الهلوسة: ما وراء أوهام الدماغ الغامضة

You are currently viewing الهلوسة: ما وراء أوهام الدماغ الغامضة
كل ما تريد معرفته عن الهلوسة

يسمع العديد من الأشخاص أصواتاً لا وجود لها، ويرون أشكالاً من الضوء تنطلق كالسهم بجانبهم، أو يشمون روائح غريبة. إنها أعراض الهلوسة، فالأشخاص الذين يعانون من الهلوسة يدركون أشياءً غير موجودة في الواقع. ولكن ما هي أسباب الهلوسة؟ وكيف تنشأ هذه الظواهر الغريبة؟ ولماذا يمكن أن يعاني منها الأشخاص الأصحاء تماماً؟ كان الأطباء في الماضي يعتقدون أن الهلوسة مجرد أعراض نموذجية لمرض عقلي، أو نتيجة لتعاطي المخدرات، لكننا اليوم نعلم أن مثل هذه الأوهام البصرية أو السمعية أو الشمية يمكن أن يكون لها أسباب مختلفة تماماً عما كان يُعتقد في الماضي، ونعرف الآن أن الأشخاص الأصحاء يعانون كذلك من الهلوسة. ومن هنا حاول علماء الأعصاب فهم كيفية ظهور هذه الأعراض في الدماغ وأسبابها.

ما هي الهلوسة؟

كان الملحن فريديريك شوبان يعزف إحدى مقطوعاته الموسيقية في حفل موسيقي عام 1848 عندما توقف فجأة عن العزف، ثم تثبت في مكانه لبعض الوقت، ومن ثم غادر المسرح. كانت حادثة غريبة من نوعها أصابت الجمهور والنقاد بالحيرة، نظراً لأن شوبان لم يتحدث عن هذه الواقعة، ولم يبد أنه يعاني من مرض خطير. لكن بعد مرور عدة شهور قدم تفسيراً لسلوكه الغريب في رسالة إلى ابنة حبيبته الروائية الفرنسية جورج ساند. وصف في الرسالة كيف رأى فجأة مخلوقات غريبة ترتفع على المسرح. بدت له هذه الشخصيات حقيقية تماماً وأزعجته كثيراً لدرجة أنه اضطر إلى مغادرة المسرح. لم يقتصر الأمر على هذه الواقعة فحسب، بل وصف الملحن أيضاً مجموعات من الأشباح التي كانت تخيفه في عدة مناسبات أخرى[1].

كان هذا الموضوع ضبابياً، فلم يعرف أحد في زمن شوبان ما كان يعاني منه، أما اليوم فنعرف أنه كان يعاني من الهلوسة. لقد رأى أشياءً لم يقوده تصوره إلى تصديقها. يصف طبيب الأعصاب أوليفر ساكس[2] هذه الظاهرة قائلاً:

إنها تصورات تنشأ في غياب أي سبب خارجي – ترى أو تسمع أشياء غير موجودة.

أوهام حسية

تعريف الهلوسة
عندما نهلوس، نرى أو نسمع أو نشعر بأشياء غير موجودة

تختلف الهلوسة عن مجرد الأوهام الحسية، حيث يتم إدراك حافز خارجي ولكن يشوه أو يساء تفسيره من قبل الدماغ، وتعتبر الهلوسة حالة فريدة وخاصة من وعينا وحياتنا العقلية. دعونا نرى مثالاً آخر لفهم ماهية الهلوسة.

تصل فتاة إلى عيادة طبيب نفسي، وتخبره أنها جاءت إليه لأنها خائفة جداً، ففي كل مرة تنظر في المرآة تسمع صوتاً يتحدث معها ويشتمها. ثم صرخت في الطبيب قائلة له أنها تريد أن يختفي هذا الصوت.

