مغالطة المأزق المفتعل: الهروب من فخ الخيارين
نحيا في عالم تتقاطع فيه الآراء وتتصادم فيه الرؤى، وفي كثير من الأحيان نجد أنفسنا محاصرين بين خيارين لا ثالث لهما، وكأن العالم قد انقسم بين الأبيض والأسود، الصواب والخطأ، معنا أو ضدنا. هذه الطريقة في عرض الأمور تخفي وراءها واحدة من أكثر المغالطات المنطقية الفكرية شيوعًا وخطورة: مغالطة المأزق المفتعل. إنها اللحظة التي يتم فيها تقليص الواقع الواسع والمليء بالاحتمالات إلى اختيار قسري بين مسارين فقط، فيُغلق باب التفكير النقدي، وتُختزل التعقيدات إلى تبسيط مخادع. في هذا النص، سنغوص معًا في فهم هذه المغالطة، كيف تُستخدم، ولماذا علينا أن ننتبه لها في خطاب الآخرين وفي طريقة تفكيرنا نحن أيضًا.
مبدأ الثالث المرفوع
لفهم مغالطة المأزق المفتعل أو المعضلة الزائفة أو الثنائية الزائفة، يجب أولًا أن نتذكر أحد المبادئ الأساسية في المنطق: مبدأ الثالث المرفوع أو قانون الوسط المستبعد. يخبرنا هذا المبدأ ببساطة: إما أن يكون الشيء (أ)، أو يكون (ليس أ). لا يوجد خيار ثالث.
هذا المبدأ هو مبدأ أساسي في المنطق. والصيغة المذكورة أعلاه صحيحة إلى درجة أنها تُعتبر بديهية. أما مغالطة المأزق المفتعل، فهي تتمثل على النحو التالي: إما أن يكون الشيء (أ) أو يكون (ب). لا يوجد خيار ثالث.
هذه الصيغة خاطئة لأنها ليست بالضرورة صحيحة. في بعض الحالات قد تكون صحيحة، لكن في كثير من الحالات الأخرى، يمكن أن يكون هناك (ج)، (د)، (هـ)، (و)، (ز)، (ح)، (ط)، وحتى (ي)، بالإضافة إلى (أ) و(ب). وبالتالي، لا يمكن اعتبارها قاعدة أو مبدأ، بل مجرد وصف لحالات خاصة معينة.
هل تشعرون بالارتباك؟ لا داعي للقلق، فالأمر في الواقع بسيط جدًا: يمكن أن يكون الحائط أبيض، أو غير أبيض. لا يوجد خيار آخر. ألا تصدقوني؟ في المنطق، يشمل “غير أبيض” الأسود، والأزرق، والأحمر، والأخضر، والرمادي، والأبيض المُبقَّع بالأسود، والأسود المُخطط بالأبيض، وأي لون يخطر ببالكم طالما أنه ليس أبيضًا بالكامل. بهذه الطريقة، نرى أن مبدأ الثالث المرفوع صحيح تمامًا، رغم أنه يبدو بديهيًا لدرجة أنه لا يستحق الذكر.
السقوط في فخ المأزق المفتعل
الوقوع في مغالطة الثنائية الزائفة سيكون كالتالي: افتراض أن الحائط إما أبيض أو أسود فقط (أ أو ب)، دون وجود خيار ثالث. وهذا، بالطبع، خطأ.
مثال آخر: جميع البشر في العالم إما فرنسيون أو غير فرنسيين. هل هذا صحيح؟ بالطبع! لأن “غير فرنسيين” يشمل الألمان، والإنجليز، والصينيين، والمصريين، والكونغوليين، إلخ. أما الثنائية الزائفة فستكون الادعاء بأن البشر إما فرنسيون أو ألمان فقط، دون السماح بوجود خيار ثالث أو رابع.
ما هو غير ممكن، وفقًا لمبدأ عدم التناقض، هو أن يكون الشيء (أ) و(ليس أ) في نفس الوقت وبنفس المعنى. ووفقًا لمبدأ الثالث المرفوع، لا يمكن أن يوجد خيار ثالث لا يكون (أ) ولا (ليس أ)، لأن ذلك غير متصور منطقيًا. لهذا السبب، فإن مبدأ الثالث المرفوع صحيح تمامًا ولا ينبغي الخلط بينه وبين مغالطة الثنائية الزائفة.
بالطبع، هناك حالات حقيقية يكون فيها الشيء إما (أ) أو (ب)، مثل: إما أن يكون المفتاح في وضع التشغيل أو الإيقاف، إما أن يكون الكائن حيًا أو ميتًا [باستثناء قطة شرودنغر، لكن هذا موضوع آخر]، وهكذا.
