كان الإنسان قديماً يعتقد بوجود كائنات خفية خارقة للطبيعة يمكنها التأثير على حياته، وعندما لم يستطع مواجهتها، شرع يتقرب منها من خلال طقوس سحرية محددة. لكن تطور عقل الإنسان وما كان يخيفه في الماضي لم يعد له وجود، إلا أنه لا يزال هناك البعض ممن يمارسون مثل هذه الطقوس، والغريب في الأمر هو ربطها بالدين، والدين منها براء. ومن هذه الطقوس جلسات استحضار الأرواح وطرد الشياطين، وأخيراً جلسات الزار. ما أطلبه منك عزيزي القارئ هو أن تحكم بموضوعية على ما سوف تقرأه في السطور التالية من تجربة حية داخل جلسة من جلسات الزار وما يُقام بها من طقوس وشعائر تتنافى مع الدين والأخلاق. فهيا بنا لنخوض رحلة مخيفة داخل جلسة الزار.
ما هو الزار؟
قبل أن نخوض رحلتنا علينا في البداية توضيح معنى جلسة الزار. الزار هو حفل نسائي لطرد الأسياد – الجان – التي تتلبس الأشخاص وتحاول جلسات الزار استرضاء هؤلاء الأسياد عن طريق تقديم القرابين والأضاحي، وأداء رقصات إيقاعها سريع على دفوف سريعة صاخبة يُعتقد أنها تستحضر الأسياد حتى يتمكنوا من تقديم القرابين لهم لتخرج من أجساد الممسوسين.
بدأ الزار كطقس وثني للقبائل الأفريقية البدائية، وانتقل من الحبشة إلى السودان ثم إلى مصر عام 1870 ثم لباقي الدول العربية. ويمكننا القول إن حفلات الزار قد دخلت إلى التراث الثقافي العربي عن طريق عبيد الحبشة. ثم طرأ عليها تغير فأصبحت في المعتقد الشعبي وسيلة للشفاء من أمراض نفسية وجسدية على حد سواء مثل الاكتئاب والصداع وولادة أطفال مشوهين.. إلخ.
تقوم على جلسات الزار امرأة تدعى كودية الزار، وهي شيخة أو عريفة كما يحب أتباعها أن يطلقوا عليها. تتولى هذه المرأة دور الوسيط بين الأسياد والملبوسين، وغالباً ما ترث هذه المهنة عن أمها. ويعود أصل كلمة زار في المعتقد الشعبي إلى مصطلح زائر النحس، ويقصد به الجان الذي يتلبس أجساد البعض.
أنواع حفلات الزار
هناك ثلاثة أنواع من حفلات الزار هي:
- حفل أسبوعي: يتم فقط لإظهار الاحترام للأسياد واسترضائهم، وتحضره النساء اللاتي هن مدمنات جلسات الزار. حيث لا يستطعن الحياة بدونها.
- حفل كبير: وفيه تمارس كل عناصر الزار “موسيقى – رقص – ملابس – تمائم – بخور – أغان”. ويستهدف شفاء المريض بمعرفة الأسياد، ومحاولة ارضائهم وتقديم القرابين لهم.
- حفل حولي: ويقام في شهر رجب لكل الأسياد الذين تعرضهم الكودية، وتتوقف حفلات الزار نهائياً طوال شهر رمضان.
فرق الزار
تستعين كودية الزار بفرق تدق على أنواع من الدفوف والطبول. والفرق أنواع فمنها على سبيل المثال لا الحصر:
- الفرقة البلدي: وهي مكونة من خمس سيدات على المزاهر والطبلة والدفوف.
- الفرقة السوداني أو الطنبورة: وهم أشخاص من أصل إفريقي.
- فرقة دراويش أبو الغيط: وتتكون من راقص وزوجته التي تمسك الرق، وعازف صفارة، وتلبس كل فرقة ملابس معينة لابد من أن توافرها فيها شروط معينة لتتماشى مع طبيعة هذا السيد.
وتقسم الأسياد أو الأرواح أو الجن على اختلاف مسمياتها إلى الفئات التالية:
- أرواح إقليمية.
- أرواح طبيعية.
- أرواح قبطية وإسلامية.
- أرواح تدل على أصحاب المهن.
- أرواح تنتمي إلى أسماء أشخاص.