هذا المثال عبارة عن حالة وهمية يكون فيها المريض المفترض قد أدرك حافزاً غير موجود بالفعل من موقف معين (النظر في المرآة). لقد كان لدى الفتاة هذا التصور حقاً، فهو بالنسبة لها ظاهرة حقيقية جداً لا تستطع توجيهها أو السيطرة عليها. وبهذه الطريقة ندرك أنها تعاني من الهلوسة السمعية.

ليس هناك نوع واحد من أنواع الهلوسة، بل هناك مجموعة واسعة من التصنيفات، من بينها ما يشير إلى الطريقة الحسية التي تظهر بها – بمعنى الهلوسة التي ترتبط بالحواس الخمسة. علاوة على ذلك، لا تظهر جميع الأنواع في نفس الظروف. دعونا نتعرف في البداية على أنواع الهلوسة.

أنواع الهلوسة

الخيالات والأوهام
أنواع الهلاوس الحسية

يمكن أن تكون الهلوسة بصرية كما في أشباح شوبان، ويمكن أن تكون هلوسة سمعية كما في أصوات الفتاة. ويمكن أن تشمل جميع الحواس الأخرى تقريباً. حيث يشعر بعض الذين يعانون من الهلوسة باللمس وكأن شيئاً قد لمسهم، ولكن لا وجود لذلك الشيء. هناك كذلك من يشمون روائح معينة في بيئة عديمة الرائحة. وتعتبر الهلوسة البصرية هي الشكل الأكثر شيوعاً للهلوسة. وتتراوح ما بين ظهور كائنات غريبة إلى شخصيات مختلفة.

  1. الهلوسة البصرية

    تستند الهلوسة البصرية على حاسة البصر، وفي هذه الحالة يرى الشخص شيئاً غير موجود في الواقع، وما يحفز هذا النوع وجود محفزات بسيطة مثل الومضات أو الأضواء. ويمكن رؤية أشياء أكثر تعقيداً من ذلك، مثل الشخصيات أو الكائنات المتحركة أو المشاهد الحية. ومن الممكن أن يتم تصور هذه العناصر بقياسات مختلفة عن تلك التي يمكن إدراكها لو كانت حقيقية. بمعنى أنه يمكن رؤية الأشياء أو الكائنات أكبر حجماً أو أصغر حجماً. وأوضح مثال على هذا النوع هو أشباح شوبان التي ذكرناها آنفاً. ويتضمن هذا النوع كذلك رؤية الشخص نفسه من خارج جسده، بطريقة مشابهة لتلك التي أبلغ عنها المرضى الذين مروا بتجارب الاقتراب من الموت. والهلوسة البصرية شائعة بشكل خاص في الحالات العضوية، والصدمات النفسية، وتعاطي المخدرات، على الرغم من أنها تظهر أيضاً في بعض الاضطرابات العقلية.

  2. الهلوسة السمعية

    تعتمد الهلاوس السمعية على حاسة السمع، فالهلاوس السمعية هي تلك التي يسمع فيها المرء شيئاً غير حقيقي، ومن الممكن أن تكون أصواتاً بسيطة أو عناصر ذات معنى كامل مثل الكلام البشري، أو حتى سماع الموسيقى والأغاني. أوضح الأمثلة على الهلوسة السمعية هي حالة الفتاة التي استعرضناها من قبل. حيث تسمع أصواتاً تتحدث عنها. ويمكن أن تكون الهلوسة أمرية، بمعنى أن الشخص يسمع أصواتاً تأمره بفعل شيء ما أو التوقف عن فعله. الهلوسة بهذه الطريقة الحسية هي الأكثر شيوعاً في الاضطرابات النفسية، وخاصة في الفصام المصحوب بجنون العظمة.

  3. الهلوسة اللمسية

    الهلوسة اللمسية هي تلك التي تشير إلى حاسة اللمس. يتضمن هذا النوع عدداً كبيراً من الأحاسيس، مثل الشعور بدرجة الحرارة أو الألم أو الوخز (يسمى الأخير تنمل، ومن بينها نوع فرعي يسمى الهذيان الجلدي الذي يشعر فيه المرء بوجود حشرات صغيرة في الجسم، ومن أعراض إدمان أنواع معينة من المخدرات).

