
ظهر المجتمع الإقطاعي من تناقضات هذا المجتمع القديم. حيث كان الفلاح حرًا اسميًا، إذ لم تكن هناك عبودية، ولكنه كان تحت رحمة السيد الإقطاعي الذي يدين له بالولاء ويجبره على تقديم جزء كبير من إنتاجه. في هذا النظام، وبفضل التجارة والربا، ظهرت طبقة حضرية جديدة تستفيد من نظام إنتاج جديد: النظام الرأسمالي. ومن خلال التجارة وصناعة المنتجات، برز البرجوازي – أي ساكن المدينة – كطبقة اجتماعية جديدة. لكن خنق النظام الإقطاعي البرجوازية ونظامها الإنتاجي، مما أدخل الطبقة البرجوازية في صراع مع النبلاء. ومن هذا الصراع ولد نظام الإنتاج الرأسمالي في أوروبا خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.
من المهم ملاحظة أنه عندما يصبح النظام غير قادر على الاستمرار، فإنه ينهار وينشأ نظام جديد نتيجة للصراع الطبقي. يشير ماركس إلى أن كل نظام إنتاج يخلق أيديولوجيا تبرر وجوده وتسهم في استمراره.. على سبيل المثال، خلال العصر الإقطاعي، كانت المسيحية تبرر الفوارق الاجتماعية من خلال التأكيد على أن التواضع والفقر يكافآن في الحياة الآخرة. وبالتالي، فإن النظام الإنتاجي ينتج الأيديولوجيا.. وهذه الأيديولوجيا تدعم النظام الإنتاجي.
أزمة العقل المستنير: نيتشه
إذا كان هناك سمة تميز الحداثة بشكل عام وعصر التنوير بشكل خاص، فهي الثقة بالعقل كوسيلة لتحقيق التقدم الأخلاقي والاجتماعي للجنس البشري. لم تكن فكرة العقل باعتباره المحرك الأساسي للتقدم موجودة في العالم القديم، الذي تبنى مفهومًا دائريًا للزمن، ولا في المسيحية، التي نظرت إلى تاريخ العالم على أنه انحطاط منذ سقوط آدم وحواء. سيوجه فكر فريدريك نيتشه (1844 – 1900) هجومًا مباشرًا على إيمان التنوير بإمكانية العقل كأداة للتطور والتقدم.
يرى نيتشه في الفلسفة المعاصرة أن المركزية التي أولتها فلسفة التنوير للعقل أو الحقيقة ليست سوى انعكاس للتوحيد المسيحي، الذي اعتبر الله الحقيقة المطلقة التي تدعم نظام العالم. كما أكد على أن العقلاني التنويري استبدل الإيمان بالله بالإيمان بالعقل أو الحقيقة أو التقدم، لكن جذور الفلسفة الأوروبية وعيوبها تبقى هي ذاتها تلك التي للمسيحية. وكما احتقرت المسيحية العالم المادي باعتباره غير حقيقي مقارنة بلا نهائية الله، فقد احتقر الفلاسفة الأوروبيون الحياة الواقعية من أجل العقل، الذي هو بالنسبة لنيتشه مجرد أداة للتكيف البيولوجي. بسبب هذا التركيز الذي يوليه نيتشه لقيمة الحياة المباشرة مقابل العقل، يعتبر فيلسوفًا حياتيًا.
الإنسان المتفوق
لقد خدم العقل الفلسفي نفس غرض الأخلاق المسيحية: معاملة الإنسان بوحشية ضد دوافعه الحيوية، وإبعاده عن إرادته الحقيقية نحو أوهام مثل “الجنة” و”الفضيلة الأخلاقية” و”الحقيقة”، وغيرها. ومع إدراك نيتشه لانهيار هذا النموذج، أعلن عن “موت الإله”، والذي يعني زوال أي أساس ثابت يضمن الإيمان بـ”ما وراء”. الحقيقة الوحيدة هي الحياة، والعالم الوحيد هو هذا العالم. العقل، الإله، الدولة، وغيرها من المفاهيم الكبرى ليست سوى ملاذات لأرواح ضعيفة مرضت من الكراهية المسيحية للحياة. لكن هذه الملاذات العظيمة قد اختفت، وماتت، وأصبحت مهجورة عبر مسار التاريخ ولم تعد صالحة.
في مواجهة موت كل هذه القيم، يجد الإنسان الغربي نفسه تائهًا، بلا حقيقة يتمسك بها. ويتوقع نيتشه أن الكثيرين سيفضلون العودة إلى أحضان إله جديد أياً كان، لكن قلة قليلة فقط ستكون قادرة على بناء قيم جديدة للحياة، والرغبة، والسعادة. هذه القيم لن تكون مطلقة أو مضمونة من كيانات متجاوزة للعالم، بل ستكون قيمًا مستمدة من إرادة صانعيها أنفسهم، الذين يمثلون “الإنسان المتفوق” وسط القطيع الذي يتشبث بإنكار الحياة.
