سيلفيا بلاث: الكاتبة التي أرادت أن تكون الإله

You are currently viewing سيلفيا بلاث: الكاتبة التي أرادت أن تكون الإله
الكاتبة الأمريكية سيلفيا بلاث

” لقد وصلنا إلى هذا الحد، انتهى الأمر!”. كان هذا ما كتبته سيلفيا بلاث في آخر قصائدها قبل انتحارها بأكثر الطرق غرابة. حيث غرست رأسها في الفرن، بعد أن تركت لأطفالها وجبة الإفطار جاهزة بجوار أسرتهم. وبهذه اللفتة مارست الكاتبة الأمريكية سيلفيا بلاث للمرة الأخيرة رغبتها في الكمال التي قضت عليها.

نشأة سيلفيا بلاث

كانت سيلفيا بلاث نموذجاً لامرأة شجاعة وعصامية ومستقلة وذكية، لكن عندما بلغت من العمر ثلاثين عاماً شعرت أنها لم تحقق النجاح الذي تعتبره كافياً وعادلاً بالنظر إلى ما بذلته من عمل وجهد والتزام في تطوير مسيرتها الأدبية. كما ساهم في ذلك الشعور بالإحباط تخلي عنها الرجل الذي ضحت من أجله بجزء من وقتها وعملها تاركاً إياها مع طفلين صغيرين. شعرت حينها أنها تُعيد وضع مشابه لما كانت عليه والدتها. وبدا لها الأمر لا يُطاق. كانت سليفيا بلاث ما زالت شابة صغيرة عندما انتقلت إلى لندن لبدء حياتها الجديدة، لكنها شعرت بالوحدة مع قائمة ضخمة من المهام اليومية التي تزداد حتى ضاقت بها ذرعاً.


شغف الموت

يقول علماء النفس أن المنتحرين لا يتركون في العادة إشعاراً فحسب، بل يكررون فعلتهم إذا فشلوا في الأمر، وليس عليك أن تكون عالماً لتستنتج أنها فكرت في الانتحار مراراً. حيث لم تتوان سيلفيا بلاث في الحديث عن فضائل الموت والثناء عليها في قصائدها ورسائلها وقصصها. مئات من السطور التي تتحدث عن المعاناة والحياة البائسة والرمادية التي لا تنتهي. لقد كانت بحاجة ماسة إلى الاعتراف ولديها رغبة نهمة في الكمال.

ارتبطت سيلفيا بوالدها منذ نعومة أظافرهما. وقد كان والدها أوتو بلاث باحثاً وأستاذاً في علم الأحياء واللغة الألمانية، وعندما أنجبت الأم أوريليا طفلها الثاني شعرت سليفيا أنها تمثل دور الأميرة المخلوعة عن عرشها. ومع مرور الوقت شرعا الطفلان في التنافس فيما بينهما على عاطفة الأب. وهكذا بعد عامين ونصف من كونها مركزاً لكون رقيق شعرت أن محوره ملتوي والبرد قد نخر عظامها. لذا كانت تكره الأطفال. وقد استقر في عقلها أن عليها كسب المودة بشتى الطرق. وكان النجاح هو الوسيلة الوحيدة لتحقيق هذا الأمر. لكن مع الأسف، توفي الأب عندما بلغت سليفيا بلاث الثامنة من عمرها. وعندما سمعت الخبر تمتمت قائلة: “لن أتحدث إلى الله مرة أخرى”.  

عانت سليفيا من هذا الوضع الجديد، وشعرت بالخوف من فقدان والدتها كما حدث مع والدها. وكان على أوريليا رعاية الأسرة وكسب لقمة العيش. لذا شرعت في العمل تاركة الطفلين مع الأجداد أو الأصدقاء أو الجيران. ربما لم تمت والدتها بعد لكن على أية حال لم تستطع سيليفا الاعتماد عليها، نظراً لوجودها المستمر في الخارج. وكانت تتواصل معها عن طريق الرسائل التي استمر مدى الحياة.

اقرأ أيضًا: سيرة حياة فرجينيا وولف من الولادة وحتى الانتحار

تلك الفوضى

قصة سيلفيا بلاث
سيلفيا بلاث وتيد هيوز

كبرت سيلفيا والتحقت بالمدرسة الثانوية وكانت طالبة مثالية وتجيد كل شيء تقريباً. كما شرعت في كتابة القصص والقصائد وإرسالها إلى المجلات المختلفة، لاسيما تلك التي تدفع أفضل. كما عملت أيضاً في رعاية الأطفال، وفي مزرعة، كل ذلك من أجل مواجهة الوضع المالي الصعب للأسرة الذي خلفه وفاة الأب.