  4. الهلوسة الذوقية والشمية

    يتعلق هذا النوع من الهلوسة بحاسة الشم، وحاسة التذوق. لكن الهلوسة في هذه الحواس نادرة وترتبط عادة بتعاطي المخدرات أو المواد الأخرى، بالإضافة إلى بعض الاضطرابات العصبية مثل صرع الفص الصدغي، أو حتى الأورام. وتظهر أيضاً في حالات الفصام، وترتبط عادةً بأوهام التسمم أو الاضطهاد.

ماذا يحدث في الدماغ أثناء الهلوسة؟

الأوهام والخيالات
يحاول الدماغ أن يملأ الفجوات: على اليسار نرى مثلثًا رماديًا فاتحاً بين الأشكال السوداء، وهذا واضح أيضاً في نشاط الدماغ على اليمين.

عندما عانى أسلافنا من الهلوسة، كانوا ينظرون إليها على أنها رسائل من كائنات عليا – سواء كانوا آلهة أو شياطين أو أرواح الموتى. وليس من قبيل الصدفة أن تظهر أشكال النور من العدم أو الأصوات الرعدية من السماء في العديد من الأساطير والكتابات الدينية. كما كان يُعتقد أن الأشخاص الذين يسمعون أصواتاً غريبة أو يتحدثوا إلى أشخاص غير مرئيين ممسوسين.

نحن نعلم اليوم أن الهلوسة ليست بأي حال من الأحوال نتيجة لتأثير الكائنات العليا، ونعرف أنها أوهام ترتبط ارتباطاً وثيقاً بكيفية عمل الدماغ، لأن إدراكنا أكثر تعقيداً بكثير من مخطط التحفيز والاستجابة البسيط. يوضح كريستوف تيوفيل الباحث في جامعة كارديف أن دماغنا هو الذي يخلق العالم الذي نعتقد أننا نراه.

تخيل أنك تدخل غرفة المعيشة الخاصة بك وفي تلك اللحظة بالذات يختفي شيء أسود خلف الأريكة على حافة مجال رؤيتك. فإذا كنت تمتلك قطة، يمكنك أن ترى بوضوح أن قطتك هي التي تهرب، وأنت “ترى” الرأس والأذنين وربما حتى الأضواء في العينين.

لكن في الواقع، لم تر عينك أكثر من مجرد بقعة سوداء ضبابية. وتصل هذه الإشارات فقط إلى المركز البصري الأساسي في مؤخرة الرأس عبر العصب البصري. لكن الأمر لا يتوقف عند هذا الحد. حيث يقوم دماغنا الآن بتشغيل مناطق دماغية إضافية، ويسترد معلومات حول البقع السوداء السابقة التي رأيناها بالفعل في مواقف مماثلة.

يقول توفيل:

يحاول دماغنا ملء الفجوات، ويتجاهل مكونات التحفيز التي لا تتناسب، ثم يقدم لنا صورة معدلة للعالم تناسب ما نتوقعه. ونتيجة لذلك، فإننا لا نر أبداً ما هو موجود بالفعل، بل نرى تفسيراً لما نراه. هذا التفسير ينتج بعد معالجة جهاز التفكير لدينا لهذا الموقف.

عمل معقد للدماغ

كيف يعمل دماغنا
بالإضافة إلى المركز البصري الأساسي (الرمادي)، تشارك مجموعة كاملة من المناطق الأخرى من القشرة الدماغية في عملية الرؤية.

وهنا بالضبط يأتي دور الهلوسة. يفترض علماء الأعصاب اليوم أن هذه الظواهر تحدث دائماً عندما تصبح المستويات النهائية للإدراك الحسي نشطة، ومنفصلة عن التحفيز الفعلي. حيث تشتعل المناطق التفسيرية على الرغم من عدم وجود حافز إدخال. ومن ثم يخلق دماغنا صورة واقعية تماماً أو انطباعاً سمعياً نسميه هلوسة.