لكن مغالطة المعضلة الزائفة هي حيلة بلاغية تهدف إلى إجبار الضحية على اختيار خيار معين. كيف؟ ببساطة، بجعلها تعتقد أن هناك خيارين فقط، وأحدهما سخيف أو مرفوض لدرجة أن عليها اختيار الخيار الآخر تلقائيًا. في كل مرة يحاول فيها شخص ما تقديم خيارين فقط (أ أو ب)، بينما توجد في الواقع خيارات أخرى، فإنه يستخدم خدعة المعضلة الزائفة أو يقع فيها.
مغالطة المأزق المفتعل في الواقع
يمكن استخدام مغالطة المأزق المفتعل بسوء نية لتشويش المستمع، أو قد يكون من يطرحها مقتنعًا بها فعلًا، إما لجهله بوجود خيارات أخرى، أو لأنه ببساطة شخص محدود التفكير يرى العالم بطريقة تبسيطية ثنائية. الثنائية الزائفة شائعة بين المتطرفين والسفهاء الذين يقسمون العالم إلى “نحن والأشرار”..
تستخدم الإعلانات التلفزيونية كثيرًا مغالطة المأزق المفتعل. لنفترض أن المنتج المعلن عنه هو ممسحة تنظيف. في المشاهد التي تظهر أشخاصًا لا يمتلكون هذه الممسحة، نرى أناسًا بائسين، غير مرتبين، حياتهم فوضى، وكل ذلك في مشاهد بالأبيض والأسود. أما في المشاهد التي يظهر فيها من يمتلكون الممسحة، فنراهم مبتسمين، أنيقين، يعيشون في منازل فاخرة، وكل شيء مشرق وملون. الثنائية الزائفة هنا تُعرض كالتالي: إما أن تمتلك الممسحة الجديدة من العلامة التجارية الفلانية، أو ستعيش حياة تعيسة كشخص فوضوي يرتدي ملابس رثة وفي عالم بلا ألوان.
لا حاجة حتى للإشارة إلى مدى سخافة هذا الطرح، صحيح؟ لكن من الشائع أن تلجأ الإعلانات التجارية إلى هذه الحيلة، وبما أنها تستهدف العاطفة أكثر من المنطق، فإننا غالبًا لا نلاحظ ذلك.
تستخدم مغالطة المأزق المفتعل كذلك في السياسة بشكل متكرر. خلال الستينيات والسبعينيات، عندما عارض جزء كبير من الشعب الأمريكي حرب فيتنام، ردّت الحكومة والمحافظون الأمريكيون بشعار: “حب بلدك أو غادره”.. مما يعني تقديم هذا الخيار: إما أن تحب بلدك، وحب بلدك يعني تأييد كل ما تفعله حكومتك، حتى لو كان ذلك حرق الأطفال الفيتناميين بالنابالم، أو أنك لا تحب بلدك، وعليك إذن أن ترحل، أيها الهيبيّ الشيوعي اللعين.
من الواضح أن الذين تبنّوا هذا الطرح لم يكن من السهل إقناعهم بأن حب الوطن لا يعني بالضرورة دعم كل تصرفات الحكومة. وأن الوطنية الحقيقية قد تتضمن رفض الظلم الذي تمارسه الدولة ضد شعوب أخرى.
مغالطة الثنائية الزائفة وعلاقتها بالمغالطات الأخرى
ترتبط مغالطة المأزق المفتعل بمغالطة الاحتجاج بالجهل أو الاحتكام إلى الجهل. تعمل هذه المغالطة على إيهام المستمع بأنه إذا لم يتمكن من تفسير ظاهرة ما، فلا يوجد أمامه سوى خيار واحد لتبنيّه. مثال على ذلك: إما أن تفسر بالتفصيل ماهية ذلك الضوء الذي رأيناه في السماء الليلة الماضية، أو عليك الاعتراف بأنه كان مركبة فضائية يقودها كائنات فضائية. من يطرح هذه الثنائية الزائفة لا يخطر بباله أن عدم قدرتنا على تفسير تلك الأضواء لا يعني بالضرورة أنها كانت مركبة فضائية مأهولة بالفضائيين.
مغالطة الرجل القش وعلاقتها بالثنائية الزائفة
ترتبط مغالطة المأزق المفتعل أيضًا بمغالطة الرجل القش. سُميت هذه المغالطة بهذا الاسم نسبةً إلى الدمى المصنوعة من القش التي كان الجنود يستخدمونها في تدريبات القتال دون التعرض لأي خطر حقيقي. هذه المغالطة هي خدعة بلاغية خبيثة تقوم على تحريف حجج الخصم، واختزالها إلى صورة كاريكاتورية سخيفة بحيث لا يمكن لأي شخص عاقل قبولها، ثم تقديم الرأي الشخصي على أنه البديل الوحيد المتاح. وإذا حاول الطرف الآخر تصحيح سوء الفهم أو توضيح موقفه الحقيقي، فإن الأسلوب المعتاد يكون تجاهل أي محاولات للتوضيح والاستمرار في التكرار والمراوغة.