عندما وصلت إلى جامعة سميث، شعرت كأنها دخيلة بين العديد من الفتيات الصغيرات، لكنها تمكنت من تحييد رعبها من خلال العمل. تقول سيلفيا بلاث في في مذكراتها ورسائلها:

“أنا ساخرة، متشككة وأحياناً قاسية، لأنني أخشى أن أتأذى. ولدي في داخلي تلك الروح الضعيفة للغاية”. وأشارت إليها على أنها “الفوضى التي تخيم على مظهري الخارجي”.

كانت الجامعة بمثابة عالم مفتوح على العالم بالنسبة لها، لكنها قلقة لما يمكن أن يحدث لها في المستقبل. فهي ترى كيف يتواعد أصدقاؤها ويتزوجون بينما تكرس نفسها للتفكير في وضعها كامرأة. وعلى الرغم من إنها كانت تتوق للعثور على زوج أو شريك، إلا أنها من ناحية أخرى تكره هذا الأمر. حيث كتبت تقول:

“حررني من الطهي ثلاث مرات في اليوم، حررني من قفص الروتين والعادة الذي لا يرحم. أحب الحرية، واكره كل القيود. أنا قوية. أعتقد أنني أود أن أطلق على نفسي اسم “الفتاة التي أرادت أن تكون الله”.

اقرأ أيضًا: جورج برنارد شو: سيرة حياة الكاتب الذي رفض جائزة نوبل

الناقوس الزجاجي

كان لديها علاقة عاصفة مع صديق. ولكنها كانت تريد أن تكون الله وأن تمتلك كل شيء ليس صديق فحسب. وهذا الأمر غمرها في بئر من القلق والألم والاكتئاب. وبعد سنوات كتبت سيليفا بلاث كتاباً عن سيراتها الذاتية تحت عنوان “الناقوس الزجاجي”[1] تلتقط فيه هذه الفكرة بصورة بيانية رائعة:

“رأيت حياتي تتكشف أمامي مثل أغصان شجرة التين الخضراء … عند طرف كل فرع ثمرة تين أرجوانية تلوح لي وتناديني وتعدني بمستقبل واعد. إحدى حبات التين تمثل زوجاً وبيتاً سعيداً وأطفالًا، وحبة أخرى كانت تمثل شاعرة مشهورة، والثالثة معلمة لامعة، وأخرى .. وأخرى.. حبات لم استطع عدها.. وفي النهاية وجدت نفسي أتضور جوعاً، فقط لأنني لم أستطع تحديد الحبة التي أريد اختيارها. كنت أرغب فيهم جميعاً، واختيار واحدة فقط يعني خسارة كل الآخرين..”.

في هذا الكتاب، تعيد سيلفيا بلاث سرد ما حدث في الأسابيع الأربعة التي دعتها فيها مجلة للمشاركة في غرفة الأخبار اليومية والحياة الاجتماعية الصاخبة في نيويورك. الفساتين، والتواريخ، والعلاقات.. في تلك الفترة أصبحت مهووسة بحاجتها المستقبلية إلى الاستقلال، ومواجهة العالم العظيم الذي يأكل الإنسان، ومن هنا أصابها الشلل والارتباك والغثيان. ولوضع حد لكل ذلك ذهبت لجلسات العلاج النفسي، وكان تشخصيها هو الاكتئاب السريري[2]. تضمن علاجها جلسات صدمات وتناول كمية كبيرة من الحبوب المهدئة. وخلال نوبة من نوبات الاكتئاب المزمن اختبأت في قبو منزلها وفقدت الوعي لمدة يومين.

اقرأ أيضًا: ميشيل دي مونتين: لمحات من حياة والد المقالة الحديثة

قهر الحب

تعود إلى الكلية كامرأة شابة ناجحة تحيطها هالة من الغموض. جعلتها نتائجها الممتازة تستحق منحة فولبرايت للدراسة في كامبريدج بإنجلترا. هناك تحاول أن تحقق كل توقعاتها وأحلامها، وتحصل على كل ما كان ينقصها. أصبح لديها أصدقاء، وسرعان ما دخل الشاعر البريطاني تيد هيوز حياتها. إنها لا تعرف إلى أي مدى يكون تشخيصها دقيقاً عندما تكتب إلى والدتها قائلة:

“لقد وقعت في حب يائس، الأمر الذي لا يجلب لي إلا ألماً شديداً. لقد عرفت أقوى رجل في العالم، تلميذ سابق في كامبريدج، شاعر لامع كنت أعتز بعمله قبل أن ألتقي به، آدم طويل، أخرق، سليم بصوت مثل الرعد، مغني، راوي قصص”.