تُظهر فحوصات الدماغ باستخدام التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي (fMRI) أنه أثناء الهلوسة تنشط نفس مناطق الدماغ والوصلات التي تنشط عند معالجة محفز حقيقي. لكن هناك فرقاً حاسماً: المناطق المسؤولة عن استقبال الإشارات مباشرة من الأعضاء الحسية – على سبيل المثال مركز البصر الأساسي أو مركز السمع – تظل غير نشطة. إذن الهلوسة هي النتيجة المباشرة للعمل المعقد لدماغنا[3].

ما الذي يسبب الهلوسة؟

على الرغم من أنه أصبح من الواضح الآن أن الهلوسة ليست رسائل إلهية أو تعبيرات عن المس الشيطاني، إلا أن الكثير من الناس ما زالوا يعتبرونها أحد أعراض المرض العقلي الخطير. فإذا سمعت أصواتاً أو رأيت أشياء غير موجودة، فلابد أن هناك خطأ ما فيك، حسب الاعتقاد السائد. لكن الهلوسة هي أحد الآثار الجانبية الشائعة للذهان، وخاصة الفصام[4]. حيث يسمع المصابون بالفصام أصواتًا يمكن أن تعطيهم تعليمات أو تهينهم أو تخيفهم. يعاني مرضى الفصام كذلك من الهلوسة البصرية الشديدة، وهو شيء متكرر مع هذا المرض، ولا يزال غير معروف أسبابه على وجه التحديد.

الهذيان

أسباب الهلوسة
كيف يعمل العقل خلال الهذيان

لكن الفصام ليس السبب الوحيد للهلوسة، بل على العكس هناك مجموعة متنوعة من الحالات والأمراض التي يمكن أن تسبب أيضاً مثل هذه الأعراض. ومن الأمثلة على ذلك الهذيان الناجم عن التسمم بالكحول، أو مرض باركنسون أو أورام المخ، وكذلك ارتفاع درجة الحرارة. وهذا الأخير يمكن أن يؤدي إلى الهلوسة في كثير من الأحيان، وخاصة عند الأطفال.

يخبرنا طبيب الأعصاب أوليفر ساكس عن امرأة تتذكر تجارب غريبة أثناء نوبة الحمى عندما كانت في الحادية عشرة من عمرها:

بدا أن جسدي يتقلص وينمو مع كل نفس أتنفسه، كان جسدي يشعر كأنه ينتفخ حتى تأكدت أن بشرتي ستنفجر كالبالون.

تصف المرأة انطباعاتها حينما كانت تعاني من نوبة الحمى، ويصف مرضى آخرون رؤية شخصيات غريبة تشبه الأقزام أو عمالقة أو سماع الموسيقى.

نوبات الصرع

يمكن أن تؤدي نوبات الصرع أيضاً إلى حدوث الهلوسة، خاصة إذا كان تركيز الصرع في الفص الصدغي. فالكاتب الروسي فيودور دوستويفسكي، على سبيل المثال، كان يعاني بانتظام من نوبات صرع مصحوبة بهلوسة بصرية ومشاعر شديدة من السعادة. يصف دوستويفسكي حالته قائلاً:

شعرت كما لو أن السماء نزلت إلى الأرض وغطتني.

وقد اعتقد بعض علماء الأعصاب أن هذه الهلوسة هي التي ألهمته في كتابة بعض الروايات الغامضة. كذلك يشير العديد من الباحثين إلى أن الملحن فريدريك شوبان ربما كان يعاني أيضاً من صرع الفص الصدغي[5] أيضاً.

