تحليل كتاب العاقل: تاريخ مختصر للجنس البشري

You are currently viewing تحليل كتاب العاقل: تاريخ مختصر للجنس البشري
كتاب العاقل ليوفال هراري نوح

العاقل: تاريخ مختصر للجنس البشري هو كتاب للمؤرخ الإسرائيلي يوفال هراري نوح، الذي يعمل كأستاذ للتاريخ في الجامعة العبرية بالقدس. تخصص هراري في تاريخ العصور الوسطى والتاريخ العسكري، وبعد حصوله على الدكتوراه من جامعة أكسفورد شرع في كتابه هذا الكتاب الذي عرض فيه التاريخ الطويل للبشرية منذ ظهور أول بشري إلى تربعه على عرش المملكة الحيوانية بأكملها. في المقال التالي نتعرف على كتاب العاقل ونحاول تحليل الكتاب بمزيد من التفصيل.

ملخص كتاب العاقل

يتكون هذا العمل من أربعة أجزاء:

الجزء الأول

يتناول الجزء الأول من الكتاب الثورة المعرفية. وفيه يستعرض هراري بسرعة نشأة القوانين الفيزيائية بعد الانفجار العظيم ثم نشأة الكيمياء (الذرات والجزئيات والتفاعلات الكيميائية) والبيولوجيا (الكائنات الحية) ثم يصف ظهور العالم كما نعرفه إلى ظهور جنس الإنسان على الأرض وتطوره من حيوان لا أهمية له حتى سيطرته على جميع الكائنات الحية الأخرى. يشير هراري في ذلك الجزء إلى أن الثورة المعرفية حدثت مع إنشاء لغة خيالية، ومن ثم جعل اختراع اللغة غزو العالم ممكناً. بينما شكلت اللغة أساس تفوق الإنسان العاقل كنوع.

يؤكد هذا القسم من الكتاب على الدور الهام الذي اضطلعت به اللغة كعنصر أساسي في التحولات الأساسية للحياة على هذا الكوكب. حيث منحت اللغة الإنسان العاقل قدرة استثنائية على نقل المعلومات حول كل شيء، بما في ذلك، الأشياء غير الموجودة على الإطلاق – التجريد. وهو ما سمح بعد ذلك باختراع أساطير مشتركة أعطت الإنسان قدرة فريدة على السيطرة. وتتمثل هذه القدرة في التعاون بين أفراد النوع.

يقول هراري أن الخيال الجمعي للبشر ساعدهم على ابتكار أساطير أو أكاذيب وحدّت بينهم. فلا توجد آلهة في الكون ولا توجد دول ولا مال ولا حقوق إنسان ولا قوانين ولا عدالة خارج الخيال المشترك للبشر. بينما شكلت المعتقدات المشتركة فكرة التعاون البشري. وقد أخذ هذا التعاون العديد من الأشكال المختلفة مثل القبائل والكنائس والمدن والإمبراطوريات والأمم والدول والمنظمات العالمية والشركات متعددة الجنسيات وغيرها. ويعتبر هذا الأمر إنجازاً نوعياً في تاريخ الإنسان وهو الذي جعل من قرد غير ذي أهمية – على حد قول الكاتب – أن يصبح سيد الكوكب.

الجزء الثاني

يتناول الجزء الثاني من هذا العمل: الثورة الزراعية. وفيه يصف هراري التطور البشري والتحول من مجتمع الجامعين الصيادين إلى مجتمع المزارعين والرعاة المستقرين. ساعد هذا التحول والاستقرار على الزيادة السكانية. وهو ما أدى بعد ذلك إلى ضرورة إنشاء منظمات معقدة من شأنها أن تجعل من الممكن إدارة إنتاج وتوزيع السلع الكبيرة. وأسفرت مثل هذه الأشكال من التنظيم عن ترتيب اجتماعي هرمي. وبدعم من الأساطير المشتركة كذلك استطاعت أقلية أن تضع نفسها على قمة الهرم الاجتماعي. وتشكلت هذه التراتبية في مرحلتها الأولية من قبل: الملوك والمسؤولين الحكوميين والجنود والكهنة والفنانين والمفكرين، والغالبية العظمى من الفلاحين كانوا يقبعون في قاعدة هذا الهرم.