الفلسفة التحليلية وأبرز ممثليها
بدأت ملامح الحركة التحليلية تتشكل في أوائل القرن العشرين. تبنّى الفلاسفة المنتمون إلى هذه الحركة موقفًا معارضًا للتجريدات الميتافيزيقية أو الشعرية الزائفة التي هيمنت على التفكير الفلسفي في ذلك الوقت. وقد تأثروا بشدة بالتجريبية، وافترضوا أن ما هو حقيقي يظهر في لحظية التجربة المباشرة. وتتكون عناصر هذا الواقع التجريبي وترتبط فيما بينها من خلال اللغة، التي تنسج شبكة المعاني، وبالتالي ما نطلق عليه “الواقع”..
بناءً على ذلك، يرى الفلاسفة التحليليون في الفلسفة المعاصرة أن وظيفة الفلسفة هي تحليل اللغة، وليس الواقع نفسه، الذي لا يمكن تحليله إلا من خلال اللغة ذاتها. وستكون المهمة الفلسفية هي فحص البنية اللغوية وعلاقاتها، مع اقتراح تمثيلات أكثر دقة وصحة للواقع باستخدام اللغة.
برتراند راسل: الذرية المنطقية
يعد الفيلسوف وعالم الرياضيات برتراند راسل (1872 – 1970) أحد الآباء المؤسسين للفلسفة التحليلية. قدم راسل إسهامات تم تبنيها لاحقًا من قبل معظم الحركة التحليلية. يؤكد راسل على أن عناصر الواقع تتألف من “ذرات” منفصلة لا توجد علاقة جوهرية بينها. والعلاقة بين هذه العناصر هي من عمل عقولنا، وبالتحديد لغتنا؛ وقد تتطابق هذه العلاقة مع طبيعة تلك العناصر أو لا تتطابق، لكنها تظل شيئًا مختلفًا عن العناصر ذاتها. تُعرف هذه النظرية عن الواقع باسم”الذرية المنطقية”.
أدخل راسل كذلك فكرة الوضعية المنطقية في الحركة التحليلية. تشير هذه الفكرة إلى أن مهمة الفلسفة المعاصرة هي تحليل البنى المنطقية للغة وإنشاء نظام منطقي- رياضي يمنح اللغة قيمة منطقية أو يقينية.
لودفيغ فيتغنشتاين: الألعاب اللغوية
تأثر الفيلسوف النمساوي لودفيغ فيتغنشتاين (1889 – 1951) بأفكار راسل وغيره من الوضعيين، وكتب كتابه الشهير “رسالة منطقية فلسفية” الذي يعد العمل الوحيد الذي نُشر في حياته. أخذ فيتغنشتاين فيه النظرية الذرية والوضعية المنطقية لراسل إلى نتائجها النهائية. وقد نشرت ملاحظات أخرى لفيتغنشتاين بعد وفاته، مثل “تحقيقات فلسفية”. حيث وسّع استنتاجاته وقدم مفهوم “الألعاب اللغوية” إلى الفلسفة التحليلية.
استبعد فيتغنشتاين في مرحلته الأولى أنواع اللغة التي لا تخدم وصف العالم. أما في مرحلته المتأخرة، فتبنى فكرة أن أي بيان لغوي يمكن أن يكون ذا معنى، حتى لو لم يقدم إجابات قابلة للتحقق حول الواقع. لم يكن هذا يعني أن فيتغنشتاين يستخف باللغة المنطقية، لكنه أدرك أن هذا النمط من اللغة ما هو إلا “لعبة لغوية” واحدة بين العديد من الألعاب الأخرى. يشتهر مثاله الذي يقارن بين اللغة المنطقية – الرياضية والتخطيط الحضري للأحياء الحديثة بشوارعها المستقيمة والمتقاطعة، مقابل تخطيط المدن القديمة الذي يتميز بشوارع متعرجة وأزقة ضيقة. تشبه اللغة اليومية تخطيط المدن القديمة وهي جوهر اللغة، ولكن جميع الألعاب اللغوية لها شرعية لوصف جزء من الواقع الذي يتوافق معها.
أقرّ فيتغنشتاين في مرحلته الثانية بأن اللغات ترتبط بأنماط الحياة المتعددة والتفسيرات المتنوعة. وليس الأمر مماثلًا للصلاة أو وصف لوحة فنية، أو حل مسألة رياضية؛ فكل لعبة لغوية لها قواعدها الخاصة التي تضفي عليها شرعية داخل سياقها. إضافة إلى ذلك، فإن الألعاب اللغوية ليست هياكل مغلقة وثابتة، بل تتطور تاريخيًا مع مستخدميها.