هالة الصداع النصفي

تعتبر ظاهرة الهالة في الصداع النصفي أقل دراماتيكية، ولكنها أكثر شيوعاً. حيث تظهر أنماط هندسية غريبة في مجال الرؤية، وغالباً ما تكون على شكل منجل خشن متقزح اللون. يصف طبيب الأعصاب أوليفر ساكس إحدى هذه الهالات التي عاشها في طفولته قائلاً:

كنت ألعب في الحديقة عندما ظهر ضوء متلألئ على يميني، ساطع بشكل مذهل. اتسع وأصبح قوساً هائلاً يرتفع من الأرض ويصل إلى السماء، مع حواف حادة متلألئة وحواف متعرجة وألوان زرقاء وبرتقالية رائعة.

هذه المظاهر المرئية أيضاً ليست أكثر من هلاوس، كما يوضح ساكس:

على الرغم من أنها مجرد أنماط وليست صوراً حقيقية، إلا أنه لا يوجد شيء في العالم الخارجي يتوافق مع هذه الأنماط المتعرجة وأنماط رقعة الشطرنج، فهي أنماط يخلقها الدماغ[6].

تظهر فحوصات الدماغ أنه أثناء نوبة الصداع النصفي، تمر موجة من النشاط غير الطبيعي عبر الدماغ. ويشتبه أطباء الأعصاب في أن هلاوس الهالة تحدث عندما تمر موجة النشاط هذه عبر المراكز البصرية. ومن المثير للاهتمام أن أنماط هالات الصداع النصفي وغيرها من الهلوسة الهندسية متشابهة إلى حد كبير لدرجة أن بعض أطباء الأعصاب يعتبرونها نوعاً من “بصمة” بنية الخلية في القشرة البصرية. حيث يعكس إطلاق الخلايا العصبية ترتيبها.

الحرمان الحسي

أسباب الهلوسة
يوم واحد فقط وأنت معصوب العينين يمكن أن يسبب الهلوسة البصرية

هناك شكل شائع جداً من الهلوسة لا يحدث فقط عند الأشخاص الذين يتمتعون بصحة عقلية كاملة، بل إنه لا يتطلب أيضاً أي مواقف عاطفية أو نفسية شديدة. لكن الشرط الوحيد لحدوثه هو عدم تحفيز الحواس. ففي عام 2004، أجرى طبيب العيون لطفي مرابط وزملاؤه في جامعة هارفارد تجربة رائدة[7].

ارتدى 13 متطوعاً عصابة على أعينهم تركتهم عميان تماماً لمدة خمسة أيام متتالية. سُمح للمشاركين في الاختبار بالاستماع إلى الراديو والتلفزيون، وتم إعطاؤهم الطعام، وسمح لهم بالتحدث والتحرك بشكل طبيعي، وحتى الخروج من المنزل. كل شيء طبيعي دون حاسة البصر لديهم.

بعد يوم واحد فقط، وصف عشرة من المشاركين الثلاثة عشر شيئاً غير عادي:

“لقد عانوا من هلاوس بصرية، بعضها يتكون فقط من نقاط مضيئة من الضوء. غير أن بعضها الآخر كان أكثر تعقيداً ويتكون من وجوه أو مناظر طبيعية أو أشياء مزخرفة. وكانت هذه الأشياء تظهر فجأة وتستمر لبضع ثوان أو دقائق، ثم تختفي فجأة”.

تثبت هذه التجارب أن دماغنا يمكن أن يتفاعل مع الهلوسة حتى بعد الحرمان قصير المدى نسبياً من المحفزات الحسية. كما لو كان للتعويض عن نقص التحفيز البصري، يقوم الدماغ بخلق انطباعاته البصرية الخاصة. وقد لوحظت مثل هذه الهلوسة الناجمة عن الحرمان الحسي في السابق لدى السجناء عندما كانوا في الظلام وفي الحبس الانفرادي – وكان هذا يشار إليه بسخرية باسم “هلوسة السجين“.