ساعدت الثورة الزراعية على ظهور السياسة والحروب والفن والفلسفة. وهناك بعض الادعاءات التي تنتشر في عصرنا الحالي عن اختفاء هذه التراتبية إلا أنها لم تختفي بل أخذت أشكالاً أخرى مثل الخدم والعبيد والارستقراطيين والبيض والسود والاغنياء والفقراء وغيرها من أشكال التمييز على أساس الدين أو العرق أو الجنس.

في سياق هذه المرحلة التطورية الثانية، والمرتبطة بالتمايز إلى مجموعات أو طبقات، يفحص هراري موضوعاً آخر ذا أهمية كبيرة، النظام الأبوي. ويفسره على أنه شكل إضافي للهيمنة التاريخية للمجموعات الأقوى على الأضعف، وفي هذه الحالة: رجال – نساء.

الجزء الثالث

يتناول الجزء الثالث من العمل: توحيد البشرية. وفيه يصف هراري كيف أن التطور نحو أشكال أكبر من التعقيد في المجتمع مصحوب بتركيبات خيالية مصقولة بشكل متزايد. فالمساواة والحرية الفردية اليوم – في ظل النظام السياسي الحديث – هي القيم الأساسية للمجتمع. ومع ذلك، فإن هذه القيم تفشل في التوفيق بين التناقض الذي يواجه بعضها البعض – “ضمان أن كل فرد سيكون حراً في فعل ما يشاء هو حتماً عملية احتيال على المساواة” – ويبدو أن هذا، مثل التناقضات الأخرى في الماضي، شكلت “محركات الثقافة، المسؤولة عن الإبداع والديناميكية لجنسنا البشري”.

يسلط المؤلف أيضاً الضوء على الترابط المعقد والحتمي للثقافات البشرية ويتحدى الأطروحات المتناقضة ويخمن ميلها الحتمي نحو التوحيد. وعلى نفس المنوال، يدحض هراري فكرة الخطابات القومية الحالية التي تمجد الثقافات “الأصيلة”. حيث يؤكد قائلاً:

“إذا كنا نعني بكلمة” أصيلة “شيئاً تطور بشكل مستقل، ويتكون من تقاليد محلية قديمة، خالية من التأثيرات الخارجية، فليس هناك أي ثقافة أصلية على الأرض، فعلى مدى القرون القليلة الماضية، تغيرت جميع الثقافات بما يكاد يتعذر التعرف على الأصالة من خلال وابل من التأثيرات العالمية”.

يشير هراري إلى أن أصول العولمة وتوحيد الثقافات تعود إلى الألفية الأولى قبل الميلاد. وذلك على عكس ما تقوله به أدبيات العصر الحديث. لقد كانت هناك ثلاثة أنظمة عالمية في ذلك الوقت: المال والرؤى الإمبراطورية وقانون الدين. حيث كان العالم سوقاً واحدة بالنسبة للتجار، وسكان العالم هم سكان محتملون. أما بالنسبة للإمبراطوريات فالعالم بأسره إمبراطورية واحدة وجميع البشر رعايا محتملين. في حين أن كان ينظر الأنبياء إلى البشر على أنهم مؤمنين محتملين.

ومن هذا المنطلق كانت هناك ثلاثة قوى موحدة أساسية لتحديد النظام الذي حكم تطور البشرية. المال، وهو أكثر أنظمة الثقة عالمية وكفاءة اُخترعت على الإطلاق من خيالنا المشترك. والنظام الإمبراطوري، وهو الشكل الأكثر فعالية للتنظيم السياسي في تاريخ البشرية نظراً للتنوع الثقافي والمرونة الإقليمية التي يمكن أن يشملها. وفي الأخير يأتي الدين بأشكاله المختلفة على حد قول المؤلف سواء كان بتعبيرات الحالية أو الأيديولوجيات الحديثة مثل الليبرالية والشيوعية والرأسمالية والقومية والنازية. وهو النظام الذي يقوم على معايير وقيم تستند على الإيمان بنظام فوق بشري.

