غموض

أكل لحوم البشر بين الواقع والأساطير

سجل العديد من الرحالة والمبشرين الأوروبيين على مدار قرون رحلاتهم إلى أمريكا الجنوبية وأوقيانوسيا وأفريقيا، وذكروا فيها أنهم شاهدوا بأعينهم آكلي لحوم البشر في بعض الأماكن التي زاروها، فهل هناك ثقافات وشعوب بدائية مارست أكل لحوم البشر فعلاً؟ أم أن أكلة لحوم البشر كانوا مجرد أسطورة خيالية روج لها هؤلاء بدوافع عنصرية؟ وما مدى شيوع أكل لحوم البشر في الماضي والحاضر؟ وما الأسباب الكامنة وراء هذا السلوك؟ في السطور التالية نحاول الإجابة على هذه التساؤلات.

كيف يحدث الأمر؟

يبدأ أكل لحوم البشر بجريمة قتل. حيث يقتل الرجال الأسير حتى يتدفق الدم من دماغه، ثم تأخذ النساء الرجل الميت ويسحبونه فوق النار، ويكشطون جلده. وبعد ذلك يقوم الرجال بفصل الذراعين والساقين عن جسد الضحية، ويشرعون بفتح الظهر، وإزالة الأحشاء وغلي الأعضاء. ثم يصنعون من المرق عصيدة يرتشفونها هم والأطفال. إنهم يأكلون الأمعاء، ولحم الرأس، أما المخ والألسنة فهي مخصصة للأطفال.

هذا ما ذكره فرانك ليسترينجانت في كتابه ” أكلة لحوم البشر: اكتشاف وتمثيل أكلة لحوم البشر من كولومبوس إلى جول فيرن” الذي نُشر عام 1994، وتناول فيه أكل لحوم البشر بين الواقع والأساطير اعتماداً على العديد من المصادر التي لم تكن متاحة في السابق، ومع ذلك لا توجد تقارير موثقة لشهود عيان عن أكل لحوم البشر. بينما يعتقد بعض العلماء أن آكلي لحوم البشر لم تكن أكثر من فكرة قام خيالنا بطعيمها بتفاصيل أكثر مع مرور الوقت.

ما هو أكل لحوم البشر؟

تعريف أكل لحوم البشر
صورة رمزية لأكل لحوم البشر

“إن الجسد المثقل باللحم يصاب بالمرض، ونمط الحياة المعتدل يجعله أكثر صحة وقوة ويقطع أصل الشر. أما أبخرة اللحم فهي تحجب نور الروح. فلا يمكن للمرء أن يكون فاضلاً إذا كان يستمتع بأطباق اللحوم والولائم. لذا يجب أن تكون مائدتنا بمثابة نصب تذكاري لمائدة المسيحيين الحقيقيين”. باسيليوس الكبير.

ربما يكون هذا البيان الذي أدلى به باسيليوس الكبير (329 – 379 ميلادية) تقدمياً بصورة كبيرة على الرغم من أنه صدر في أوائل العصور الوسطى، ومع ذلك لم يشارك جميع معاصري باسيليوس الكبير وجهات نظره حول النظام النباتي. ولا تزال الحيوانات العاشبة قلة قليلة مقارنةً بالحيوانات آكلة اللحوم، هذا على الرغم من مرض جنون البقر والحمى القلاعية وغيرها. لكن هناك نوع خاص من محبي اللحوم، هذا النوع كان مخيفاً ومنبوذاً لآلاف السنين. إنهم أكلة لحوم البشر. ولكن ما هو أكل لحوم البشر بالضبط؟ 

يُعرف أكل لحوم البشر بأنه استهلاك البشر للحم البشري أو أكل لحوم نفس النوع بالنسبة للحيوانات. ويحدث هذا بشكل رئيسي في حالات الطوارئ القصوى مثل المجاعات أو في شكل طقوس أو نتيجة لمرض نفسي أو عقلي. أما مصطلح Cannibalism فيعود إلى مئات السنين. حيث أطلق البحارة الأوائل الذين خاضوا رحلاتهم الاستكشافية مع كريستوفر كولومبوس في القرن الخامس عشر هذا الاسم على سكان جزر الهند الغربية الأصليين[1]. إذ كان لديهم انطباع – سواء كان مبرراً أم لا – أن هؤلاء “المتوحشين” يتغذون بشكل منتظم أو شبه حصري على اللحم البشري. ثم انتشرت افتراضات وتكهنات أكثر جموحاً حول ظاهرة أكل لحوم البشر في أوروبا في العصور الوسطى. وبعد وقت ليس بالطويل لم يكن هناك شك في أن المنطقة الاستوائية بأكملها من الأرض كانت مأهولة حصرياً بأكلة لحوم البشر. أسطورة سرعان ما ثبت كذبها على مدار عصر الاكتشافات.