متلازمة شارل بونيه

يفسر الحرمان من المحفزات الحسية سبب معاناة المكفوفين أو الصم من الهلوسة. ومن الأمثلة النموذجية على ذلك متلازمة شارل بونيه، التي سميت على اسم مكتشفها، وهو عالم طبيعة سويسري من القرن الثامن عشر. تحدث هذه المتلازمة في العادة عند كبار السن الذين فقدوا بصرهم بالكامل أو جزءً منه بسبب إعتام عدسة العين أو الضمور البقعي. حيث تنتج أدمغة بعض المرضى هلوسة بصرية تتراوح من أنماط هندسية بسيطة إلى مشاهد متقنة تشبه الأفلام. بينما يكشف مسح الدماغ عن توافق مدهش بين الأوهام البصرية ونشاط الدماغ، كما يذكر طبيب الأعصاب أوليفر ساكس:

إن هلاوس الوجوه أو الألوان أو الأنسجة أو الأشياء تنشط مناطق معينة من الدماغ وتشارك عادة في إدراك هذه الأشياء.

الرتابة البصرية

رتابة الحواس
يمكن أن تكون وحوش البحر في الأساطير نتيجة لهلوسة البحارة الناجمة عن رتابة الحواس.

ليس من الضروري تعطيل إحدى الحواس للتسبب في الهلوسة. حيث يمكن أن يكون للرتابة البصرية نفس التأثير تقريباُ. ولا عجب أن نجد الكثير من البحارة في الماضي قد أبلغوا عن ظواهر غريبة بعد رحلات طويلة عبر العراء في البحر الهادئ. ولن يكن من المستغرب أن تعود أصول العديد من الأساطير حول وحوش البحر وسفن الأشباح إلى مثل هذه الهلوسة. على سبيل المثال فكرة أشباح مثلث برمودا المرعب.

يقول أوليفر ساكس:

بعد فترة وجيزة من الحرب العالمية الثانية، تم الاعتراف بأن مثل هذه الرؤى تمثل خطراً على الطيارين الذين يطيرون لساعات على ارتفاعات عالية عبر سماء فارغة.

يمكن كذلك لسائقي الشاحنات الذين يقضون مسافات طويلة محدقين في طريق لا نهاية له لساعات أن يتعرضوا أيضاً لمثل هذه الهلاوس. توضح هذه الأمثلة أن الهلوسة لا ترتبط بالجنون أو المرض، ولكنها مجرد تعبير عن قدرة دماغنا على التكيف وحياته الرائعة.

مواقف الحياة اليومية

أفاد المحلل النفسي الشهير سيغموند فرويد عن الهلوسة في مواقف يومية عادية تماماً. يقول فرويد في كتابه “علم النفس المرضي للحياة اليومية[8]“:

في الأيام التي كنت أعيش فيها كشاب في مدينة غريبة، كثيراً ما كنت أسمع اسمي يُنادي بصوت محبوب لا لبس فيه. ولكن عندما انظر حولي، لم يكن هذا الشخص في أي مكان يمكن رؤيته.

يبدو كذلك أن المواقف ذات الخطر الكبير والإثارة الكبيرة تشجع على سماع الأصوات، كما شهد طبيب الأعصاب أوليفر ساكس ذلك بشكل مباشر عندما سقط أثناء تنزهه في الجبال وأصيب بجراح خطيرة في ركبته. كافح وزحف بشكل مؤلم إلى أسفل الوادي لأنه لن يجد المساعدة إلا هناك، وفي مرحلة ما كان على وشك الاستسلام، ولكن بعد ذلك جاءه صوت قوي وأمره قائلاً:

لا يمكنك أن تستريح هنا، عليك المضي قدماً.

وكما يقول ساكس، فمن الواضح أنه أدرك أن هذه الكلمات مجرد هلوسة، وفي حين أن دماغنا عادة ما يكون جيداً في التمييز بين الأصوات الداخلية والمحفزات الصوتية الخارجية الحقيقية، إلا أنه من الواضح أن الدماغ لم يعمل في هذه الحالة، ولا يعرف أطباء الأعصاب حتى الآن السبب الدقيق لذلك.