الجزء الرابع

يتناول الجزء الرابع والأخير من هذا العمل: الثورة العلمية. يشير فيه هراري إلى أن الثورة العلمية هي ثورة على الجهل. ومن الواضح أن العلم الحديث يعترف بالجهل الجماعي فيما يتعلق بالقضايا المتعالية. وهذا الأمر منح العلم القدرة على أن يكون أكثر ديناميكية وقابلية للتكيف وفضولياً بشأن أي تقليد سابق للمعرفة. وقد أدى كذلك إلى توسيع قدرتنا بشكل كبير على فهم كيفية عمل العالم وقدرتنا على ابتكار تقنيات جديدة.

إن حل العديد من المشكلات بالعلم قد جلب معه أسطورة أخرى مفادها أن البشرية يمكنها حل جميع المشكلات من خلال اكتساب المعرفة الجديدة وتنفيذها. ومع ذلك، كما يشير هراري، فإن العلم هو نتيجة النشاط البشري. و “مثل جميع المجالات الأخرى في ثقافتنا، يتشكل من خلال المصالح الاقتصادية والسياسية والدينية”. فلا يمكن للعلم وحده تحديد أولوياته الخاصة، فهو يخضع للمصالح الاقتصادية والسياسية والأيديولوجية المهيمنة، أي للأنظمة العالمية الثلاثة التي تحكم تطور البشرية: المال والإمبريالية والدين في مظاهرها الحديثة.

يختم هراري الكتاب بالتفكير في مستقبل الإنسان العاقل على الكوكب والقوة العظيمة التي يمنحها العلم والتكنولوجيا للتلاعب بالقيود التي يفرضها العالم من حوله. ويشير إلى إمكانية خلق حياة غير عضوية متحررة من القيود التي يفرضها علم الأحياء. بينما يشير إلى أن أسطورة العلم والتكنولوجيا ضمان لعالم أفضل للإنسان العاقل. فهو الآن يتمتع بقوى كانت تعتبر دوماً إلهية، مثل خلق الحياة، والشباب الأبدي، وتغيير علم الوراثة في طبيعتنا البشرية، وحتى القدرة على قراءة العقول من خلال الاتصال بأجهزة الحاسب. ولكن، كما يخشى هراري، من أن هذه الرغبة في التطور التكنولوجي، جنباً إلى جنب مع البحث عن “الخلود”، في صورة مشروع جلجامش – وهو إمكانية خلق إنسان خارق – يمكن أن تعرض الحياة على الكوكب للخطر، نتيجة تدهور المناخ وانقراض بعض الأنواع الأخرى. ولكن في النهاية يمكن للإنسان العاقل محاكاة أسطورة فرانكشتاين، لتوليد تدميره الذاتي واستبداله بكائنات مختلفة.

اقرأ أيضًا: هكذا تكلم زرادشت: خلاصة فلسفة نيتشه

الجاذبية الشعبية

يوفال هراري نوح
الكتاب الأكثر مبيعاً في العالم

يتوق الكثير من البشر إلى رؤية الصورة الكاملة للعالم من حولنا، منذ بداية البشرية وحتى عصرنا الحالي، لكن هذه المعرفة مقيدة بالعديد من العوامل. إننا نرغب في راوي حقيقي كلي العلم ليخبرنا ماذا حدث؟ وكيف كانت البداية؟ وإلى أين نحن ذاهبون؟ ولكن نعلم أن هذا الأمر غير ممكن. وهذا جزء من جاذبية بعض الكتب الكبيرة والجريئة والمتعددة التخصصات مثل كتاب جارد دايموند الذي يحمل اسم ” أسلحة، جراثيم، وفولاذ: مصير المجتمعات البشرية” أو كتاب “تدهور الحضارة الغربية” لأوسفالد شبينغلر، أو “مختصر دراسة للتاريخ” المكون من 12 مجلد. ومؤخراً كتاب “العاقل: تاريخ مختصر للجنس البشري” للمؤرخ الإسرائيلي يوفال نوح هراري الذي صدر باللغة العبرية عام 2011 وباللغة الإنجليزية عام 2014 وباع ملايين النسخ في جميع أنحاء العالم، حتى أصبح واحداً من الكتب الأكثر مبيعاً في التاريخ. كما أشاد به العديد من الشخصيات المؤثرة في العالم مثل الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما ومؤسس مايكروسوفت بيل جيتس.