جرائم مشهورة في التاريخ

هناك حالات مشهورة جداً في التاريخ الحديث مثل الحالة الألمانية أرمين مايفيس الذي كان يحلم منذ أن كان طفلاً بأكل شخص ما. وظل هذا الحلم يراوده حتى استطاع تحقيقه في النهاية بعد أن وافق ضحيته على أكله. ويمكنك الاطلاع على تفاصيل هذه الحادثة كاملة عبر هذا المقال: قضية آرمين مايفيس: عندما تكون الضحية أغرب من القاتل. حدث هذا الأمر أيضاً في عام 2009 مع شقيقين روسيين قتلا شقيقهما الأكبر، ولكيلا يتم العثور على جثته، أكلوه.

يمكننا تصنيف أسباب ممارسة أكل لحوم البشر إلى ثلاثة أسباب:

  • البقاء على قيد الحياة. وقد حدث ذلك في أكثر من مناسبة، على سبيل المثال حادث طائرة جبال الأنديز – سنتحدث عنها لاحقاً.
  • المرض النفسي والعقلي. وهو ما يحدث في العديد من جرائم القتل العادية أو جرائم القتل المتسلسل التي يتغذى فيها المجرم على لحوم ضحاياه.
  • الثقافة والطقوس. وهناك العديد من الأبحاث التي كشفت عن ممارسة طقوس أكل لحوم البشر بين بعض القبائل.

قبائل تأكل لحوم البشر

القبائل التي تأكل البشر
رجل من الرهبان الأغوريون

تقول بعض المصادر أنه لا تزال هناك العديد من المجتمعات في أفريقيا والهند وأمريكا الجنوبية تمارس أكل لحوم البشر حتى الآن. لكن قبل أن نمضي قدماً في التعرف على هذه القبائل عليك أن تعي جيداً أنه لا دليل ولا شهود عيان على ما سيتم ذكره في هذا القسم، وكل هذه القصص مجرد حكايات لوكتها ألسنة البعض. وربما تتساءل وما أهمية ذكرها؟ ستعرف ذلك لاحقاً. دعنا نبدأ

الرجال الفهود

توجد في سيراليون قبيلة تدعى الرجال الفهود. تتميز هذه القبلية بارتدائها جلود الفهود التي يصطادونها. إنهم رجال عنيفون جداً خاصة تجاه الأغراب، حيث يقتلونهم ويمزقون لحومهم. ثم يحملوها إلى الغابة لتبدأ طقوس أكل هذه اللحوم. وهم يعتقدون أن هذا الأمر يمنحهم المزيد من القوة. وقد أرجع بعض الباحثين أكل لحوم البشر إلى الخرافات والأساطير التي سيطرت على هذه القبائل، في حين أرجع البعض الآخر هذا الفعل إلى كونه رد فعل على الاستعمار الأجنبي لأراضيهم.

الرهبان الأغوريون

من أفريقيا إلى الهند حيث يوجد الأشخاص الأكثر رعباً على هذا الكوكب. إنهم الرهبان الأغوريون الذي يعيشون على هامش المجتمع هناك. وقد دارت حولهم العديد من الأساطير المرعبة، لأنهم يتجولون عراة، ويستخدمون لهجة لا يعرفها أحد سواهم. ولا يقترب منهم أحد، لأنهم يهاجموه ولا يعطون أي قيمة لحياة الإنسان. يستخدمون الجماجم البشرية كحاويات وقد شوهدوا وهم يؤدون طقوساً فوق الجثث يأكلون لحوم البشر ويشربون دمائهم. ويعتقدون أن هذه الطقوس تجعلهم قادرين على التنبؤ بالمستقبل بدقة كبيرة.