الهلوسة في الأصحاء

إذا سمعت فجأة صوتاً أو رأيت شيئاً أو شعرت بلمسة أو شممت رائحة، فلا داعي للقلق بشأن ذلك، لأن عدداً كبيراً من الناس يعانون من هلوسة قصيرة لمرة واحدة أو أكثر على مدار حياتهم، دون أن يكونوا مرضى أو حتى يعانون من الذهان. اكتشف ذلك باحثون بقيادة جون ماكغراث من جامعة كوينزلاند[9]. ففي دراستهم، سألوا أكثر من 31 ألف شخص سليم في 18 دولة عما إذا كانوا قد عانوا من الهلوسة خلال حياتهم، وكم مرة وبأي شكل. وكانت النتيجة مفاجئة: أجاب خمسة بالمائة ممن شملهم الاستطلاع بنعم. ومن بين هؤلاء، شهدت الغالبية ظهوراً بصرياً من قبل، وأبلغ نصفهم عن حادثة واحدة على الأقل سمعوا فيها صوتاً.

إذن الأشخاص الذين يتمتعون بصحة جيدة يمكن أن يتعرضوا للهلوسة. لكن اللافت للنظر هو أن هذا حدث نادراً جداً بالنسبة لمعظم المشاركين في الدراسة. حيث تعرض ثلثهم للهلوسة مرة واحدة فقط في حياتهم، وثلث آخر أبلغ عن نوبتين إلى خمس نوبات. يقول ماكغراث:

لذلك، يمكن للناس أن يشعروا براحة البال طالما أن ذلك يحدث مرة أو مرتين فقط.

الهلوسة في الفن والدين

الرؤى الدينية والهلوسة
ربما يكون الفرعون المصري أخناتون قد شهد رؤى دينية من خلال نوبات الصرع.

الفرعون أخناتون وبولس الرسول وجان دارك: كلهم ​​شهدوا رؤى درامية غيرت حياتهم بالكامل. لكن ما هي هذه التجارب بالضبط؟ هل يمكن أن تكون هذه مجرد هلاوس؟ هذا أمر محتمل جداً، وعليك أن تسأل نفسك إلى أي مدى ساهمت تجارب الهلوسة في الفن والثقافة والأدب والدين.

يصف العديد من المؤمنين على اختلاف دياناتهم أن تعرضوا لرؤى دينية أو روحانية تشبه الهلوسة التي تحدث في العادة عند مرضى الفصام. فالعديد من المصابين بالفصام أبلغوا كذلك عن تجارب شبه دينية أو حتى دينية صريحة، وتعتبر مثل هذه التجارب سمات نموذجية لهذا المرض.

هناك مصدر آخر محتمل للرؤى الشديدة هو نوبات الصرع في الفص الصدغي، وكما ذكرنا في السابق أن دوستويفسكي كان يعاني من نوبات صرع كادت أن تدخله في حالة من النشوة الدينية. يصف دوستويفسكي إحدى هذه التجارب قائلاً:

لمست الله، لقد شعرت به في داخلي. لا أعرف إذا كانت هذه السعادة تدوم لثواني أو ساعات أو أشهر، لكن صدقني، من بين كل المتع التي قد تجلبها الحياة، لن أستبدلها بأي شيء.

يشير بعض الباحثين إلى إنه من الممكن أن الهلوسة الناجمة عن مثل هذه النوبات الصرعية قد عانى منها الفرعون المصري أخناتون، وربما كانت مصدر إلهام لعبادة آتون. كذلك يرجع بعض أطباء الأعصاب رؤى جان دارك – القديسة الفرنسية التي ظهرت لها مريم العذراء فجأة – إلى نوبات صرع في الفص الصدغي.