يغطي كتاب هراري 6 ملايين عام من تاريخ البشرية وينتهي بنظرة قصيرة إلى المستقبل. اختزل المؤلف هذه الفترة الطويلة في حوالي 500 صفحة مليئة بالمفاجآت والقفزات المبهجة والإحصاءات والحكايات الخيالية. كل هذا بثقة مفرطة غير مدعومة بالأدلة العلمية.


قوة سرد القصص

 الماضي هو القصة التي نرويها لأنفسنا وإذا تمكنا من إخبار أنفسنا بقصة أخرى يمكننا تغيير ماضينا. نحن كائنات سردية ومن خلال القصص نعطي معنى لوجودنا. يعود فن رواية القصص إلى أصول الإنسانية ومن تلك البدايات تنتقل القصص من فم إلى فم، وتتحول مراراً وتكراراً لإلهام عدد لا يحصى من المستمعين.

هذا ما فعله هراري، حيث أذهلنا ليس بقوة حججه أو معرفته العلمية ولكن بقوة سرده للقصص. فهو يعلم جيداً كيف يحول الموضوعات المعقدة إلى روايات مقنعة. ويعرف كذلك متى يضحي بالعلم من أجل الإثارة. واعتقد أن هذا الأمر الذي جعل من كتاب العاقل: تاريخ مختصر للجنس البشري أحد أكثر الكتب مبيعاً في العالم. فهو يمتلك موهبة عظيمة في نسج القصص المثيرة حول الحقائق العلمية بلغة بسيطة وجذابة تمنحها جواً زائفاً من العلم، مما يجعل رسالته مقنعة لكثير من القراء.

يقدم يوفال هراري نوح العديد من المعلومات المضللة التي لا تستند إلى علم حقيقي. ويقدم نفسه على أنه مالك الحقيقة المطلقة. إنه يفهم جيداً جاذبية القصة المحكية ويسعى بلا هوادة لتوسيع جمهوره بغض النظر عن تشويه العلم والبحث فقط عن الشهرة والتأثير.

جولة تاريخية مثيرة

يأخذنا هراري في جولة تاريخية مثيرة، يجعل معها القارئ يلهث وراء المزيد. والأكثر إثارة كانت تلك الإرسالات القادمة من الحاضر والمستقبل، فالسكر الآن أخطر من البارود وفي عام 2012 مات 620 ألف شخص بسبب العنف البشري، بينما قتل الانتحار 800 ألف وتوفي 1.5 مليون بسبب مرض السكري. يقول بيتر ثيل – أحد مؤسسي باي بال – إنه يهدف إلى العيش إلى الأبد! وهو ما يشير إليه هراري في كتابه عن أن الذكاء الاصطناعي سيتمكن من خلق نوع جديد من البشر خالدين بالمعنى الحرفي للكلمة، وهو مشروع جاري الآن. فقد يكون هناك بالفعل بعض الخالدين الذين يسيرون بجوارك في الشارع. وليس معنى ذلك أن هؤلاء البشر الخارقين لن يموتوا بل سيموتون كذلك ولكن عبر حوادث خارجية مثل حادث مروري. فالعلم سيغير من الطبيعة البيولوجية لهؤلاء ويخلص أجسادهم من الأمراض.

