هناك العديد من الأسباب التي تجعل الرغبة في الهجرة أمراً ملحاً، ففي أغلب الأحيان يهاجر الناس لأسباب سياسية أو عملية أو اجتماعية، لكننا نغفل أن هناك أيضاً أسباباً نفسية معقدة وراء الهجرة الطوعية. في هذا المقال نحاول سبر أغوار النفس البشرية التي تحاول أن تهاجر موطنها.
رقصة الحياة البشرية
ترتبط طبيعتنا البشرية بالهجرة، فالحياة هي سفر من هناك لهناك، والسفر يشكل استعارة للوجود نفسه. الهجرة هي فرصة تجديد الذات، فلا تحول دون رحلة ولا رحلة دون تحول. نحن كائنات في الزمن، والزمن هو الحركة، هو المغادرة والوصول، هو الصراع والتغيير في الفترة الفاصلة بين الأصل والوجهة.
إن الخروج إلى العالم هو التعرض لنسائمه وأعاصيره، وهو وضع أنفسنا تحت تصرف الصدفة، فكل شيء يجب القيام به، وكل شيء ممكن. لكن قدرتنا على التغيير أقل مما نرغب، ولسنا مهيأين لتحولات عظيمة، رغم أنه يسعدنا أن نحلم بها وكأنها جنات ضائعة أو ستُفتح. الجوع للتجديد، والشبع للاستمرارية: بين هذين القطبين تأتي رقصة الحياة البشرية وتذهب. إن أسطورة الإنسان المعاصر تقضي بأنه يستطيع الذهاب إلى أي مكان ينوي الذهاب إليه؛ إلا أنه خائف في أعماقه.
بحثت العديد من الدراسات حول الأسباب التي تدفع الإنسان إلى الهجرة. لكن جميعها توصلت إلى أن أسباب الهجرة غير معروفة على وجه التحديد. فالأسباب السياسية أو العملية أو الاجتماعية يمكنها أن تكون دافعاً للشخص إلى الرحيل عن وطنه، ولكن بإمكانه العودة إليه مرة أخرى إذا زالت هذه الأسباب أليس كذلك؟ فلماذا يرغب البعض في الهجرة طواعية بلا عودة إذا ما اختفت الظروف التي جعلته يهاجر؟ هنا يأتي دور التحليل النفسي الذي يوضح لنا كيف يكتسب الإنسان هذا المنظور ويستسلم لأعمق الدوافع. يخبرنا علم النفس أن الدوافع النفسية والاجتماعية للهجرة لها علاقة بأربع احتياجات أساسية مترابطة هي: الهوية واحترام الذات والانتماء والمعنى.
البحث عن الهوية
إن الشعور بالهوية من الأمور الضرورية للإنسان، وأولئك الذين يهاجرون طواعية يفعلون ذلك لأنهم يفتقدون هذا الشعور بالهوية، ومن ثم يعتقدون أن الرغبة في الهجرة بل والهجرة ذاتها وما توفره لهم من مساحة جديدة هي الشرط الأساسي لإيجاد هويتهم. وحينها يشرع المرء في طرح الأسئلة على نفسه: “من أنا؟” و “كيف سأصبح إذا عشت في سياق آخر؟”.
إن الحاجة إلى معرفة العالم هي انعكاس للرغبة في معرفة أنفسنا. حيث يمكننا أن نشعر بالحرية لاستكشاف هويتنا فقط عندما نكون في مساحة خالية من التكييف الاجتماعي. فعدم الكشف عن هويته يسمح للمهاجر بتجاوز الحدود التي تفرضها ثقافة الأصل، والتي غالباً ما تكون رتيبة، وقمعية وغير محفزة. إن عيش تجارب جديدة في أماكن أخرى يساعدنا على معرفة أنفسنا بشكل أفضل والشعور بمزيد من المصداقية.
الهجرة تغير المكان الذي نعيش فيه، ولكن ليس فقط التضاريس المادية، ولكن قبل كل شيء التضاريس الوجودية. تمنحنا الرغبة في الهجرة فرصة تجربة أدوار جديدة، وتحديات جديدة، والتزامات جديدة. يجعلنا السفر نخفف عن أنفسنا ثقل تلك الهوية المغرقة في الروتين اليومي، ويكشف لنا مدى التعقيد غير المستكشف المختبئ تحت مخطط هويتنا. الهجرة هي إجبار نفسك على التغيير، ولهذا السبب نحن دائماً خائفون إلى حد ما، ونسعى دائماً إلى غرس تفاصيل مألوفة في المجهول، وهذا ما يشجع فينا نوعاً من الحنين إلى العودة إلى الوطن. لكن ليست هناك حاجة للتعجل في العودة، فكل نعم الرحلة تكمن في التأخير.