الطلبات هي أهم عنصر في جلسة الزار. فلكل سيد طلبات من القرابين أو الأضاحي المحددة يطلبها من المرضى، وتتنوع هذه الطلبات ما بين أشياء تخص أحد الأموات، وبين أعضاء من الحيوانات والطيور، وما إلى ذلك[1]. الآن بعد أن استعرضنا معلومات موجزة عن جلسات الزار لنخوض معاً رحلة داخل كواليس هذا العالم المظلم.
الدخول إلى عالم مظلم
كانت هناك معاناة كبيرة للحصول على فرصة للدخول إلى هذا العالم واقتحامه لرصد ما يحدث داخل تلك الجلسات المريبة التي تسمى “الزار”. فهذه أماكن يحاول القائمون عليها من الدجالين والمشعوذين إحاطتها بهالة من السرية. وتجدهم يحرصون على ألا يصل إليهم من في قلبه بصيص من الإيمان والثقة بالله، فيقتصر عملهم على السفهاء والجهلاء الذين يبوحون لهم بأسرار قد لا يبوحون بها لأقرب الناس، وإذا بهذا الدجال يتسلى بهم كما يتسلى الوحش بفريسته بعد أن تصبح في يده.
بعد صراع طويل تمكنت من الوصول إلى سيدة تحضر هذه الجلسات وتعرف أسرار هذه الجلسات جيداً. لم يكن من سبيل للدخول إلى جلسة من هذه الجلسات سوى إغراء هذه السيدة بالمال حتى تستطيع إدخالي إلى هناك. وفي الوقت المحدد انطلقت إلى هناك، وبعد محاولة الدخول التي كادت تبوء بالفشل اقنعت السيدة كودية الزار أن تتركني أحضر، لكنها لم تكن تسمح لي نظراً لأنه مكان به حرمات على حد قولها. لكن في النهاية انتهت المحاولة بالدخول بعد أن طلبت مني ألا أقوم من مقامي.
غرفة تبعث على الخوف والرهبة
رائحة البخور تملأ أرجاء المكان، اصطحبتي السيدة إلى غرفة ذات ضوء أحمر خافت يعطي تأثيراً لكل من يدخلها بأنها ليست غرفة عادية، وتبعث أجوائها على الخوف والرهبة. ثم قامت الست نحمده “كودية الزار” بإرشادي إلى المكان الذي سوف أجلس فيه لأرى ما يحدث بوضوح.
كان الضجيج عالياً ويوجد في منتصف الغرفة شيئاً يشبه الصينية أو الإناء به بعض الفول السوداني والحناء والشمع والحلوى. وقد كانت هناك فرقة تتكون من ثلاثة أشخاص يشبهون الرجال إلا أن شعر أحدهم كان يتجاوز طول شعر زوجته على الأرجح. أحدهم يمسك بالناي، والأخر بالرق، والثالث بطبلة. أما النساء فيقمن بالدق على المزاهر والطبلة. وكان هؤلاء جميعاً يرددون أغاني وقصائد حزينة بعدما أعلنت الست نحمده بأن الحالة على وصول.
حضور الضحية لجلسة الزار
لم يتسن لي رؤية السيدة التي ستقام حلقة الزار على شرفها. إلا أنني لمحت على البعد بعض مرور الوقت خروج سيدة من دورة المياه كانت تبدو وكأنها تغير ملابسها. خرجت مرتدية عباءة غريبة الشكل، وقد بدا من طريقة تعديل هندامها ونظرتها إلى ملابسها أنها لم تقم بذلك من قبل. كانت العباءة بيضاء عليها تمائم ورسومات وأشكال ليست مألوفة. كما كانت ترتدي شالاً أبيضاً على رأسها.
يبدو على تلك السيدة أنها من طبقة متوسطة، فلا هي رقيقة الحال، ولا هي من سيدات المجتمع الراقي. لكن يبدو أنها كانت تقوم بذلك تحت ضغط نفسي شديد من والدتها السيدة العجوز التي تسير معها أينما حلت. حيث كانت الابنة تنظر إلى أمها وكأنها تطلب منها النجدة من تلك الوجوه غير المألوفة، وتلك التصرفات الغريبة. لكن أمها كانت تدفعها بشكل غريب. وتطرق إلى سمعي كلمات تفوهت بها الأم: “نعمل إيه.. نصيبنا كدة.. معلش يا بنتي”.
حلقات الذكر
أخذت كودية الزار بيد الفتاة الملبوسة، ودخلت بها إلى حلقة من النساء اللائي لا يختلف شكلهن وهيأتهن عن شكل وهيئة الكودية. حيث غلبت عليهن الملابس الغريبة والبشرة السمراء ومعالم وجوههن تبث الرعب والقلق والتوتر في نفس كل من ينظر إليهن.