اقرأ أيضًا: تحليل كتاب تاو تي تشينغ: الكتاب الأكثر غموضاً في التاريخ

هل يمكن سرد التاريخ بأكمله؟

تتضح الجاذبية الشعبية لمثل هذه الكتب في أن مؤلفيها يكثفون المعرفة العلمية الجافة لمئات من التخصصات ويقدمونها كقصص جذابة سريعة وسهلة الفهم. ويعتمد هؤلاء المؤلفون على الكسل البشري وعدم اليقين لضمان الجمهور. إننا نرغب في الحصول على خريطة حتى لا نشعر بالضياع. فلا أحد يريد أن يسمع أن هذه المنطقة شاسعة ولا يمكن رسم خرائط لها. هناك تلك الرغبة الخفية في وجود راوي كلي العلم. وهنا يكمن إعجابنا بأي شخص يحاول أن يسرد التاريخ بأكمله. هناك تفسير آخر أكثر تعقيداً لوجود كتب مثل كتاب العاقل: تاريخ مختصر للجنس البشري وهو أننا مبرمجون على التحدث فقط عن نطاق ومجالات خبرتنا. ولكن يوفال هراري نوح يغطي جميع المناطق، ويمكننا نقد أو الاعتراض على أطروحة صغيرة من أطروحته الكبرى إلا أن من العسير جداً تقديم حجة ضد الأطروحة الكاملة، نظراً لأننا لسنا على دراية كاملة بها.


نقد أعمال هراري

نقد كتاب العاقل: تاريخ مختصر للجنس البشري
ماذا قال المتخصصون عن أعمال هراري

من المثير للاهتمام كذلك أن نلاحظ أن العلماء والمؤرخين والفلاسفة من الذين راجعوا أعمال يوفال هراري نوح انتقدوا عدم تحققه مما يقدمه. على سبيل المثال يعترض الفيلسوف الإنجليزي جالين ستراوسون – الذي قدم مراجعة لكتاب العاقل على صفحات الأوبزرفر – على رواية هراري لمعركة نافارين في عام 1827 والتي ختمها بقوله: “بعد قرون من القهر، أصبحت اليونان أخيراً حرة”. يشير ستراوسون أن الرواية “مشوهة بشكل كبير”، وأن نتيجة المعركة لم تكن الحرية لليونان.

كذلك أشار مستشار أطروحة يوفال هراري نوح في جامعة أكسفورد ستيفن جون إلى أن تلميذه تمكن بشكل أساسي من تخطي عملية التحقيق من الحقائق في أطروحته التي تحمل عنوان: “مذكرات عصر النهضة العسكرية: الحرب والتاريخ والهوية”. كما يشير إلى كتاب العاقل قائلاً: أنه يتخطى انتقادات الخبراء.. فلا أحد على دراية كاملة بكل شيء أو تاريخ العالم بأكمله على مدى فترة طويلة من الزمن”. كذلك يمكننا أن نرى أحد الشخصيات المؤثرة في العالم مثل بيل جيتس الذي قدم مراجعة لكتاب هراري التالي الذي يحمل عنوان “21 درساً للقرن الحادي والعشرين” في مجلة نيويورك تايمز يدعو فيه هراري إلى التحلي بالدقة في مناقشة موضوع البيانات والخصوصية. وبيل جيتس هو نفسه الذي قال عن كتاب العاقل من قبل أن سيوصي به لأي شخص مهتم بتاريخ ومستقبل جنسنا البشري. وهو كذلك الذي حول ولاءه بعد ذلك إلى كتاب آخر كبير “التنوير الآن” الذي ألفه ستيفن بينكر، وقال إنه كتابي المفضل لكل وقت.

اقرأ أيضًا: تحليل رواية عزازيل: الشيطان يلعب بالجميع!

مجرد آراء ذاتية

مراجعة كتاب العاقل: تاريخ مختصر للجنس البشري
المؤرخ الإسرائيلي يوفال هراري نوح

تكمن المشكلة في كتاب يوفال هراري نوح أنه قدمه كمقال علمي جاد عن تاريخ البشرية. وفي النهاية نكتشف أنه مجرد خلاصة وافية للآراء الذاتية للمؤلف. هذا بالإضافة إلى نبرة التعالي والغطرسة والازدراء الرهيب للإنسان والحضارة الإنسانية نفسها. بدأ الجزء الأول واعداً للغاية، لأنه تعامل مع السنين الأولى من حياة الإنسان على الأرض. وكشف بوضوح عن وجود المجموعات البشرية والتغيرات التي حدثت على الكوكب والكثير من القضايا العلمية ذات الأسلوب البسيط والشيق. لكن عندما بدأ المؤلف في اعتبار أن الثورة الزراعية كانت أسوأ شيء حدث للبشرية وشرع في النقد المستمر للبشر ونعتهم بالكائنات المتعطشة للسلطة والهيمنة والعنصرية وغيرها من الأمور دخل في نطاق النقد غير البناء.

