العزلة الطواعية وتجربة العيش في الظلام

You are currently viewing العزلة الطواعية وتجربة العيش في الظلام
ماذا يحدث للجسم خلال تجارب العزلة

“العزلة هي الصديق الوحيد الذي لا يخون أبداً”

نعيش في عصر التوتر والقلق والصراعات، وتحوطنا ضغوط الحياة من جميع الاتجاهات. وفي خضم كل ذلك ننسى أنفسنا، ونشعر بحاجة ملحة للهروب من هذا الصخب والضجيج، فنختار العزلة لنتعرف فيها على أنفسنا من جديد. ونكون قادرين على التحدث مع ذواتنا دون خداع أو أقنعة زائفة. إن العزلة الطواعية هي الصديق الذي يمكنك أن تكشف عن ذاتك عارية أمامه. وهي تجربة ثرية تمنحك منظوراً أكبر لحياتك وأهدافك، وتساعدك على إعادة اكتشاف نفسك من جديد.

العزلة والوحدة

قبل المضي قدماً والاسترسال في الحديث عن العزلة الطواعية وفوائدها الجمة، علينا أولاً أن نتعرف على الفرق بين العزلة والوحدة، نظراً لأن الكثير من الناس يخلطون بينهما. الوحدة هي شعور بالفراغ الداخلي، وفي العادة يكون شعوراً مؤلماً ممزوج بالحزن والمرارة والضيق من عدم وجود علاقات اجتماعية كافية أو عدم وجود اتصال كافِ مع الناس. ويمكن أن تشعر بالوحدة حتى وإن كان حولك الكثير من الناس. ويبدو أنك تفتقد شيئاً ما.

أما العزلة في الحاجة إلى أن تكون وحدك للتركيز على نفسك. وفي العزلة يمكنك القيام بالعديد من الأشياء مثل التأمل أو الصلاة أو الرسم أو الغناء أو ممارسة هواياتك المفضلة أو القراءة وغيرها من الأمور التي تحب فعلها عندما تنفرد بنفسك. العزلة ليست شعوراً مؤلماً مثل الوحدة بل على العكس فهي شعور بالراحة الجسدية والعقلية بعيداً على صخب الحياة وضجيجها. إنها نفس شعورك عندما تنام دون أن تحلم، ففي هذه الحالة أنت لا شيء وفي نفس الوقت أنت كل شيء.


تجارب العزلة الطواعية

لطالما كانت فكرة العزلة الطواعية موجودة منذ قديم الأزل. فلقد مارسها الفلاسفة والأنبياء والقديسين، وخضع لها العديد من العلماء الشجعان في العصر الحديث. وربما كان عالم الكهوف الفرنسي ميشيل سيفر رائداً في مثل هذه التجارب. وقد استطاع من خلال العزلة فحص جسم الإنسان والإيقاعات الداخلية التي يمر بها الجسد عندما يكون معزولاً عن العالم الخارجي لفترة طويلة من الزمن. أثارت هذه الفرضية فضولاً كبيراً في داخلي، وبسببها كان لدي دافع قوي للتحقيق في هذه التجارب منذ بضع سنوات. لذا أود أن أشارك القارىء بعضاً من أكثر حالات العزلة الطواعية المثيرة للاهتمام.

اقرأ أيضًا: فوائد الضحك: الدواء الأكثر قدرة على الشفاء

تجربة العيش في الظلام

العزلة النفسية
العيش في كهوف الظلام

دعونا نعود بالزمن إلى الوراء قليلاً، وبالتحديد إلى عام 1962. في ذلك العام كان ميشيل سيفر ينظم رحلة استكشافية بيولوجية في جبال الألب. وخطرت على ذهنه فكرة كانت تساوره منذ فترة طويلة: “العيش مثل حيوان في الظلام دون معرفة الوقت”. وبالفعل استعد للقيام بتلك التجربة، ذهب إلى كهف متجمد في سكاراسون، وخاض تجربة العيش في الظلام دون أن يعرف شيء عن الوقت، وانعزل تماماً عن العالم الخارجي. وكان يقوم بالاتصال بفريقه حوالي ثلاث مرات يومياً، وكان الاتفاق أنه سيظل هناك لمدة شهرين، ولا يريد أحد أن يكشف له عن الوقت إلا بعد انقضاء الشهرين.

بحلول الوقت الذي خرج فيه سيفر كان قد انقضى بالفعل 61 يوماً. لكنه لم يصدق ذلك أبداً. واعتقد أنه كان هناك لمدة 34 يوماً فقط، أي ما يقرب من نصف الوقت الإجمالي. ولقد اكتشف حينها أمرين أولهما نسبية مفهوم الزمن، وثانيهما أن جسده قد حافظ على إيقاعاته الخاصة من النوم واليقظة، وهذه هي الطريقة التي أسس بها ما سيعرف لاحقاً باسم علم الأحياء الزمني.

اقرأ أيضًا: لماذا نحب الطعام الحار؟ وما هي فوائده وأضراره؟

علم الأحياء الزمني

علم الأحياء الزمني اليوم هو العلم الذي يدرس كيفية تأرجح المتغيرات المختلفة للكائن الحي بمرور الوقت. على سبيل المثال، داخل الكائن الحي سلسلة من الإيقاعات تتكرر خلال 24 ساعة. وهي ما يطلق عليه اسم إيقاع الساعة البيولوجية، وهو نفس الإيقاع الذي ينظم العديد من العمليات اليومية من خلال “منظم ضربات القلب”، وبفضل الساعة البيولوجية الداخلية نستطيع الاعتياد على النوم في وقت معين من اليوم، والاستيقاظ في وقت آخر. بينما يسمخ لنا الضبط الصحيح لهذه الساعة بالحفاظ على حالة صحية جيدة.