بدأت الكودية تدور معها وكأنها تعلمها ما تقوم به من حركات تشبه ما يقوم به أصحاب حلقات الذكر من التمايل يميناً ويساراً مع ترك اليدين تتحركان بحرية دون تقيد وهي تقول: “دستور يا أسيادي.. السماح والعفو والرضا”. هذا كله وهي تدور في حلقة مع النساء المفزعات اللائي يحوطنها من كل اتجاه.
ارتفع صوت الفرقة والغناء والقصائد التي كانوا يرددونها. وكانوا يرددون “اللي يلوم عليّ يشرب مراري”.. وكأنهن يقلن إلى من يعترض على ما نفعله من دجل وشعوذة وكفر ندعو عليه بأن يعاني مما نعاني منه. كان الطبل والصخب يرتفع، يسرع تارة ويبطئ تارة أخرى. بينما الأجساد تتمايل على الموسيقى دون شعور وكأنهم جميعاً في حالة طرب شديدة على نغمات الطبول والدفوف يرددون تمتمات غير مفهومة. لكن يبدو أنهم على علم كامل بها، وبالمقصود منها من كفر بالله واستعانة بالجن.
حضور الأسياد
على مدار نصف الساعة انتهكت الأعراض، وهم يستعينون بغير الله سبحانه وتعالى. واختلطت فيها النساء بأشباه الرجال، وتعرت الأجساد وتمايلت على صوت النغمات الصاخبة إرضاء للشيطان. وإذا بالسيدة التي أقيم لها الزار تتصبب عرقاً. وكانت كلما أرادت أن تستريح لم يمكنوها من ذلك حتى تستهلك كامل طاقتها. وبعد صراع مع نفسها – حتى لا تسقط – هوت على الأرض مغشياً عليها من شدة التعب والارهاق. حينها صرخ الجميع “الأسياد حضروا.. دستور يا سيادنا.. العفو والسماح يا أهل العفو والسماح”.
حُملت السيدة الملبوسة على الأعناق، وتم وضعها على كرسي في وسط حلقة الزار. ثم قام شخصان بمحاولة الإمساك بها حتى لا تسقط على الأرض. بينما أتت كودية الزار واقتربت منها، وشرعت تمارس طقوس إخراج الجن فتقوم بالصراخ بصوت مرتفع على الجن حتى يخرج من جسد الملبوسة. وتتعهد له بتلبية ما يأمر به. كل هذا والفتاة المسكينة مغشياً عليها ولا تنطق.
خروج الجان
تزعم الكودية أنها تتحدث مع الجن ويخبرها الجن بمطالبه، وهي تقول: “أوامركم يا سيادي”. ثم تأمر الكودية أحد معاونيها بأن يحضر ديكا أسود ليس فيه ريشة بيضاء، وفرختان بعد كسر قدم إحداهما وقطع قدم الأخرى قبل ذبحهما. أحضرت لها سيدة أخرى تلك الطلبات. ثم قامت كودية الزار بذبح الديك الأسود على رأس المريضة الملبوسة، وهو نفس ما فعلته بالدجاجتين، لكن مع وضع أحداهما على الكتف اليمنى للفتاة، ووضع الأخرى على الكتف اليسرى. ثم ألقت بالدجاجتين في إناء كبير حتى يصفى منهما الدم بالكامل.
بعد ذلك أخذت ترش الدم على الملابس البيضاء التي ترتديها الفتاة الممسوسة والتي لم يعد يمكن تحديد ملامحها من كثرة الدماء التي تلطخها. ثم حاولت الكودية إفاقتها. وما إن فتحت عينها ونظرت إليهم ثم إلى ملابسها المغمورة بالدماء حتى صرخت بكل ما أوتيت من قوة. وكادت تذهب في غيبوبة أخرى من جراء الصدمة. فقامت الكودية بالصراخ “هاتوا الماء المنقوع”. أحضرت إحداهن إناء به ماء ثم قامت برشه عليها حتى تفيق.
المعلوم بعد جلسة الزار
أفاقت الفتاة للمرة الثانية فقالت لها الكودية: “خلاص يا حبيبتي إنتي بقيتي حلوة”. وطلبت منها أن تبدل ملابسها بعد أن تدخل دورة المياه، وتظل بهذا الدم إلى أن تنادي هي عليها. فنظرت لها الفتاة باشمئزاز وتوجهت لدورة المياه مجبرة وهي تبكي بحرقة شديدة.