احترام الذات
إن تحديد مكان العيش وحل مشكلات الحياة اليومية مثل البيروقراطية وتعلم لغة والتكيف مع ثقافة جديدة ليست سوى بعض الصعوبات التي يواجهها المهاجرون دائماً. ومن هنا فإن مواجهة هذه التحديات تساهم في تعزيز الثقة بالنفس. وبهذا المعنى، تسمح لنا الهجرة بأن نثبت لأنفسنا أننا قادرون على (البقاء) في ظروف غير متوقعة، بينما نواجه قيودنا. أو على حد تعبير سينيكا:
لا يوجد شخص أكثر تعاسة من الذي لا يواجه الشدائد أبداً، لأنها هي التي تسمح له بإثبات نفسه.
أحد الدروس المثمرة للهجرة هي قبول انعدام الأمن، وإعادة الاكتشاف القسري لنقاط الضعف التي يتركنا فيها غياب المألوف. ولعل الوظيفة الأساسية لطقوسنا وعاداتنا وكل العلامات الأخرى التي نشكل بها هويتنا ليست سوى طمأنتنا وتبسيط حياتنا ولفها بالألفة، وهذا التكرار اليومي المألوف هو ما يجعلنا نشعر بالارتياح. لكن الهجرة هي رحلة الدخول إلى المجهول. نحن مجبرون في الهجرة على تغيير اللغة والعملة والطعام، وبالتالي نكتشف مدى صغر ومحدودية ركننا من العالم.
الرغبة في الهجرة والشعور بالانتماء
تبدأ الرغبة في الهجرة قبل وقت طويل من الهجرة ذاتها. وفي أغلب الأحيان يشعر المهاجرون بأنهم لم ينتموا مطلقاً إلى بلدهم الأصلي. إن فكرة الشعور وكأنك في وطنك لها علاقة بالعلاقة القائمة مع البيئة والأشخاص الآخرين أكثر من ارتباطها بممتلكات أو منطقة أو دولة معينة. نشعر بأننا في بيتنا في تلك اللحظات التي يتم فيها فهمنا وقبولنا دون قيد أو شرط. لخص كارل يونج هذه الفكرة بالقول:
الوحدة لا تعني عدم وجود أشخاص حولك، ولكن في عدم القدرة على إيصال الأشياء التي تبدو مهمة للفرد، أو الصمت بشأن وجهات نظر معينة يجدها الآخرون غير مقبولة.
إن البحث عن وظيفة، واستئجار منزل، وشراء منزل، وإقامة علاقات عميقة من الأنشطة هي التي تجذر الشخص في مكان مادي، ولكن من الممكن أيضاً القيام بهذه العملية في عدة أماكن، فليس من الضروري أن يكون مكان واحد. ومع ذلك، فإن الابتعاد بشكل منهجي عن الموطن الأصلي يمكن أن يؤدي إلى هوية هشة وغير آمنة.
البحث عن المعنى
على المستوى النفسي، يمكن فهم الرغبة في الهجرة على أنها هروب، ولكنها أيضاً مظهر من مظاهر البحث الروحي أو المتعالي. يتعلق الأمر بالشعور بأنه يمكنك الانتماء إلى شيء أكبر منك. الأسئلة الكبيرة هنا هي: “ما الذي يجعلنا بشراً؟” و “ما الذي يوحدنا ويفرقنا؟”. إن الاختلافات الثقافية التي تبدو للوهلة الأولى غير مفهومة يمكن تجاوزها عندما يتم تقاسم نفس قيم التسامح والاحترام.
الرغبة في الهجرة تساهم في استكشاف النفس البشرية، لكن لا ينبغي أن تكون رحلاتنا للهروب، بل للاستكشاف. استكشاف أنفسنا قبل كل شيء: لا أن نكون الآخرين، بل أن نكون أنفسنا أكثر. المهاجر هو شخص عاشق للحياة دائماً، متشوق لمعرفتها. تجلب كل رحلة سؤالاً جديداً يمكن من خلاله استجواب قناعاته، وتدعوه إلى الحيرة، وعدم اليقين، وتكسبه الحكمة بعد معرفة مدى جهله.
تكشف الهجرة إمكانياتنا وتواجهنا بتناقضاتنا، وتذكرنا بأن الحياة هشة وقصيرة، مليئة بالنور والوعود، وأيضاً بالخسارة والظلال. لذا يجب أن نواجهها بإخلاص وثقة؛ علينا أن نخوض التجربة بشجاعة من هو على استعداد لخسارة كل شيء ليجد نفسه. وربما تكون الهدية النهائية للرحلة هي فرصة أن تكون شخصاً آخر.
مراجع
1. Author: H. G. Virupaksha, Ashok Kumar, and Bergai Parthsarathy Nirmala, (07/01/2014), Migration and mental health: An interface, www.ncbi.nlm.nih.gov, Retrieved: 04/28/2024. |
2. Author: Sandrine Mesplé-Somps and Björn Nilsson, (08/01/2023), Role models, aspirations and desire to migrate, www.sciencedirect.com, Retrieved: 04/28/2024. |
3. Author: James T. Fawcett, (04/01/1985), Migration Psychology: New Behavioral Models, www.jstor.org, Retrieved: 04/28/2024. |