هكذا كان الأمر. مع هذه الشخصية الرائعة التي أعجبت بها ستتزوجه على الفور. رأيت سيلفيا بلاث أنه الرجل المناسب لها وهو يعاملها على قدم المساواة تقول:

“نحتاج إلى نفس ساعات النوم، ونفس القدر من الطعام والوقت للكتابة. كلانا انطوائي، يكاد يكون غير اجتماعي “.

ولكن في خضم هذه النشوة، كان هناك دائماً بصيص من المرارة، وسيول من الخوف، وفي الوقت المناسب قدر كبير من الاستياء من مواصلة تيد لمسيرته المهنية بحرية ودون اكتراث لشيء. وبدأت المشكلات المنزلية وقلة المال تلعب دوراً محورياً في حياتهما. وبالتالي بدأ في الكتابة فقط من أجل المال، وقبول الوظائف التي لم تتماشى مع مثالها للعيش بحرية. عانت في كتاباتها وحاولت التغلب على هذا الأمر بقصد المساهمة في الأمور المالية. وضع لها زوجها أن تيد قوائم بالمواضيع التي يجب عليها أن تكتب عنها، مما زاد من شعور بلاث بعدم الأمان.

اقرأ أيضًا: لمحات من حياة الفيلسوف المُعذب فريدريك نيتشه

سقوط سيلفيا بلاث

سيلفيا بلاث
صورة لسيلفيا بلاث

لم يكن إنجاب الأطفال في الخطة أيضاً، على الأقل حتى نجاح كلاهما كما اعتقدا، لكن هذا لم يكن مهماً لأنه في شتاء عام 1960، كانا يبحثان عن شقة في لندن للترحيب بطفل كان في الطريق. وعندما ولدت فريدا، في أبريل، كتبت سيلفيا أنها لم تشعر أبداً بالسعادة من قبل، ويبدو أن الأم وجدت أخيراً مركز ثقلها. لكن هذه السعادة انتهت بالأعمال الروتينية، وقد اختلط الحسد المهني والغيرة الزوجية والعدوان والانتقال من مكان إلى مكان بحثاً عن مساحة أكبر أو مزيد من الصفاء. وفي النهاية نجد أن الشغف الذي وحدهما ينقلب عليهما ويدمرهما.

وفي نوبة من نوبات الغضب، تنتقم سيلفيا بلاث بأكثر الطرق إيلاماً لكاتب من خلال حرق مخطوطات زوجها. ولا يوجد شيء يجب القيام به عندما يكتشف الزوجان أن هناك طفل آخر في الطريق. قررا الذهاب إلى ديفون، حيث يعتقدان أن البيئة الجديدة ستكون الإطار لبدء حياة جديدة، لكنهما جرا معهما أحزان الماضي. وعلى الرغم من أن كل شيء كان يسير على ما يرام إلا أن قصائد سيلفيا بلاث بدأت تتخذ نبرة جادة وعميقة وشخصية للغاية. وتمتع شعرها بقوة مفرطة وكأنها تصرخ في العالم. ومع ازدياد حدة المشكلات بين الزوجين ومغامرات زوجها التي لا تنتهي تتوقف الحياة الزوجية برحيل الزوج تاركاً إياها مع الطفلين.

اقرأ أيضًا: العلاج بالقراءة: الأدب الذي يُشفي نفوسنا

نهاية سيلفيا بلاث

شعرت سيلفيا بلاث أن منزل ديفون شاسع وغير ملائم إلى حد كبير لأم لديها طفلان صغيران. لذا قررت البحث عن شقة صغيرة. وضعت الكثير من الخطط، وكانت مبتهجة وتعتقد أنها ستكون قادرة على التعامل مع كل شيء. لكن يكشف لها الواقع أنها لم تكن محقة في ذلك. عندما وجدت أخيراً مكاناً للعيش فيه، أدركت مدى إشكالية كل شيء: ليس فقط الحفاظ على الاتفاقات وحضور اجتماعات العمل مع طفلين دون مساعدة، ولكن ببساطة مغادرة المنزل وشراء الطعام والدواء … الأطفال التي تمرض بالتناوب، هي أيضاً كانت ضعيفة جداً، رغم أنها تحاول السيطرة على نفسها، ويبدو أن لديها خطة وحل لكل ذلك حتى وإن بدت يائسة عندما كتبت في قصائدها[3]:

وصلت المرأة إلى الكمال، جثتها تُظهر ابتسامة الإنجاز.