قبيلة أماهواكاس

توجد في بيرو قبيلة أماهواكاس الغامضة التي تضم حوالي خمسمائة من المحاربين والصيادين الخبراء، الذين أجبرهم تجار الرقيق من القرن التاسع عشر على الانتقال إلى داخل الغابة، ولم يتصلوا بهم مرة أخرى أبداً. طريقتهم في ممارسة أكل لحوم البشر هي دفن جثة الشخص عندما يموت لأسباب طبيعية. وحفرها بعد شهر واستخراج الجثة. وطهيها في قدر كبير على النار ثم أكلها. ويعتقدون أنهم بهذه الطريقة يحتفظون بأرواح موتاهم داخل أجسادهم.

قبيلة الكورواي

وفي غينيا الجديدة لدينا الكورواي الذين لا يستخدمون العنف. فعندما يمرض أحد أفراد الأسرة يقولون إن الشيطان يأكل أعضائه. وعندما يموت يأكلونه والشيطان بداخله، حتى لا يأكل جسده الشيطان. وفي البرازيل هناك قبيلة واري، التي تمارس أكل لحوم البشر. وبمجرد وفاة شخص من قبيلتهم، ينتظرون بضعة أيام، ويأكلون أعضائه. بينما يتركون الجلد يتحلل بشكل طبيعي. تشير التقديرات إلى أن هناك حوالي 1500 شخص من شعب واري اليوم.

إذا كنت قد قرأت هذا الحد فذلك لأنك شخص فضولي، أو لأن هذا الموضوع يثير اهتمامك. ولكن عليك أن تعلم جيداً أن هذه القبائل التي ذكرناها لا يوجد دليل ملموس أو شهود عيان على أنهم مارسوا أكل لحوم البشر بالفعل. وأنهم من الشعوب المنعزلة التي ترفض التخلي عن غابات وأراضيها لآكلي لحوم البشر الحقيقيين سواء كانوا من مدمري الغابات وقاطعي الأشجار أو مستكشفي البترول. لذا حامت حولهم الكثير من الشائعات والأساطير التي لا تمت للحقيقة بصلة، وبالتأكيد أنت تعرف الآن من وراء هذه الشائعات.

هل كل هذا خيال محض؟

أفلام عن أكل لحوم البشر
أنتوني هوبكينز في فيلم “صمت الحملان”

صدم فيلم “Cannibal Holocaust” في عام 1980 العالم بأسره من خلال تقديم شيء مؤلم مثل أكلة البشر بطريقة قريبة للغاية. وقد تم تسويق الفيلم على أنه وثائقي، وواقعي. وهذا ما جعل الناس تعتقد أن كل ما شاهدوه في الفيلم كان حقيقياً بالفعل، مما أدى إلى إطالة عمر الأسطورة لعقود من الزمن.

“آسف.. لدي موعد عشاء هذا المساء”.

هذا الاقتباس من الفيلم الأمريكي “صمت الحملان” الذي قام ببطولته الفنان المخضرم أنتوني هوبكنز، وهو فيلم إثارة نفسية يُلقي الضوء على الهاوية التي يمكن أن تسقط فيها الروح البشرية، وعلى الرغم من أن عنوانه يوحي بأنه فيلم وثائقي عن مرض الحمى القلاعية إلا إنه يتعامل مع موضوع أكل لحوم البشر بطريقة مخيفة للغاية.

لكن أكلة لحوم البشر لا تزود كتاب القصص المعاصرين بقصصهم فحسب، بل حدث ذلك منذ أكثر من مائة عام، عندما تناول الروائي الأسطوري هربرت جورج ويلز (1895) هذه الفكرة في روايته “آلة الزمن”. تدور أحداث الرواية حول مسافر عبر الزمن يكتشف في رحلته إلى المستقبل البعيد أن العالم انقسم إلى جنسين “الأيلو” و”المورولوك”. أما الأيلو فهم أبناء الطبقة المرفهة التي تعيش على الأرض وتنعم بكل خيراتها. في حين أن المورولوك هم أبناء الطبقة الفقيرة التي تعيش تحت الأرض وتتغذى على لحوم أي شخص يصطادونه من طبقة الأيلو الضعفاء. لكن ليس كل ذلك خيالاً قصصياً نسجته الأعمال الأدبية والفنية، فأكلة لحوم البشر موجودة في كل مكان. دعونا نرى.