ما هو البديل؟

نعلم جميعاً أن ليس كل شيء وردياً ولكن طريقة الازدراء المستمر لكل شيء يجعل القارئ يشعر بعدم الارتياح لأنه على الرغم من أن التقدم الذي وصلت إليه البشرية كانت له تكاليف مؤسفة. فما هو البديل؟ هل كان من الأفضل الاستمرار في كون البشر صيادين رحل يعيشون في الكهوف كما يخبرنا الكاتب؟

إن فكرة الندم على ما حدث وما أوصلنا إلى هذا الحاضر هو أمر عبثي تماماً. فإذا كنا أكثر جشعاً وقسوة على الحيوانات والمجموعات البشرية الأخرى، فهذه أطروحة يمكن أن تكون مناسبة في كتاب فلسفي أو ديني أكثر من مناسبتها لما يعتبر نظرياً مقالاً تاريخياً علمياً. ربما لا يسعني سوى التساؤل عما إذا لم هناك تقدم أو ثورة زراعية أو أموال فلن يتمكن المؤلف من نشر كتابه هذا، ولن يحصل بالتأكيد على ثروته الهائلة هذه.

يفتقر كتاب العاقل: تاريخ مختصر للجنس البشري إلى الدعم الموضوعي والتاريخي والعلمي. ويبدو أنه كُتب لإعطاء الشخص العادي نظرة مبسطة للغاية لتاريخ البشرية والطبيعة، ولكنه لا ينطوي على تفكير وقراءة جادة. فما هو مكتوب في كتبه هو سرد مبسط يمكن للناس فهمه. ويمكن أن يرتبطوا به، بل ويتخذونه كإطار مرجعي شخصي لرؤية الإنسانية. إنه ببساطة ينتقي مفاهيم مختلفة من الأنثروبولوجيا وعلم النفس التطوري وبعض آرائه السياسية.


السعادة والحضارة

أولاً وقبل كل شيء، لديه تصور مضلل للغاية وشاعري لما كان عليه البشر خلال مرحلة صيد الحيوانات وجمع الثمار. إنه يعتقد أن الصيادين الجامعين كانوا أكثر سعادة مما نحن عليه حتى لو تعرضوا باستمرار للوحوش التي تعوي في الظلام، والظواهر الطبيعية، والمرض، والجوع، وما إلى ذلك. كان الصيادون تحت رحمة كل هذه الأمور ومع ذلك لم يكونوا سعداء. فلو كانوا بالفعل سعداء فلماذا طوروا الزراعة التي وفرت الأساس للحضارة الحديثة. هذا مأزق كبير يقع فيه هراري، ويمكن أن يكون بإرادته لأنه يناشد العقل الرومانسي البدائي كوسيلة للهروب وأداة للاستياء من الحاضر. ومن المحتمل أن يكون استخدام مثل هذه الروايات هو ما أدى إلى شهرة كتبه.

اقرأ أيضًا: كتاب الجمهورية لأفلاطون: كيف يكون شكل الدولة المثالية؟

التعاون البشري

ثانياً، يستشهد بالقيل والقال كسبب محتمل لتطور ذكائنا، في حين يتجاهل بصراحة مئات الأشياء التي من المرجح أن تكون ساعدت البشر في تطوير الذكاء مثل الميل للصيد الاستراتيجي والتفكير الجانبي. علاوة على ذلك، يجادل بأن التعاون هو مفتاح تطورنا، ولكنه لا يعرف من أين يأتي هذا التعاون. فهل من المحتمل نجاة البشر من العصر الجليدي مثلاً بالتعاون فقط دون تعزيز التفكير والاستراتيجية الفردية والمستقلة. إنه يضخم التعاون بشكل غير متناسب من خلال وضعه على أنه خاصية فريدة نمتلكها نحن البشر بينما يتعاون أكثر من 99٪ من مملكة الحيوان بمرونة على مستوى ما. كما أنه يتجاهل الثغرات في حججه ويستخلص استنتاجاته على أي حال.

