التربية الحديثة: كيف أفسدت توقعاتنا المثالية جوهر الطفولة؟

الطفولة، تلك المرحلة التي تمثل براءتها أسمى معاني النقاء والفرح، أصبحت في عالمنا المعاصر أسطورة لا يمل الكبار من التعلق بها. نحن نبحث في عيون أطفالنا عن سر السعادة التي ضاعت منا، ونتعلق بهم كطوق نجاة في بحر الحياة المتلاطم. وفي خضم كل ذلك، أصبح الطفل هو المعيار الذي نقيس به سعادتنا المفقودة، وصار ينظر إليه كمنتج نشتريه لتعبئة الفراغ الذي يعترينا. لكن هل حقًا نمنح الطفل فرصة للعيش كما هو، أم أننا نقحم عليه توقعاتنا المثالية، مما يخلق أزمة حقيقة بين الواقع والخيال في حياة طفولته؟ دعونا نتعرف على مشاكل التربية الحديثة للأطفال وما يمكن أن تفعله بهم..
أسطورة الطفولة المعاصرة
الطفولة هي واحدة من أكثر الأساطير المعاصرة جاذبية. لقد أصبحت الطفولة نوعًا من الطوطم أو الجنة المفقودة، التي يلجأ إليها الكبار بحثًا عن النقاء، الحنان، الفرح، ولا أعرف كم من الأشياء الأخرى. أعتذر إذا بالغت في التوصيف، لكن الطفل أصبح المنتج المثالي: منتج “نقتنيه” على أمل أن يملأ الفراغ العميق في حياتنا البالغة.. تلك الحياة المتعطشة للمودة والعاطفة والمعنى.. الحياة التي لا نعرف ما نفعله بها خارج نطاق الإنتاج والاستهلاك.
يملأ ظهور الطفل كل شيء بالسحر والافتتان. نحن ننظر إلى أطفالنا بإعجاب مبرر.. إنهم شيء أتى منا.. شيء نشعر به كجزء منا.. وتسليم أنفسنا لهم هو متعة وامتياز. ولكن هل نحن صادقون مع أنفسنا عندما نرفعهم إلى مستوى التقديس كما نفعل عادةً؟ ألا نعوض بهم عن بعض الاحتياجات المحددة، مثل الرغبة في المعنى أو الحنين إلى عاطفة بريئة ومخلصة؟ ألا نجعلهم مسؤوليين عن تحقق السعادة لنا.. تلك السعادة التي حولناها أيضًا إلى أسطورة..
يبدو أن بعض مواقفنا تجاه الأطفال، وكأنها تتجاوز الحدود إلى الدرجة التي ينبغي وصفها بأنها مفرطة ومبالغة إلى حد مثير للشفقة.. نحن نعد أنفسنا بأن نمنحهم تلك السعادة الكاملة التي لم نحظَ بها نحن – لن ينقص ابني أي شيء – ونتعهد بحمايتهم من الأذى الذي ألحقه بنا هذا العالم القاسي الذي غمرنا بالصدمات – لن أسمح لطفلي بأن يمر بما مررت به. نحن مستعدون لمواجهة كل الأشرار الذين قد يسيئون معاملتهم (المعلم، الجار، الجد، وبالطبع جميع الأطفال الآخرين، الذين يعتبرون أعداء محتملين)… الجميع باستثنائنا نحن، لأننا فرسانهم وحراسهم.
الحماية الزائدة والاستغلال العاطفي
أن تكون موضعًا لكل هذه التوقعات في التربية الحديثة يشكل ضغطًا لا يحتمل على الطفل في كثير من الأحيان. نحن نتوقع رغباته، ونغمره بالهدايا عديمة التي لم يطلبها أبدًا.. ونمنحه كل ما يشتهي قبل أن ينطق حتى. يلتقط الأطفال هذه التبعية التي لدينا تجاه موافقتهم، ويتعلمون بسرعة استغلالها بلا حدود أو قيود.. ويدركون أن مجرد دمعة خفيفة كافية لإثارة جميع مشاعر الذنب والتفاني لدى الكبار. إن أدنى إزعاج يتحول إلى دراما منزلية حقيقية، ويحفز تضحيات بطولية من الآباء الذين لن يترددوا في مهاجمة المعلم بسبب العقوبة غير المستحقة، أو الشكوى التعسفية، أو الإهمال في الحيلولة دون سقوط الطفل أثناء الركض، أو حتى في شجاره مع زميله على الكرة.