أكل لحوم البشر في كل مكان

هل يوجد أكلة لحوم البشر في الحقيقة
مشهد من أحد الأفلام

قد يعتقد المرء أن كل هذا كان خيالاً، ولكن في الحياة الحقيقية، يوجد فعلاً أكلة لحوم البشر، وبعيداً عن القصص المثيرة التي تُنشر في الصحف والمجلات والتي لا تستند على تقارير شهود العيان بل على الاساطير والشائعات هناك بعض القبائل التي تأكل لحوم البشر فعلاً. وما لا جدال فيه بين العلماء هو حقيقة أن بعض القبائل الهندية – على سبيل المثال في الغابات الاستوائية المطيرة في أمريكا الوسطى والجنوبية أو في غينيا الجديدة – تأكل أحياناً البشر دون أي مشاكل أخلاقية، حيث أن هذه الطقوس كانت جزءاً من قواعد السلوك الطبيعية لهم لفترة طويلة.

يفرق العلماء[2] بين أكل لحوم البشر الذي يقوم على أكل الأقارب من نفس العشيرة بعد موتهم الطبيعي، وأكل لحوم البشر من خارج العشيرة، أي ضد الأعداء من جميع الأنواع. وتلعب الجوانب الغذائية دوراً ثانوياً في ممارسات أكل لحوم البشر، فلا تأكل بعض القبائل لحوم أقاربها الموتى من أجل الغذاء، بل هي ممارسات طقسية. وحتى أكل لحوم البشر من خارج العشيرة لا يحدث في أوقات الجوع، فالموتى الذين يتم تناولهم من الأعداء هم مجرد نفايات طهي للصراعات العسكرية العادية بين المجموعات العرقية المتصارعة. وربما تكون الجوانب الدينية أو الطقسية هي الأكثر أهمية بالنسبة لأكلة لحوم البشر. حيث تعتقد بعض القبائل أن الولائم بين أفرادها ستحافظ على جسد وروح الموتى، بينما تمارس قبائل أخرى أكل لحوم البشر للأسباب المعاكسة تماماً، وهم بهذه الطريقة يريدون إبعاد روح المتوفى عن قريتهم.

وباء الضحك

لكن أكل لحوم البشر له أيضاً مخاطره. كان على قبيلة كونغ، وهي قبيلة في أفريقيا الوسطى، تجربة ذلك عندما كانت تتغذى في المقام الأول على أدمغة أعدائها لفترة طويلة، وقد عانى أفراد هذه القبيلة مراراً وتكراراً من مرض فيروسي غريب أدى إلى نوبات من الضحك المؤدي إلى الوفاة. وتمكن الباحثون من إثبات أن هذا المرض كان نتيجة لممارسة أكل لحوم البشر، وعندما تم حظر هذه الممارسة انخفض عدد الحالات المصابة بهذا المرض[3].

ربما يفكر البعض الآن ويقول إن هؤلاء المتوحشون البدائيون لا يخجلون من أي شيء، لكن هذه الممارسات لا تحدث في العالم المتحضر، ونقول لهؤلاء أن هناك العديد من البلاغات التي تحدث من وقت لآخر عن ممارسات أكل لحوم البشر في أوروبا وأمريكا. لكن الأسباب التي تجعل الناس يأكلون لحوم البشر تكون أكثر دنيوية من تلك التي لدى الشعوب البدائية المفترضة.

حادث جبال الأنديز

حادث جبال الأنديز
الناجون من حادث جبال الأنديز

كان هناك حادث شهير وقع في عام 1972، وهو حادث تحطم طائرة في جبال الأنديز التشيلية، وقد اشتهرت قصة هذا الحادث في جميع أنحاء العالم نظراً لأكل لحوم البشر بسبب المجاعة[4]. كانت الطائرة تحمل أعضاء في فريق كرة قدم من أوروغواي عندما اصطدمت بقمة الجبل، ولم ينجو من الحادث سوى 16 منهم. وقد اضطر الناجون الستة عشر إلى تناول زملائهم الذين لقوا حتفهم في الكارثة. وبعد أكثر من شهرين، تم إنقاذهم أخيراً من الجبال المغطاة بالثلوج سالمين إلى حد كبير. لكن مثل هذه الأسباب الوجودية لا تكون دائماً في طليعة أسباب أكل لحوم البشر.

