ثقافة

المواد الدراسية: ما الذي يجب أن يتعلمه الطلاب؟

هناك العديد من مشكلات التعليم في نظامنا الحالي، حيث يقف التعليم عند مفترق طرق، حائرًا بين الوفاء لإرثه التقليدي وضرورة التكيف مع متطلبات المستقبل. فلا يزال التعليم في المدارس يعامل الطلاب كقطيع موحد الخطى، ويغفل عن تنوع عقولهم وثراء مواهبهم. يقسمهم النظام التعليمي إلى مجموعات عمرية، ويجبرهم على استهلاك معارف مقسمة بلا روح، وكأن العقول البشرية صناديق تُملأ دون وعي. لكن، أليس في هذا التصور ظلم فادح لطبيعة الإنسان الفضولية وحاجته إلى التعلم بحرية وإبداع؟ أليس الوقت قد حان لكسر هذه الأقفاص الحديدية وفتح أبواب الأفق أمام الأجيال القادمة؟ دعونا نحلل مشكلة من مشكلات التعليم الأساسية وهي المواد الدراسية..

المواد الدراسية.. ماذا وكيف؟

إحدى المشاكل الأساسية في مجال التعليم هي تحديد ما الذي يجب تعليمه؟ وكيفية تعليمه؟ إن التركيز الأكبر في وقتنا الحالي على “ما الذي نعلّمه” وليس على “كيف نعلّمه”. كان الاعتقاد السائد أنه بمجرد معرفتنا بالمحتوى الذي يجب أن يتعلمه الطلاب، ستتضح لنا الطريقة التي ينبغي أن يتعلموا بها هذا المحتوى. لكن دعونا نتوقف لحظة لنحلل هذا الرأي..

عندما نسأل “ماذا” يجب أن يتعلم الأطفال، فإننا نفكر عادةً في مواضيع المعرفة والمواد الدراسية التي رغم اختلافها في التفاصيل، إلا أنها لا تزال تحتفظ بالشكل التقليدي ذاته الذي يعزل المحتوى التعليمي إلى أقسام منفصلة. ولا يهم إذا استبدلنا درس الرياضيات بدروس لغة الجسد أو التأمل إذا كنا ببساطة نغيّر التسميات مع الإبقاء على تقسيم اليوم الدراسي وفضول الأطفال بأسلوب متشدد وغير واقعي.

يعد مفهوم “المادة الدراسية” ضروريًا في المراحل التعليمية المتقدمة والأكثر تخصصًا على المستوى التنظيمي. يتعلق هذا الأمر بتنظيم الأماكن التعليمية واستخدام البنى التحتية المتخصصة. على سبيل المثال، رغم أن التجريب العلمي المتعمق يعد نشاطًا مشتركًا بين مختلف التخصصات ويمكن ممارسته في سياقات متعددة، إلا أنه من الواضح أن المراهق الذي يرغب في تعلم تقنيات التجريب الكيميائي يحتاج إلى بنية تحتية خاصة لتنفيذ هذا العمل. لذلك، إذا احتاج الطالب إلى توجيه في تعلمه، يجب أن يكون المدرّس متاحًا للتعاون معه في وقت معين من اليوم الدراسي، ويجب فتح المختبر لتحقيق هذا الهدف. إذن، المواد الدراسية ضرورية كـشر لا بد منه في المراحل التعليمية المتقدمة، ولكن، التقسيم الاصطناعي الذي نعتمده حاليًا، حيث يخضع طفل يبلغ من العمر 12 عامًا ليوم دراسي مدته ست ساعات تتضمن حوالي عشر مواد أسبوعيًا، أمر غير ضروري تمامًا وضار..