جون أوستن: أفعال الكلام
تأثر جون لانجشو أوستن (1911 – 1960) بنظرية فيتغنشتاين في مرحلته الثانية، وبنى نظريته حول “أفعال الكلام”. رأى أوستن أن الفلاسفة السابقين افترضوا أن الوظيفة الوحيدة ذات الأهمية للغة هي وصف حالة ما أو ذكر بعض الحقائق. أطلق أوستن على هذا الافتراض “المغالطة الوصفية”، التي تغفل أن للغة وظائف أخرى لا تقل أهمية عن الوظيفة الوصفية. يميز أوستن بين نوعين من الجمل: الجمل الوصفية مثل “البيت لونه أخضر”، والتي يمكن تقييمها وفق المفهوم الكلاسيكي للغة؛ والجمل الأدائية مثل “أتمنى ألا تمطر!”، والتي لا تخضع لهذا المفهوم. ويؤكد أوستن أن اللغة هي فعل بحد ذاته، وأن الأفعال الوصفية ليست سوى نوع من بين أنواع متعددة من أفعال الكلام.
تيارات الفلسفة المعاصرة الأخرى في القرن العشرين
من بين تيارات الفلسفة المعاصرة في القرن العشرين يمكننا تسليط الضوء على الوجودية، والنظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت، وما بعد الحداثة.
الوجودية
الوجودية مصطلح يطلق على عدة تيارات فلسفية تتخذ من الحالة الوجودية للإنسان نقطة انطلاق لها. ظهرت هذه الفلسفة المعاصرة في بداية في القرن التاسع عشر مع الفيلسوف سورين كيركغارد (1813 – 1855). ولقد ورث أفكار كيركغارد في النصف الأول من القرن العشرين مفكرون ذوو أصول وإلهامات متنوعة مثل الوجودي المسيحي (غابرييل مارسيل)، والماركسي (جان بول سارتر)، والأديب (ألبير كامو). ظهر هذا التيار كرد فعل على خيبة الأمل التي سببتها مأساة الحرب العالمية الأولى في أوروبا، ولاحقًا على ظهور الأنظمة الشمولية (النازية، الشيوعية، الفاشية). وفي مواجهة هذا الإحباط والفلسفات المجردة التي أهملت الإنسان، تموضعت الوجودية كفكر إنساني.
تعتبر الوجودية أن الحرية هي جوهر الإنسان، وترفض المعاني المتعالية التي اقترحتها التقاليد الغربية سواء على المستوى الأخلاقي أو السياسي أو الديني. الإنسان هو صانع حياته الخاصة ولكنه مسؤول عنها أيضًا. إلى جانب التحرر الذي يأتي من الاعتراف بالطبيعة المفتوحة لوجودنا، يجب على الإنسان أن يفترض أن الحياة هي عملية بحث عن المعنى التي يمكن أن تجلب له القلق والوحدة والحزن.
يفترض الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر (1905 – 1980) في الفلسفة المعاصرة أن القلق هو الثمن الذي يدفعه الإنسان مقابل حريته. الحرية المطلقة للإنسان الوجودي تعني غياب أي تحديد مسبق، حيث يكون كل عمل يقوم به الإنسان بابًا يُفتح بحرية ولكنه يُغلق أبوابًا أخرى. لذلك، يشعر الإنسان الواعي أن حريته لن تكتمل أبدًا، لأن كل فعل حر يتطلب قرارًا لا رجعة فيه. وفي مواجهة هذا القلق، المعروف أيضًا باسم “الغثيان”، يمكن للإنسان أن يختار أن يعيش بـ”سوء نية”، هاربًا من حريته باللجوء إلى الأعذار (المجتمع، الدين، الأيديولوجيا)، أو أن يعيش بـ”حسن نية”، متقبلًا حريته وقراراته دون ضمان بصوابها.
مدرسة فرانكفورت
نشأت مدرسة فرانكفورت بالتوازي مع الوجودية ولكن بطابع سياسي أكثر. أحد أهم السمات المشتركة لمفكري هذه المدرسة هي التأثير الماركسي. ومع ذلك، سرعان ما انفصل هؤلاء الفلاسفة وعلماء الاجتماع عن النسخة السوفيتية للماركسية، مكونين خطًا تفسيريًا أكثر انفتاحًا سياسيًا.
سمة أخرى مشتركة بين هؤلاء المفكرين هي نقدهم للإيديولوجيا، والتي تُفهم على أنها واقع نظري يعوق الفرد عن التحكم في مصيره الشخصي والاجتماعي. ولهذا السبب، تبنى مفكرو مدرسة فرانكفورت، على الأقل في البداية، مواقف معارضة بشدة لكل من الديمقراطيات الليبرالية والشمولية. إن الديمقراطية الغربية هي نظام أيديولوجي يشيّئ الإنسان وعلاقاته الاجتماعية، وبينما تستخدم الأنظمة الشمولية وسائل قمع مباشرة وعدوانية، فإن الديمقراطية من خلال الإعلام والنظام التعليمي تفرض أيديولوجيا استهلاكية بأسلوب خفي ولكنه مثير للشكوك.