إلهام للفن العظيم

أسباب الهلوسة
عانى إدفارد مونك من الهلوسة وعالج هذه التجارب في لوحته “الصرخة”.

هناك أيضاً أوجه تشابه بين بعض أشكال الهلوسة النموذجية وزخارف العديد من الأعمال الفنية. تتشابه الزخارف الهندسية في العديد من اللوحات الصخرية للسكان الأصليين بشكل لافت للنظر مع الأنماط التي تحدث في هالات الصداع النصفي أو الهلوسة الناجمة عن المخدرات. كما كشف تحليل صور الكهوف من العصر الحجري عن شيء مماثل، ويعتقد بعض الباحثين أن بإمكانهم رؤية صور واضحة لأنماط التنشيط العصبي في هذه الصور. وربما يكون بعض الفنانين والشامان في عصور ما قبل التاريخ على الأقل قد تناولوا الفطر وغيره من أدوية الهلوسة أثناء الرسم.

استخدم كذلك العديد من الشعراء والرسامين والموسيقيين في القرن التاسع عشر المخدرات عن عمد لتجربة الهلوسة. لقد رأوا فيها مصدر إلهام لفنهم. حيث يصف الكاتب الفرنسي شارل بودلير تجارب هلاوسه بعد أن كان تناول الحشيش. بينما يقال إن معاصريه صموئيل تايلور كوليردج، وتوماس دي كوينسي، وجون كيتس قد كتبوا أجزاء من قصائدهم بعد تجرع الأفيون. وفي المقابل، كانت هلوسات الرسام النرويجي إدفارد مونك، المعروف بلوحته “الصرخة” لا إرادية إلى حد ما. حيث عانى من الهلوسة والقلق طوال حياته. ويصف هذه الحالة على النحو التالي:

لعدة سنوات كنت شبه مجنون. ومن خلال لوحتي (الصرخة) دفعت نفسي إلى أقصى الحدود، لقد صرخت الطبيعة في دمي.

المراجع

[1] The hallucinations of Frédéric Chopin.

[2] Neurologist Oliver Sacks On The Hallucination That Saved His Life.

[3] Hallucinations: A Functional Network Model of How Sensory Representations Become Selected for Conscious Awareness in Schizophrenia.

[4] Cognitive correlates of auditory hallucinations in schizophrenia spectrum disorders.

[5] What to know about temporal lobe epilepsy hallucinations.

[6] Migraine by Oliver Sacks.

[7] Emotion Processing in Early Blind and Sighted Individuals.

[8] The Psychopathology of Everyday Life, Sigmund Freud.

[9] Hallucinations and delusions more common than thought.

This Post Has 4 Comments

  1. غير معروف

    هذا يعني أنه ليس مرضاً وهو أمر طبيعي وبالتالي لا حاجة لعلاج

    1. وائل الشيمي

      يمكن أن تكون الهلوسة عرض من أعراض بعض الأمراض النفسية والعقلية كالفصام على سبيل المثال كما ذكرنا في المقال، لذا إذا كان هناك مرضاً يجب البحث عن علاج المرض نفسه وليس أعراضه

  2. Souheil Abou Samra

    .. إنه الصرع الذي عانى منه ففي عام 1848 قال شوبان إنه شاهد كائنات تخرج من البيانو وتكلم عن الخوف والأشباح، ما دفعه إلى تأجيل عرضه حتى يتمكن من استجماع نفسه.ويقول الباحثون إن الهلوسات قد تنتج عن عوامل نفسية حين تتعلق بالأصوات، لذا فان صرع الفصّ الصدغي هو تفسير أكثر ترجيحاً لتشخيص الحالة التي كان يعاني منها شوبان بحيث أنها تؤدي إلى هلوسات مرئية مثل التي وصفها.وقال الباحثون إن أطباء شوبان لم يتمكنوا من تشخيص حالته بما أن الصرع لم يكن معروفاً كثيراً في العصر الذي عاش فيه

اترك تعليقاً