ليس من أجل البقاء

أبلغ أحد أعضاء البرلمان في بيرو مؤخراً عن حالة مختلفة وحديثة جداً. حيث ذكر أن بعض السجناء في أحد سجون البلاد قاموا بقتل وأكل أحد السجناء لتخويف عصابته. وقد أكدت السلطات الحكومية اختفاء الرجل بالفعل. وأشارت إلى أن مثل هذه الحالات الغامضة حدثت عدة مرات في مركز الاحتجاز. بينما تم العثور لاحقاً على الهياكل العظمية للموتى في مكان ما على أرض السجن.

حدثت حالة أخرى من حالات أكل لحوم البشر في مولدوفا عام 2001. كانت امرأتان تبيعان كميات كبيرة من اللحوم مجهولة المصدر في كشك بالشارع. وقد ارتابت الشرطة في الأمر، لذا اعتقلت المرأتين وقاموا باختبار اللحم. وأظهرت التحقيقات أن ما كان يُقدم هو لحم بشر. واعترفت المرأتان أنهم اشتروا هذه اللحوم بسعر رخيص من عيادة السرطان القريبة[5].

أكل البشر قصة لا تنتهي

حفريات أثرية
إنسان النياندرتال

كان مسرح الجريمة هو وادي الرون في فرنسا منذ 100 ألف عام. عاش هناك في ذلك الوقت صديق قديم جداً لبشر اليوم. إنه إنسان النياندرتال. ففي عام 1999، أثبت علماء من مختبر الأنثروبولوجيا التابع للمركز الوطني للبحوث العلمية في مرسيليا أن إنسان النياندرتال كان من أكلة لحوم البشر[6]، على الأقل في بعض الأحيان. واستندت النتائج التي توصلوا إليها إلى أن هناك ما يقرب من 78 من العظام البشرية تعود إلى ستة أشباه بشرية مقتولة، واثنين من البالغين، واثنين من المراهقين وطفلين، عثروا عليها في كهف مولا جيرسي الذي يقع فوق نهر الرون في منطقة أرديتشي. ويقول الباحثون أنه تمت إزالة اللحم العضلي بعناية من أجزاء الهيكل العظمي المكتشفة. كما تم كسر العديد من العظام وامتصاص النخاع الثمين والمغذي، حتى أن أحد الأطفال فقد لسانه.

ربما خلص العلماء إلى تورط إنسان النياندرتال في أكل لحوم البشر، نظراً لعدم وجود أي شخص من معرض أسلاف الإنسان غير إنسان النياندرتال كان يسكن هذه المنطقة في ذلك الوقت. لكن أسباب هذه البربرية ظلت غير واضحة. هل قتل إنسان نياندرتال البشر من نفس جنسه من أجل الغذاء، أم أن هناك أسباباً دينية أو طقسية لعبت دوراً رئيسياً؟ الباحثون ببساطة لا يعرفون.

التضحية البشرية في جزيرة القيامة

قصة جزيرة القيامة
جزيرة القيامة في المحيط الهاديء

هناك أيضاً تقارير موثوقة عن أكل لحوم البشر تأتي من جزيرة القيامة. حيث كان سكانها لعدة قرون يقدمون التضحيات البشرية لآلهتهم كجزء من مهرجانهم الوطني السنوي. وكان زعمائهم يأكلونها بحماس[7]. وفي القرن الثاني عشر كان أكل لحوم البشر منتشراً أيضاً بين الأمريكيين الأصليين. ففي ذلك الوقت، كان الجفاف المدمر يستعر فيما يعرف الآن بولاية كولورادو الأمريكية، مما تسبب في نقص الغذاء. وكانت الطريقة الوحيدة للبقاء على قيد الحياة هي أكل لحوم البشر.