هذا التضخيم لفكرة التعاون جاءت لتتناسب مع ما يرغب في قوله، وهو انتقاده للأديان. حيث يقول إن الطريقة الوحيدة التي يمكننا من خلالها التعاون في مجموعات كبيرة هي من خلال الإيمان بالأساطير. وهذا يكشف أنه لا يعرف فقط دور التعاون في تطور البشر ولكنه أيضاً لا يفهم السلوك التعاوني نفسه. كما يفترض أن البشر يتعاونون بمرونة، وهذا ليس صحيحاً على الإطلاق لأنه يعمل فقط مع معايير محددة. والإيمان بالأساطير ليس من بينها.


القفزة المتعجلة

يكتب هراري عن قفزة جنسنا البشري إلى قمة السلسلة الغذائية قائلاً:

“معظم الحيوانات المفترسة المتربعة على رأس الهرم الغذائي كائنات “عريقة” ملأتها ملايين السنين من السيادة بالثقة بالنفس. أما العقلاء، ونقيضاً لذلك، فكانوا أشبه بطاغية من جمهوريات الموز. فلأننا كنا حتى فترة قريبة نسبياً أحد مستضعفي السافانا، فإننا مملوؤن بالمخاوف والقلق على مكانتنا، مما جعلنا قساة وخطيرين على نحو مضاعف. جاءت كثير من الأحداث المأساوية في التاريخ، من الحروب المهلكة إلى الكوارث البيئية، نتيجة لهذه القفزة المتعجلة”.

يشير يوفال هراري نوح في هذه الفقرة إلى أن القسوة التي تمتع بها البشر والتي أدت إلى العديد من المآسي والكوارث في التاريخ جاءت نتيجة لقفزة متعجلة. ولا يوضح من أين أتى بمثل هذه المعلومة، فهل كان استنتاجه مبني على ملاحظات ميدانية أو تجارب علمية جعلته يعرف أن الحيوانات المفترسة تمتلك ثقة بالنفس ولا تشعر بمثل هذه المخاوف التي تعتري الإنسان العاقل؟ وهل هذه المخاوف بالفعل هي ما جعلت البشر قساة؟ وإذا كان الأمر كذلك فهل يعني هذا أن الإنسان العاقل إذا أخذ وقته – دون قفزات متعجلة – ليصل إلى قمة الهرم الغذائي فلن تكون هناك حروب أو كوارث أو تغييرات مناخية من صنع الإنسان؟ هناك العديد من الأسئلة التي لم يجب عليها هراري وسرعان ما يذهب بنا إلى استنتاجه الخاص دونما إشارة إلى أدلة أو مصادر لمعلوماته.

اقرأ أيضًا: كتاب موسى والتوحيد: هل كان موسى كاهناً في بلاط أخناتون؟

العصا السحرية للهندسة الوراثية

كتب هراري في الفصل الأخير من كتاب العاقل: تاريخ مختصر للجنس البشري:

“لماذا لا نعود إلى مخطط الرب الأصلي ونصمم إنساناً عاقلاً أفضل؟ هناك أساس جيني لقدرات الإنسان العاقل واحتياجاته ورغباته، وليس جينوم الإنسان العاقل بأكثر تعقيداً من ذلك الذي لفئران الحقل والفئران الأخرى (يحتوي جينوم الفأر على حوالي 2.5 مليار قاعدة نيوكليوتيدات، ويحتوي جينوم العاقل على 2.9 مليار قاعدة، وهذا يعني أن الأخير أكبر ب 14 بالمئة فقط). فعلى المدى المتوسط – ربما بضعة عقود – قد تمكننا الهندسة الوراثية والأشكال الأخرى من الهندسة البيولوجية من إجراء تغييرات بعيدة المدى ليس فقط في وظائف أعضائنا، وفي نظامنا المناعي، وعمرنا المتوقع، بل وفي قدراتنا الفكرية والعاطفية أيضاً. فإذا كانت الهندسة الوراثية قادرة على خلق فئران عبقرية، لم لا تخلق بشراً عباقرة؟ وإذا كان بإمكانها خلق فئران أحادية الروابط، لم لا تخلق بشراً مصممين دماغياً ليظلوا مخلصين لأزواجهم؟”