إثارة فضول الطلاب

تشجع الطلاب على التعليم
كيف نشجع الطلاب على التعليم؟

كيف يمكننا تنظيم مؤسسة تعليمية تكون فيها المواد الدراسية أكثر انفتاحًا وتداخلاً مما هي عليه الآن؟ لن يكون الأمر معقدًا من الناحية التنظيمية كما نعتقد إذا توافر الطاقم التعليمي المناسب لهذا النظام. ذات مرة، حضرت مسرحية “هاملت” قام بأدائها مجموعة من الطلاب، وبعد انتهاءها سألت الطلاب المشاركين في الفرقة المسرحية عما إذا كانوا يعتقدون أنهم يتعلمون الأدب أكثر من خلال المشاركة في تلك الفرقة أم في دروس الأدب الكلاسيكي، حيث كان النجاح في المادة يعتمد على حفظ تاريخ ميلاد شكسبير.

اكتشفت أن الطلاب يدركون أنهم يتعلمون الأدب بشكل أعمق من خلال إحيائه وتجسيده. ولكن، هل يمكننا أن نمضي أبعد من ذلك؟ هل يمكننا استغلال اهتمام الطلاب بالتمثيل لتعريفهم بسيرة الكاتب، وبالتالي السياق التاريخي الذي نشأ فيه؟ ما أود قوله هو أن دروس الأدب ليست مجرد دروس أدب فحسب، بل هي أيضًا دروس في التاريخ، والفكر، والجغرافيا… نحن نقوم بتقسيم المعرفة التي يجب أن يتعلمها الأطفال من أجل الراحة، وليس لأن هذه المعرفة في ذاتها مقسمة.

المشكلة هي أن مدرس الرياضيات مثلًا لا يتم تعليمه كيفية إثارة فضول الطلاب بشأن تاريخ الرياضيات، لأن هذا المدرس متخصص في مجاله ويفترض أنه ليس مضطرًا للتخصص في مجالات أخرى. يحدث الشيء نفسه مع بقية المدرسين، الذين بحكم التخصص المهني وسوء إدارة الموارد البشرية، يميلون إلى السير في طرق مألوفة والتمسك بأمان “تخصصهم”. هذا التخصص هو ما لا يشجع الطفل على طرح أسئلة عن الألوان في درس اللغة، أو عن الشعر في درس التربية البدنية. نحن نقسم وقت الأطفال باستخدام أجراس شبيهة بجرس بافلوف، ونكبّل فضولهم بجدول زمني صارم وغير مرن.

التقسيم حسب الأعمار

المناهج الدراسية
نظام تقسيم الطلاب على حسب أعمارهم

بغض النظر عن المسألة المتعلقة بالمناهج الدراسية، فإن هذه الرغبة في الإكراه تتجلى في العديد من الجوانب الأخرى لنظامنا التعليمي المؤسسي الحالي. على سبيل المثال، يتم تجميع الطلاب استنادًا إلى معيار صارم وهو أعمارهم. إن فكرة السعي إلى تجانس الطلاب من نفس الفئة العمرية تبدو وكأنها هي التي تحدد اهتمامات الطفل أو معارفه الفعلية. تمنع هذه البنية التنظيمية الطلاب الأكبر سنًا من دعم الطلاب الأصغر أو أن يكونوا قدوة لهم. إذا اعتاد الطلاب على العيش مع زملاء أكبر أو أصغر منهم عمرًا، فسيرون بسرعة أن من الطبيعي مساعدة من يفتقرون إلى خبراتهم بسبب صغر أعمارهم.. أو تلقي المساعدة من أولئك الأكبر سنًا أو الأكثر معرفة.

التقسيم حسب “الأعمار” هو مثال واضح، إلى جانب المواد الدراسية المجزأة، على غياب الانتباه للتنوع والتربية المدنية التي يعاني منها نظامنا التعليمي. في هذا النظام، يكون “القائد” الوحيد، والشخص المختلف الوحيد من حيث العمر والخبرة، هو المعلم.. مما يعزز في ذهن الطالب مفهومًا أحادي الاتجاه عن السلطة، إلى جانب آثار سلبية أخرى على تطوره الأخلاقي.