نقد العقل العلمي هو أيضًا سمة مشتركة بين هؤلاء المفكرين، سواء في جانبه التقني أو الأداتي. يعتقدون أن العلم قد أصبح نموذج المعرفة في المجتمع، وهذا يعني أن مفهوم العقلانية قد اختُزل إلى العقلانية العلمية، التي تسعى في النهاية إلى السيطرة على الطبيعة. ومع ذلك، فإن هؤلاء المفكرين يرون أن العقلانية العلمية لا تستنفد مفهوم العقلانية بالكامل وهي فقط جزء صغير منه.
وبهذا المعنى يؤكد الفيلسوف المعاصر يورغن هابرماس (1929) أن العلاقات الإنسانية يجب أن تخضع لنموذج آخر من العقلانية: الأخلاقيات الخطابية. يقوم هذا النموذج على الإرادة للوصول إلى اتفاقات، حيث يجب أن يبدأ كل نقاش أخلاقي أو سياسي من هذا المبدأ باعتباره غير قابل للتفاوض. وبينما يسعى العقل العلمي إلى السيطرة على الطبيعة، يفترض العقل الخطابي تنوع المتحدثين ولا يسعى إلى إلغاء هذا التنوع. عند الدخول في مناقشة أخلاقية، يجب على المتحدث أن يكون مستعدًا للتنازل والانتباه لمطالب الآخرين، وبالتالي، حتى لو كان يتمسك بعقائد أو معتقدات ثابتة، فعليه أن يعترف بنسبية هذه المعتقدات بمجرد أن يبدأ التفاعل الخطابي. هذا هو النموذج العقلاني الذي يجب أن تتبناه الأنظمة الديمقراطية.
الفلسفة المعاصرة وما بعد الحداثة
أخيرًا، في أواخر القرن العشرين وأوائل القرن الحادي والعشرين ظهر ما يُعرف بحركة “ما بعد الحداثة“. بالنسبة لمفكري ما بعد الحداثة، فإن مشروع التنوير المتمثل في البحث عن الحقيقة والمعنى قد استُنزف. وقد تسببت القيم الحديثة مثل التقدم والعقلانية في مآسٍ مثل حكومة روبسبير، أو النازية، أو تجاوزات الليبرالية في دول العالم الثالث. لا توجد حقيقة مطلقة ولا معيار نهائي، وعلينا قبول ضعف الفكر وعدم إمكانية الوصول إلى معرفة تتجاوز الرأي الموحى به.
لقد دخلنا عصرًا جديدًا، ما بعد الحداثة، يتميز بفقدان المرجعيات أو المبادئ الخارجية للفرد. ومع ذلك، بخلاف المفكرين السابقين الذين اعتبروا هذا الفقدان مأساويًا، يقبل المدافعون عن “الفكر الضعيف” هذا التفكيك الذي عانى منه الغرب كعملية تحررية من المشاريع الفلسفية – السياسية الكبرى للحداثة، التي أراقت الكثير من الدماء.
هكذا تسير الفلسفة المعاصرة، كسفرٍ مفتوح على احتمالات لا تنتهي، تارة تسبر أغوار الوجود، وتارة تنقض مسلمات الماضي لتعيد صياغتها بلغة جديدة. إنها مثل نهر يجري بلا توقف، يروي عطش الفكر ويمنحه حياةً لا تعرف الثبات. في حضرة الفلسفة، نتعلم أن الحقيقة ليست وجهة، بل رحلة تكتظ بالدهشة والحرية. ومع كل فكرة جديدة، تُعيد الفلسفة بناء الجسر بين الإنسان والعالم، جسر يربط بين أعماق الذات ومتاهات الكون، لتظل شعلة الفكر متقدة، لا تنطفئ مهما تكاثفت الظلمات.
مراجع
1. Author: Frederick C. Copleston, (01/01/1950), The Human Person in Contemporary Philosophy, www.jstor.org, Retrieved: 01/04/2025. |
2. Author: Wolff, Jonathan and David Leopold, (08/26/2003), Karl Marx, www.plato.stanford.edu, Retrieved: 01/04/2025. |
3. Author: Fee-Alexandra Haase, Bertrand Russell, Lewis Carroll & Hastings Rashdall, (06/01/2012), Philosophy of Modernity and Postmodernity, www.researchgate.net, Retrieved: 01/04/2025. |
4. Author: Michael Beaney, (10/01/2013), What is Analytic Philosophy, www.academic.oup.com, Retrieved: 01/04/2025. |