وربما لم يتم غزو الغرب الأمريكي بعد 700 عام دون أكل أعضاء من نفس النوع. حيث هناك بعض التقارير لشهود عيان تشير إلى وجود حالات متكررة من أكل لحوم البشر أثناء الرحلات خلال أوقات الجوع الشديد. وقد كان الجوع أيضاً سبباً لتجاوزات أكل لحوم البشر في أوروبا خلال الحروب العالمية الكبرى. إذ وثق المراسلون الحربيون في العديد من الروايات المستقلة أن أكل أجزاء من أجساد جنود العدو القتلى تثري أحياناً النظام الغذائي لأفراد الجيش أو السكان المدنيين[8].

استثناء أم قاعدة

“البشر هم الكائنات الحية الوحيدة القادرة على قتل جنسهم”.

لطالما اعتبر هذا البيان عقيدة لا يمكن دحضها بين محبي الحيوانات في جميع أنحاء العالم. ولكن مع مرور الوقت، كان على هؤلاء الأشخاص أن يدركوا أن القتل وأكل لحم نفس الجنس يحدث أيضاً في عالم الحيوان. لقد كان العلماء حتى النصف الثاني من القرن العشرين يعتبرون أكل الحيوانات من جنسهم سلوكاً نادراً، بل مرضياً في المملكة الحيوانية، لكن أظهرت العديد من الدراسات والتجارب الميدانية الآن أن أكل لحوم البشر يحدث بشكل متكرر نسبياً في العديد من الأنواع الحيوانية[9].

حرب الشمبانزي جومبي

حرب الشمبانزي جومبي
شمبانزي يصرخ في أعدائه

لا تقتصر هذه الظاهرة على الحيوانات الدنيا مثل الكائنات وحيدة الخلية أو الديدان، ولكنها تمتد إلى جميع الشعب الحيوانية ولا تتوقف عند الرئيسيات. وقد خاضت جين جودال، عالمة السلوكيات المشهورة عالمياً، هذه التجربة المؤلمة أثناء دراستها لسلوك الشمبانزي في حديقة جومبي الوطنية في تنزانيا. تتمثل هذه التجربة في الحروب القبلية بين حشد من قرود الشمبانزي وهي الحرب التي تعرف باسم “حرب الشمبانزي جومبي”. حيث وقعت حوادث قتل وأكل لحوم بعضهم البعض بشكل متكرر خلال هذه الحرب. وذكرت جين جودال أن أكثر ما أثار رعبها هو هجوم إحدى إناث الشمبانزي على أخرى وسرقة أطفالها وأكلهم. وهو سلوك لم يخلو من الأثر على ابنة أكلة الأطفال التي كانت تراقب والدتها بعناية أثناء هجومها، وقد أصبحت الابنة قاتلة أيضاً، حيث قلدت تصرفات الأم حتى أدق التفاصيل.

تنانين كومودو

تنين الكومودو
الصراعات بين تنانين الكومودو

ربما لا يحدث أكل لحوم نفس الجنس إلا نادراً ويعتمد على الوضع والظروف في العديد من الحيوانات. ويمارسه في العادة عدد قليل من أفراد النوع، إلا أن أكل لحوم نفس الجنس يمكن أن يكون في بعض الأحيان أحد الأسباب الرئيسية للوفاة في بعض الأنواع. ومن الأمثلة الجيدة على ذلك تنانين كومودو التي تعيش في الجزيرة الإندونيسية التي تحمل الاسم نفسه. اكتشفها الباحثون الأوروبيون فقط في عام 1912، وسرعان ما أدرك علماء الحيوان أن هذه السحالي العملاقة لا تتغذى فقط على القرود والخنازير البرية، بل تحب إثراء قائمتها بأعضاء من نوعها. حيث تأكل تنانين كومودو أولاً أحشاء فرائسها بمتعة واضحة، وعندها فقط تهاجم لحم العضلات.

وعلى الرغم من هذه الأمثلة المذهلة، إلا إنه من الخطأ تعميم هذا الأمر على جميع الأنواع في المملكة الحيوانية، واعتباره قاعدة وليس استثناء، فلم يتم ملاحظة أكل لحوم نفس الجنس في معظم الأنواع في العالم.