في لحظات غياب الفتاة داخل دورة المياه انفردت الكودية بوالدة المريضة. وبالطبع لم أتمكن من معرفة ما يدور بينهما من حديث. لكن ما لاحظته من طريقة الحوار أنها تحاول الحصول على كل ما في جيب الأم المسكينة التي لم تجد طريقة لتريح ابنتها سوى هذا الطريق المظلم الذي تحفه من الجانبين كل دلائل الفجور. ثم أخرجت لها الكودية من ملابسها ما يشبه الحجاب لتعطيها إياه وتوصيها وترشدها بكيفية استخدامه وبألا تتركه أبداً.
بعد أن فرغت من الحديث إليها قامت بالعد على أصابعها، وكأنها تحصي لها ما سوف تدفعه لها. وكانت الأم المسكينة تنظر إليها في استسلام. يبدو أن المطلوب كان كثيراً، ولكن ما باليد حيلة استجابت لها الأم وأخرجت من حافظة النقود مبلغاً كبيراً أعطته للكودية التي وضعت المال في صدرها لتقوم وتنادي على الفتاة التي مازالت في دورة المياه – لا أعلم لماذا؟ – وإن كان من الواضح أن سلسلة العربدة لن تكتمل إلا ببقائها داخل دورة المياه.
نهاية جلسة الزار
خرجت الفتاة من دورة المياه وتوجهت إلى أمها لترتمي في أحضانها، وتأخذها أمها لتبدل ملابسها وتقوم الأم بإرشادها بما أمرتها به الست العريفة كودية الزار، وكأن كلامها منزل لابد أن ينفذ بحذافيره. ثم يقومان بسؤال الكودية عما إذا كانت هناك أوامر أخرى. أخبرتهما الكودية أن عليهما بعد فترة إذا عادوها ما كانت تشتكي منه أن يحضرا مرة أخرى، لأن الأسياد سيكون لهم طلبات أخرى إذا لم تنفذ فإن في ذلك ضرراً كبيراً عليها.
ما رأيك عزيزي القارئ فيما يحدث في مثل هذه البؤر التي هي أشبه ما يكون بجهنم، بل قد يعجز الشيطان نفسه عن فعل ما يفعله شياطين الإنس من الاستعانة بغير الله. فما بالنا بمن يكفر بالله ويستعين بالشيطان بل ويذبح له ويقدم له القرابين[2].
رأي الدين الإسلامي في جلسات الزار
وفي معرض تعليق أحد علماء المسلمين على تلك الأعمال، يقول الشيخ عيد عبد الحميد يوسف المشرف العام بالجامع الأزهر أن جلسات الزار لا يلجأ إليها إلا من سيرهم الشيطان، بل هم من الجهلاء الذين يحضرون الجن، ويسخرونه بالزار. بينما جاءت الاستخارة الشرعية واللجوء إليها حتى يترك الناس مثل هذه الأكاذيب.
ويقر الدين الإسلامي بما لا يدع مجالاً للشك على حرمانية هذه الجلسات والاستعانة بالجان. وهذه الطقوس الوثنية لا تمت للإسلام بصلة، وقد تم تجريمها في العديد من الدول العربية، إلا أننا في مصر مازلنا لم نجرم مثل تلك الطقوس الشيطانية[3].
رأي علم النفس
يقول حامد زهران الطبيب النفسي إنه لا وجود لشيء اسمه جلسات لزار من أجل طرد العفاريت والجان، لأنه لا يوجد في الأساس عفاريت، ولكن هناك ما يطلق عليه بالجلسة النفسية أو العلاج بالموسيقى، وهي من أساليب الطب النفسي للشفاء من الكثير من الأمراض النفسية. لكن الزار يعتبر جلسة رقص واعتقادات فارغة تنم عن الجهل بالأمور. بينما الرقص لطرد الجن وذبح الديكة وطلبات عفاريت كل هذا ما هو سوى نصب واحتيال وضحك على الدقون على حد قوله.
كان الهدف من عرض موضوع جلسات الزار هو المساهمة في التخلي عن الأفكار والمعتقدات التي تهدم قيم المجتمع وأصوله وثوابته، ولكي نستطيع تحرير العقل العربي من التخلف والجهل.
المراجع
[1] الزار ومسرح الطقوس – عادل العليمي.
[2] الإسلام الشعبي: الإيمان، الطقوس، النماذج.
[3] فتاوى رأي الدين | مجلد 255 | صفحة 1 | حكم الزار في الإسلام.