على سبيل المثال، لننظر إلى هذا “الحوار” بين شخص يؤيد الحد من استخدام الوقود الأحفوري وآخر يعارض ذلك:
- علينا تقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري لتقليل التغير المناخي..
- آه! إذن تريد أن نعود إلى العيش في الكهوف؟
- لا، لم أقل ذلك..
- سمعتم؟ إنه يريد أن نعيش مثل رجال الكهف! الكهوووووف!
- إذا سمحت لي بالشرح..
- كهووووووف!
كما نرى، المغالطة هنا ليست فقط في تقديم خيارين زائفين، بل أيضًا في تحريف كلام الطرف الآخر لخلق صورة كاريكاتورية يسهل دحضها، بدلًا من مواجهة الحجة الحقيقية.
لكن هذا النوع من المواقف ليس حكرًا على قضية التغير المناخي. لنأخذ المثال التالي:
- نحتاج إلى تنظيم الشركات الكبرى حتى لا تحتكر السوق وتستغل المستهلكين..
- آه! إذن تريد أن تُلغى الشركات تمامًا ونعود لنظام المقايضة؟
- لا، لم أقل ذلك…
- سمعتم؟ إنه يريد أن نعيش بدون مال! بدون شركات! المقايضة فقط
- “إذا سمحت لي بالشرح…
- مقاااايضة!
أمثلة أخرى على المأزق المفتعل:
- من لا يدعم سياسات الحكومة فهو خائن للوطن.
- إذا لم تكن مع التوسع العمراني، فأنت ضد التقدم.
- إن لم تتبع نظامًا غذائيًا صارمًا، فأنت لا تهتم بصحتك.
- إذا لم تكن مع الذكاء الاصطناعي، فأنت ترفض التقدم التكنولوجي تمامًا.
- إما أن تكون معتمدًا على نفسك بالكامل، أو أنك مجرد عالة على الآخرين.
- إما أن تكون حياتك مثالية كما تُظهرها على وسائل التواصل، أو أنك تعيش في بؤس.
- إذا لم تقبل هذه الوظيفة بأي راتب، فأنت لا تريد العمل حقًا.
لكن لا تعتقدوا أن جميع الثنائيات الزائفة يسهل اكتشافها والتصدي لها. هناك ثنائية زائفة تم الترويج لها منذ زمن بعيد، سواء في السياسة، أو الإعلام، أو حتى في الحياة اليومية: “يجب أن تختار” ولا خيار آخر!
المزايا والعيوب
يحدث أن الكثير من الناس يتعاملون مع وجود (أ) و (ب) كأنهما خياران جامدان غير قابلين للتغيير، وكأنهما الوحيدان الممكنان. المدافعون عن كل خيار ينظرون إلى الآخر باعتباره سخيفًا جدًا، أو غير عملي، أو غير أخلاقي لدرجة أنهم لا يفكرون فيه حتى.
كل طرف سيركز على الأمور الإيجابية في خياره والعيوب في الخيار الآخر. وإذا أشار شخص ما إلى العيوب في أحد الخيارات، فإن أنصاره سيقفزون دفاعًا عنه وسيهاجمون العيوب في الخيار الآخر. لماذا؟ لأنهم مقتنعون بأنه لا يوجد سوى (أ) و(ب)، وفي أذهانهم، انتقاد خيار (أ) يعني تلقائيًا دعم خيار (ب) أو العكس، سواء كان ذلك بقصد الهجوم أو الدفاع.
أما بالنسبة للعيوب في الخيار الذي يدافعون عنه، فسيجادلون بأنها ليست بهذا السوء خاصة إذا قورنت بعيوب الخيار الآخر، أو أنها شرٌّ لا بد منه للاستمتاع بالإيجابيات، أو – وهو الأسوأ – أن هذه العيوب في الواقع جيدة ومرغوبة بحد ذاتها.
لذلك، إذا سمعت أشخاصًا يقولون إن المصريين ليسوا بحاجة إلى حرية التعبير والديمقراطية لأنهم يملكون كل ما يحتاجونه للعيش، أو أن موت الأبرياء في الحروب الإمبريالية مجرد تفاصيل يجب ألا نهتم بها، لأن الحروب والقتل كانا دائمًا جزءً من التاريخ البشري على أي حال، فاعلم أنهم واقعون في فخ مغالطة المأزق المفتعل.