وهم الضرورة الإغريقية، يتدفق في لفائف رداءها.

يبدو أن قدميها العاريتين تقولان: لقد وصلنا إلى هذا الحد، انتهى الأمر.

الأطفال الميتون ملتفون، أفاعي بيضاء، أفعى على كل جرة حليب صغيرة، فارغة الآن.

هموم وصراعات وشوق.

كان قصائد سيلفيا بلاث دائماً مرآة تعكس ليس فقط صراعاتها، ولكن أيضاً حياتها اليومية، وتعبّر عن مخاوفها ورغباتها. فعندما كانت صغيرة، كانت تخشى ألا تجد الزوج المثالي الذي تسعد به. ثم أعادت القطيعة مع تيد هيوز الخوف من عدم الحب والقبول:

وحاصر المنزل الأسلاك الشائكة والجدران غير الشائكة..

ضد زمن المتمردين..

لدرجة أنه لم يستطع أحد تحطيمها..

باللعنات والقبضات والتهديدات، ولا بالحب أيضاً.

كما أن التقلبات المستمرة في العلاقة مع زوجها أو أحداث العنف أو مداخل الكآبة تنسجم أيضاً مع أبياتها:

ليس من السهل التعبير عما قمت بتغييره.

إذا كنت على قيد الحياة الآن، فأنا ميتة.

الهوس بالموت كمرادف للسلام والكمال المطلق والشوق في قصائد سيلفيا بلاث:

أنا عمودية

لكن من الأفضل أن أكون أفقية.

أنا لست شجرة ذات جذور عميقة في التربة.. تتشرب المعادن والحب الأمومي.

الكلمات الأخيرة

لا أريد صندوقاً بسيطاً، أريد تابوتاً من حجر..

بخطوط كجلد النمور، ووجه مستدير مثل القمر، لأحدق فيه..

أريد أن آراهم حين يصلون.. ينقبون عن الجذور بين المعادن البكماء.

اقرأ أيضًا: فرانز كافكا: نظرة على حياة وأعمال أكثر الكتّاب سوداوية

انتحار سيلفيا بلاث

قبل انتحار سيلفيا بلاث الأخير، حاولت الانتحار عدة مرات من قبل. ففي 24 أغسطس 1953 تناولت جرعة زائدة من الحبوب المنومة، ثم في يونيو 1962 قادت سيارتها على جانب الطريق إلى نهر، وقالت فيما بعد إنها كانت محاولة للانتحار. وفي أوائل عام 1963 ازداد اكتئابها وساء وأصبح حاداً، وتميزت هذه الفترة بالأفكار الانتحارية وعدم القدرة على التعامل مع الحياة اليومية. كما عانت بلاث من الأرق. ونتيجة للأرق والتعب فقدت 20 رطلاً (9 كجم) من وزنها.

وصف لها الطبيب النفسي المعالج مضادات للاكتئاب[4] قبل أيام قليلة من انتحار سيلفيا بلاث. ونظراً لخطورة وضعها بمفردها مع طفلين فلقد بذل الطبيب جهوداً مضنية لإيداعها في المستشفى، وعندما فشل في إقناعها قام بالترتيبات اللازمة لوضع ممرضة مقيمة معها.

وصلت الممرضة إلى منزل سيلفيا بلاث في التاسعة صباحاً يوم  11 فبراير 1963. لكن لدى وصولها لم تتمكن من الدخول لشقتها. حاولت مراراً لكن محاولاتها باءت بالفشل. استعانت الممرضة بأحد العمال في الخارج لتحطيم الباب. وعندما دخلت في النهاية وجدت سليفيا بلاث ميتة ورأسها داخل الفرن، بعد أن أغلقت الغرف بينها وبين طفليها النائمين بشريط لاصق ومناشف وأقمشة. وهكذا كان انتحار سيلفيا بلاث.


مراجع

[1] The Bell Jar by Sylvia Plath.

[2] Sylvia Plath and the depression continuum.

[3] Sylvia Plath – Poems by the Famous Poet.

[4] THE TREATMENT OF SYLVIA PLATH.

This Post Has 2 Comments

  1. غير معروف

    العنوان صادم، لكنه مقال ممتاز

اترك تعليقاً