لماذا تفعل الحيوانات ذلك؟

أكل لحوم البشر عند الحيوانات
أسد يستعد للهجوم على المجموعة

ما الذي يجعل الحيوانات تنتهك القواعد العادية والطقوسية الصارمة للسلوك العدواني مثل القتال وتتحول إلى أكلة لحوم من نفس نوعها؟ خاصة وأن هذا الفعل في حد ذاته لا يخلو من المخاطر[10]، على سبيل المثال، يمكن لآكل اللحوم أن يواجه عضواً من جنسه، ويصبح وجبة مكونة من طبق واحد، ولا يمكن استبعاد خطر الإصابة بعدوى سيئة أثناء تناول الطعام داخل الأنواع. لذلك يجب أن تكون هناك أسباب جدية لحدوث مثل هذه الممارسات. ومن المؤكد أن المزيج المتفجر من الزيادة العددية والجوع يلعبان دوراً مهماً في العديد من الأنواع.

وجد الباحثون أن نسبة أكلة لحوم نفس النوع بين الضفادع الصغيرة التي تعيش في بحيرات وبرك صغيرة فقيرة بالمغذيات ومكتظة بالسكان عادة ما تكون مرتفعة بشكل كبير. حتى أن بعض يرقات نوع معين من سمندل الماء طورت أدوات أكل خاصة حتى تتمكن من أكل أقاربها بسهولة أكبر. ولا تقوم الحيوانات بتحسين قائمتها الخاصة فحسب، بل تتخلص أيضاً من المنافسين عندما تبحث عن شريك. وعند دراسة السلوك في المختبر، وجد العلماء الأمريكيون أن أكلة نفس النوع تنشأ عندما تقضي اليرقات معظم وقتها بين أفراد محددين لا يرتبطون بها ارتباطاً وثيقاً. والفكرة هنا واضحة، ففي هذه الحالة يساعد أكل الغرباء على الحد من جيناتهم قدر الإمكان وتعزيز انتشار الجينات الخاصة بالآكل.

عندما يأكل الآباء أولادهم

يقتصر أكل لحوم البشر بالنسبة للنوع الإنساني في الغالب على أكل البالغين. لكن من الشائع أن تقوم أنواع معينة من الحيوانات بأكل أطفالهم. ويعود السبب في ذلك إلى نقص الغذاء وزيادة أفراد النوع. على سبيل المثال إذا ولدت فأرة الكثير من الفئران أكثر مما يمكنها إطعامه، تحدث انحرافات اجتماعية حادة. فالأمهات اللاتي اعتنين بأطفالهن الصغار في البداية بمحبة لم يعد يظهرن عادة أي موانع بشأن أكل النسل الزائد بلا رحمة.

إن مقولة “أحبك حتى الموت” تعبر عن هذا الأمر بشكل وحشي للغاية، ومع ذلك، فإن هذا الأمر له ميزة في أوقات الجوع، خاصة وأن الصغار المتبقين يمكن أن ينموا دون أي مشاكل، ويمكن أن تنتشر جيناتهم على الرغم من الأزمة.

الأسود الصغيرة ترتكب مجازر

والمثير للدهشة أن ملك الحيوانات “الأسد” حقق شهرة خاصة في قتل الأطفال. لقد اكتشف العلماء أن عملية هذه المذابح التي تتم مراقبتها بانتظام يمكن تخيلها على النحو التالي: تقوم “عصابات العزاب” المتجولة والمغامرة بمهاجمة مجموعة موجودة، وتقتل قائدها بدم بارد، وفي بعض الأحيان يأكل المهاجمون الأسد المهزوم. ولكن بعد ذلك بقليل، تبدأ اللعبة القاتلة بالفعل. حيث يترك المهاجمون الإناث ويبحثون عن الصغار في القطيع، ودائماً ما ينتهي الأمر بالصغار في حلق أو معدة الذكور. وكما هو الحال غالباً مع هذه الظاهرة، فإن مدى انتشار أكل اللحوم بين الأسود يرتبط ارتباطاً مباشراً بالكثافة العددية. ويمكن تلخيص الأمر برمته في صيغة بسيطة: عندما تكون هناك زيادة في عدد أفراد النوع، يكون هناك العديد من عصابات العزاب، وبالتالي العديد من الهجمات على المجموعات الموجودة، والنتيجة تزايد جرائم قتل قادة المجموعات وقتل الأطفال. وهذا أيضاً يقلل من الضغط السكاني وظهور عدد أقل من عصابات العزاب.