مغالطة رجل القش
الأشخاص الذين وقعوا في هذا الفخ الجدلي لا يستطيعون تخيّل خيار ثالث أو رابع أو خامس، كما لو أن تاريخ الحضارات البشرية لم يعرف أبدًا أنظمة اجتماعية متنوعة. وبمجرد أن يسمعوا فكرة لا تتطابق مع خيارهم، فإنهم يصنفونها فورًا ضمن الخيار المعاكس الوحيد ثم يهاجمونها على هذا الأساس، ليقعوا بذلك في مغالطة رجل القش.
على سبيل المثال، يرى بعض المؤيدين للأنظمة المركزية الصارمة أن كل ما لا ينتمي إلى نموذجهم التقليدي، سواء كان نظامًا لامركزيًا أو مختلطًا، ما هو إلا طريق للفوضى والانهيار. أي أنهم بمجرد أن يلاحظوا أن فكرة ما ليست نسخة طبق الأصل من رؤيتهم، فإنهم يعتبرونها تلقائيًا جزءً من الخيار المضاد ويهاجمونها بناءً على ذلك.
وينطبق الأمر نفسه على بعض أنصار الرأسمالية المطلقة، فعندما يسمعون أي مقترح يتحدث عن تنظيم السوق أو تقديم ضمانات اجتماعية، فإنهم يبدأون بالصراخ: “كوريا الشمالية! التخطيط المركزي! انهيار الاقتصاد! إفلاس! حكومة متسلطة!”.. وذلك دون أن يمنحوا أنفسهم فرصة للاستماع إلى الفكرة أو تحليلها.
خيارات غير منطقية
في هذه الحالة، ينبغي دراسة كل تفصيلة وكل عامل في كل خيار، وتحليل العلاقات التي تربط بينها لمعرفة ما إذا كانت جوهرية أم عرضية، وكذلك النظر في تفاصيل أخرى قد تكون مفيدة وعوامل أخرى قد نواجهها. وبهذه الطريقة ستنشأ الخيارات (ج) و(د) و(ز) وغيرها. من الواضح أن ليست كل الخيارات ستكون قابلة للتطبيق، وبالضرورة ستكون هناك بعض الخيارات غير منطقية تمامًا. ولكن لمعرفة ذلك، يجب النظر في كل واحدة منها على حدة، وليس استبعادها لمجرد أنها لا تتوافق مع رؤية ثنائية متطرفة للعالم.
لكن بنفس السهولة، يمكن أيضًا طرح “ثلاثيات” و”رباعيات”، أي أن تبدو الأمور وكأنها تقدم عدة خيارات، لكن جميعها، عدا واحدة، غير مقبولة. وهذا يقودنا أيضًا إلى الحديث عن مغالطة “الوسط العادل الزائف”، حيث يتم طرح خيارين (أ) و(ب)، على أنهما متطرفان، ويُقدَّم خيار ثالث كوسيط معقول. لكن يجب التذكير بأن كون أحد الخيارات في المنتصف لا يجعله تلقائيًا الأفضل؛ فقد تكون هناك خيارات أكثر ملاءمة. لذا، يجب أن نكون متيقظين، منفتحين الذهن، ولكن مع تشغيل فلتر التفكير النقدي دائمًا.
إذن، كيف يمكن الهروب من مغالطة المأزق المفتعل؟ من خلال التعرف على تعددية العالم والاعتراف بها. وقبول أن الواقع غني ومعقد للغاية بحيث لا يمكن تصنيفه ضمن كتل صلبة وثابتة، أو اختزاله في فئات ثنائية متناقضة. مرة أخرى، يعد التفكير المنطقي والمعرفة بالعالم أدوات لا تقدر بثمن في مواجهة التلاعب، والتعصب، وجمود المواقف الأيديولوجية.
تكشف لنا مغالطة المأزق المفتعل عن ميل بشري إلى حب البساطة وتجنب التعقيد، حتى ولو جاء ذلك على حساب الحقيقة. إن إدراك وجود حلول وخيارات متعددة يتطلب شجاعة فكرية.. ورغبة حقيقية في رؤية الواقع كما هو، لا كما يسهل تصنيفه. مقاومة هذه المغالطة ليست مجرد تمرين ذهني، بل هي دفاع عن حرية التفكير وحقائق العالم الثرية والمتنوعة. في زمن تكثر فيه الأصوات التي تدعونا إلى الاختيار السريع والاصطفاف الأعمى، تصبح مقاومة التفكير الثنائي مسؤولية كل من يسعى إلى الفهم العميق والحوار الصادق.