ربما يكون من الرائع حقاً أن تمتلك الهندسة الوراثية عصا سحرية يمكن من خلالها تحول الأزواج الخائنين إلى مخلصين، وتحويل جميع البشر إلى أينشتاين. لكن هذه ليست القضية. فالأمر الهام الذي يغفله يوفال هراري نوح أن الجينات ليست المسؤولة عن كل شيء داخل الإنسان، لنفترض أننا نريد أن نتخلص من العنف البشري. اكتشف العلماء أن النشاط المنخفض لجين مثبطات الأوكسيداز أحادي الأمين مرتبط بالسلوك العدواني والجريمة العنيفة، ولكن ليس كل الأشخاص الذين يعانون من انخفاض هذا الجين عنيفين، والعكس صحيح. وفي أغلب الأحيان يتميز بعض الأشخاص الذين نشأوا في بيئة عنيفة عدوانيين بغض النظر عن انخفاض هذا الجين أو ارتفاعه. وعندما ينشأ طفل في بيئة داعمة فحتى أولئك الذين لديهم نشاط منخفض لذلك الجين يسلكون سلوكاً طيباً.

إذن لا يتعلق الأمر بالجينات بقدر ما يتعلق بالأحداث والبيئات والمواقف التي تشكل شخصياتنا، وعندما يتحدث هراري في كتاب العاقل: تاريخ مختصر للجنس البشري عن الهندسة الوراثية يتجاهل العديد من الآليات الأخرى.

الجينات الوراثية والنشأة

إننا عندما نقرأ ما يقوله يوفال هراري نوح ربما يعتقد الكثير أن سلوك الأطفال حديثي الولادة على سبيل المثال تهيمن عليهم جيناتهم الوراثية، ولا تأثير البتة بالنشأة والتربية. تشير بعض الأبحاث إلى أن نكهات الأطعمة التي تتناولها الأم خلال الشهور الثلاثة الأخيرة من الحمل يطور أطفالهن تفضيلاً خاصةً لهذه الأطعمة. ومن هنا جاءت العديد من الثقافات التي لديها تفضيلات لبعض أنواع الطعام. إن حقيقة ظهور قدرات واحتياجات ورغبات الإنسان العاقل أكثر تعقيدا مما يصوره هراري في كتابه. ففكرة وجود جين لأمراض القلب أو السمنة أو التدين أو المثلية الجنسية أو الخجل أو الغباء وغيرها لا وجود لها في علم الوراثة.

هذه بعض الأطروحات التي قدمها هراري في كتاب العاقل: تاريخ مختصر للجنس البشري. وكما أشرنا آنفاً إلى إنه لا يمكن نقد الأطروحة كاملة لأننا لسنا على دراية كاملة بها. فلا أحد يمتلك المعرفة العلمية في كل شيء. ومن هذا المنطلق يمكن للعديد من العلماء في التخصصات المختلفة تقديم نقداً لما جاء على صفحات هذا الكتاب.


في الختام لا يسعنا سوى القول بأن يوفال هراري نوح حاول جاهداً أن يكون لديه فكرة عن ماهية الجنس البشري والكشف عن تاريخه. لكنه يفعل ذلك دون أن يكون لديه حتى فهم لما هو الإنسان في الواقع. ويتحدث عن رؤى عظيمة حول أن يصبح البشر آلهة، لكنه لا يعرف من هم البشر قبل أن يصبحوا آلهة بالفعل.

اترك تعليقاً