دور المعلم والابتكار الحقيقي

المواد الدراسية
دور المعلم في تطوير التعليم

لكن لإصلاح توزيع المعارف والمساحات في المؤسسات التعليمية، من الضروري إعادة تشكيل تدريب المعلمين والرؤية التي يحملها المجتمع تجاههم. يجب أن يكون المعلم باحثًا ومبتكرًا في مجال التعليم.. ويجب أن يكون قادرًا على استباق اهتمامات الطلاب وعدم حصر نفسه في حدود تخصصه الضيقة. أن يقول للطلاب “لا أعرف هذا، لكن سأبحث عنه وسنناقشه غدًا” يعني أيضًا أن يعتاد المعلمون على التواضع، وتغذية فضولهم لمعرفة كيفية تغذية فضول الطلاب.

يميل المعلم الذي يعمل كموظف حكومي، بسبب بنية النظام نفسه إلى المحافظة.. وتكرار كتب مدرسية مليئة بالمعلومات الخاطئة والتافهة كأنها شعارات مقدسة. ومع ذلك، يجب أن نأخذ في الاعتبار أن الوضع المادي الحالي في العديد من الأنظمة التعليمية. حيث توجد فصول بها أكثر من ثلاثين أو أربعين طالبًا، مع نقص شبه تام في الموارد مثل أجهزة الحاسوب والمختبرات، يجعل من المستحيل تقريبًا على المعلم تحقيق أي ابتكار حقيقي. وأولئك الذين ينجحون في ذلك يفعلون ذلك على حساب وقتهم الشخصي أو حياتهم العائلية.. وفي كثير من الأحيان يضطرون إلى الاعتراف بأن جهودهم لا تستطيع مقاومة نظام يبدو وكأنه بُني عمدًا لتعزيز الجهل وكراهية المعرفة.

لقد بات التعليم، كما هو في نظامه الحالي، انعكاسًا لعجزنا عن مواكبة التغيير، وشاهدًا على تقاعسنا في مواجهة تحديات المعرفة. لكن الأمل لا يزال ينبض في قلوب أولئك الذين يسعون لإعادة بناء الجسور بين العلم والإنسانية. يجب أن يتحرر التعليم من قيوده التقليدية، ليتحول إلى رحلة استكشاف.. يجد فيها الطالب ملاذًا لا يقتصر على المعرفة، بل يمتد ليشمل بناء الروح وتطوير الذات. حينها فقط، سنشهد ميلاد أجيال لا تُساق كقطيع، بل تُضيء العالم بعقولها النيرة وقلوبها الحرة. فليكن التعليم رسالة تنوير، لا نظامًا للتقييد.

وائل الشيمي

كاتب وأديب بدأ مسيرته الأكاديمية في مجال الصحافة، حيث حصل على بكالريوس في هذا المجال، وقاده شغفه بالإنسانية إلى دراسة علم النفس والفلسفة، وقد ساعدته دراسته وقراءاته في فهم أبعاد الشخصية البشرية وتعقيداتها. في روايته "الأجنحة السوداء" صور قضايا الوجود والتحديات النفسية التي يواجهها الإنسان في رحلة بحثه عن الإله، في سياق سردي مشوق يحمل في طياته تأملات فلسفية حول الحياة والموت، الحرية والقيود. كما أطلق في مجموعته القصصية "علامات لا تُمحى" مجموعة من القصص التي تتناول الجوانب المظلمة من التجربة البشرية، تاركاً آثارًا لا تُمحى في ذهن القارئ. إلى جانب أعماله الروائية والقصصية، ساهم الكاتب بالعديد من المقالات النقدية والحوارات الفكرية في الصحف والمجلات والمواقع الإعلامية، حيث شكلت كتاباته مساحة للتفكير والتحليل حول قضايا ثقافية واجتماعية معاصرة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

دعمك يهمنا ❤️

نحن نعمل بجد لتقديم محتوى مجاني ومفيد لك. هل يمكننا الاعتماد على دعمك بتعطيل مانع الإعلانات؟ شكرًا مقدمًا!