تم التوصل إلى هذه الاستنتاجات من قبل أشخاص مثل سيفر من خلال تجاربهم. لنعود إلى قصة ميشيل سيفر من جديد. أجرى العالم الفرنسي أكثر من تجربة عزل أخرى بين عامي 1962 و 1972 كانت أحدهم داخل مخبأ اصطناعي تحت الأرض، وظل فيه قرابة شهر. ولكن في عام 1972 قرر الذهاب إلى كهف حقيقي، وهذه المرة وجده في تكساس. استقر في ذلك الكهف حوالي 205 يوماً. وقد اكتشف من خلال هذه التجربة أشياء مثل أن حساب 120 ثانية استغرق في التجربة حوالي 5 دقائق.

اقرأ أيضًا: خطورة مواقع التواصل الاجتماعي على مستقبل الأبناء

كهف الريح

عالم كهوف آخر هو الإيطالي ماوريتسيو مونتالبيني، حاول عزل نفسه في كهف الريح في جينجاين عام 1986. وأمضى فيه 210 يوماً محصوراً على عمق 182 متراً. وهو ما حطم الرقم القياسي للفرنسي سيفر. وعلى الرغم من إنجازه قال مونتالبيني أن اهتمامه لم يكن تحطيم أي رقم قياسي، بل تحدي قوة إرادته.

هناك كان يتواصل من خلال شفرة مورس. وأطعم نفسه بالحبوب، والقهوة، والشاي، والأطعمة المعلبة. وكان لديه مصباح بالكاد مضاء. لكن لم يرض عما حققه، لذا كرر التجربة في ظل ظروف مماثلة لمدة عام كامل في عام 1993، محطماً هذه المرة أكبر رقم قياسي له. أما أروع شيء أنه خرج إلى العالم الخارجي بعد 366 يوماً.

لكن ماذا لو أخبرتك أن هذا ليس أكبر رقم قياسي تم تسجيله حتى الآن؟ نعم، لم يكن ذلك أكبر رقم قياسي. فلقد سجلت موسوعة غينيس لأطول فترة في العزلة باسم ميلوتين فيليكوفيتش الذي قضى 463 يوماً في كهف سمر خلال عامي 1969 و 1970. وفي عام 2006 أراد مونتالبيني تحطيم هذا الرقم، وكان ينوي القيام بعزل نفسه في الكهف البارد في إيطاليا لمدة ثلاث سنوات قادمة، لكن بعد 216 يوماً، قرر الإيطالي إيقاف التجربة وغادر التجربة بصحة جيدة، لكنه فقد 45 رطلاً على طول الطريق.

أثرت كل هذه التجارب على العديد من الأشخاص الفضوليين الآخرين، بما في ذلك ستيفانيا فوليني، وهي إحدى النساء الأكثر مساهمة في مجال علم الأحياء الزمني. أمضت ستيفانيا 130 يوماً في كهف مغلق في نيو مكسيكو. وكما في الحالات السابقة، اعتقدت ستيفانيا أيضاً أنها قضت وقتاً أقل من الوقت الحقيقي. بينما ذكرت أن الدورة الشهرية قد توقفت في عدة مناسبات.

اقرأ أيضًا: تاريخ اختراع التقاويم (القمري – الشمسي – الغريغوري)

استنتاجات

بعد القيام بهذه التجارب الرائعة توصل العلماء إلى عدد من الاستنتاجات عن العزلة. وربما أحد أكثر الأمور إثارة للاهتمام هي أن إيقاع الساعة البيولوجية لدينا يتغير عندما لا نكون على اتصال مع الخارج ومع أشعة الشمس. كذلك تضيع فكرة الوقت، وتكون فترات اليقظة والنوم أكثر من المعتاد، حيث يشعر الشخص المنعزل بأن اليوم يتراوح ما بين 26 ساعة إلى 28 ساعة، ويمكن أن يصل في بعض الأحيان إلى 48 ساعة. اكتشف كذلك أن مراحل حركة العين السريعة تكون أطول بكثير من المعتاد، كما تم التحقق من أن أدنى درجة حرارة للجسم تظهر في بداية النوم وليس في نهايته كما هو معتاد، وفي بعض الأحيان وصف البعض تعرضهم لبعض الهلوسات المختلفة.

تجرأ ميشيل سيفر على تنفيذ فكرة كانت تبدو مجنونة في ذلك الوقت. ولكن من خلال تلك التجربة عرفت البشرية الكثير في مجال علم الأحياء الزمني. ومازال هناك مجال للعديد من الاكتشافات الجديدة، فلا يبدو أنه يوجد حد. لكن ما يتضح في النهاية هو أننا بحاجة إلى الشعور بأشعة الشمس، والشعور بوجود حركة، والتحقق من مرور الوقت، لأننا إذا لم نشعر بأي من ذلك، فإن الوحدة والظلام تبتلعنا… أو كما قال سيفر نفسه:

“عندما يكون المرء محاطاً بالليل لفترة طويلة، فإن الذاكرة لا تلتقط اللحظات التي تمر، فبعد يوم أو يومين لا تتذكر ما فعلته في اليوم السابق، وإلى جانب ذلك فإن كل شيء أسود تماماً.. إنه مثل يوم طويل لا ينتهي أبداً”.

اترك تعليقاً