اللبؤات توقع الحكام الجدد

هل هناك أسباب أخرى لهذا السلوك؟ ولماذا لا تدافع الإناث عن أطفالها بالمخالب والأسنان؟ لفترة طويلة كان من المفترض أن سبب قتل صغار الأسود هو جعل الإناث مستعدة للتزاوج مرة أخرى في أسرع وقت ممكن، وتقبل بانتشار جينات المهاجمين الجدد. لكن في الواقع فإن الأسباب وراء مقتل الصغار أكثر تعقيداً من ذلك بكثير. فمن المؤكد أن الإناث تدافع عن حيواناتها الصغيرة خلال فترات القتل هذه. لكنها تختار طريقاً آخر غير المواجهة المفتوحة من أجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه. حيث تقوم اللبؤات بإيقاع الحكام الجدد في شرك، وتحاول صرف انتباههم عن أعشاش صغارها. ثم تستغل بعض اللحظات التي لا يلاحظها فيها الأسود لتهرب النسل إلى أماكن آمنة.

تحدث هذه الأمور أيضاً في العديد من الأنواع الأخرى مثل التماسيح، وبعض أنواع الطيور الجارحة مثل النسور، وفي أسماك القرش، ومع العناكب وفرس النبي.


في الختام لا يسعنا سوى القول بأن أكل لحوم البشر كانت ممارسة تعود إلى أكثر من 800 ألف سنة عند البشر، ولم تكن ممارسة حصرية على الإنسان، بل كانت حاضرة عملياً بين جميع سكان هذا الكوكب، ولكنها ليست بالصورة التي صورها لنا الأدب والأعمال الفنية.

المراجع

[1] Cannibalism.

[2] Cannibalism: It’s ‘Perfectly Natural,’ A New Scientific History Argues.

[3] When People Ate People, A Strange Disease Emerged.

[4] My plane crashed in the Andes. Only the unthinkable kept me and the other starving survivors alive.

[5] Cannibalism is symptom of Moldova’s decline.

[6] Neandertal cannibalism and Neandertal bones used as tools in Northern Europe.

[7] Hidden Rapa Nui: Easter Island’s Cults, Cannibals, and Cultural Connections.

[8] Historian uncovers diaries from Nazi siege of Leningrad documenting cannibalism during famine.

[9] Parent–offspring cannibalism throughout the animal kingdom: a review of adaptive hypotheses.

[10] Cannibalism is common in the animal kingdom – here’s why for humans it’s the ultimate taboo.

وائل الشيمي

كاتب وأديب بدأ مسيرته الأكاديمية في مجال الصحافة، حيث حصل على بكالريوس في هذا المجال، وقاده شغفه بالإنسانية إلى دراسة علم النفس والفلسفة، وقد ساعدته دراسته وقراءاته في فهم أبعاد الشخصية البشرية وتعقيداتها. في روايته "الأجنحة السوداء" صور قضايا الوجود والتحديات النفسية التي يواجهها الإنسان في رحلة بحثه عن الإله، في سياق سردي مشوق يحمل في طياته تأملات فلسفية حول الحياة والموت، الحرية والقيود. كما أطلق في مجموعته القصصية "علامات لا تُمحى" مجموعة من القصص التي تتناول الجوانب المظلمة من التجربة البشرية، تاركاً آثارًا لا تُمحى في ذهن القارئ. إلى جانب أعماله الروائية والقصصية، ساهم الكاتب بالعديد من المقالات النقدية والحوارات الفكرية في الصحف والمجلات والمواقع الإعلامية، حيث شكلت كتاباته مساحة للتفكير والتحليل حول قضايا ثقافية واجتماعية معاصرة.

‫6 تعليقات

  1. إذن ما نعرفه عن وجود قبائل تأكل لحوم البشر مجرد شائعات لا أساس لها من الصحة

  2. ليس كذلك في المطلق، ولقد ذكرت في المقال أن هناك بالفعل بعض القبائل التي تمارس أكل لحوم البشر، ولكن بصورة طقسية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

دعمك يهمنا ❤️

نحن نعمل بجد لتقديم محتوى مجاني ومفيد لك. هل يمكننا الاعتماد على دعمك بتعطيل مانع الإعلانات؟ شكرًا مقدمًا!