مشكلات التربية الحديثة
تبقى الأدوار التقليدية كما هي في خيال العديد من الآباء في التربية الحديثة، لكن مع انقلابها فقط؛ فإهانة الطفل تعد جريمة لا تغتفر. بينما في الاتجاه الآخر، يعتبر الأمر مجرد طريقة عادلة لإعادة تأكيد الذات في وجه المعلم الأخرق أو الخبيث الذي ينظر إليه على إنه مجرد مقدم خدمات (وهذا ما يدفعون له مقابله) وليس كنموذج بالغ يجب أن يُحترم. المعلم هو مجرد أداة في أرض العجائب التي نريد لأطفالنا أن يكبروا فيها.. ولهذا السبب نطلب منهم الرضا المتوقع كما نفعل مع النادل في المطعم.. وهذا ما يفعله الكثيرون عندما لا يعجبهم الطبق الذي يقدم لطفلهم.. يثيرون الجلبة، يهددون بالشكوى من الاحتيال المزعوم، ويغيرون مدرسة الطفل كما يغيرون قميصه.
وهكذا ينشأ الأطفال وهم يعتقدون أن العالم عبارة عن سوق كبير من الأشياء التي تخدمهم، حديقة ترفيهية تسعى لإسعادهم ولا تطلب منهم سوى أن يدفع والديهم ثمن التذكرة. إذا شعر الطفل بالملل أو اشتكى، أو إذا وضعت له حدود غير مريحة أو لم يمنح الانتباه الكافي، فسوف يبحث له على الفور عن وسيلة ترفيه جديدة. إن شكاوى الطفل تجاه البالغين تكون دائمًا مقدسة ولا يمكن التشكيك فيها.. لقد رأيت نفس هؤلاء الآباء يهددون الشخص البالغ حين يرون الطفل يصرخ أو يشتم أو يسكت معلمًا:
هذه هي المرة الأخيرة التي تتحدث فيها مع ابني بهذا الشكل.
الطفولة بين البراءة والاستبداد
ولا يمكن إغفال مسألة إلغاء سلطة البالغ عندما يعود الطفل إلى المنزل ويشتكي من عقوبة المعلم. حيث يقتصر الآباء الأكثر حدة وبطولية على الرد ببساطة:
لا تكترث له، سأتحدث معه، لن أسمح له أن يعاملك بهذه الطريقة.
بينما الآباء الأكثر تطورًا يمكنهم القول بسخرية:
يا له من معلم! هذه هي العقوبة نفسها التي فرضوها على جدي! هل هذا هو كل ما استفاد منه من دراسته وخبرته؟ إنه يحتاج إلى مزيد من الدراسات في علم التربية!
هذه أمثلة حقيقية موجودة بالفعل، فما يقوم به الكثير من الآباء هو الشك في دور المعلم من البداية، وإعطاء الحق للطفل دائمًا، ودعوته لفعل ما يحلو له.
بهذه المواقف، يشكل الآباء نموذجًا للطغاة الصغار الذين يسقطون على العالم ما يرونه في المنزل.. ينشأ الأطفال في التربية الحديثة على فكرة أن بإمكانهم فعل ما يشاؤون دون عقاب، لأن العالم يجب أن يتكيف معهم بدلاً من أن يتكيفوا هم مع العالم. الحياة بالنسبة لهم تبدو مسرح للوفرة لا داعي لبذل جهد من أجل الحصول على شيء، ولا لمراعاة الآخرين، ولا للتفاوض معهم. إن هذا الطفل المستبد، الذي يسبب المشاكل وسيسبب المزيد منها، والذي يعاني وسيعاني، يمثل في خيال العديد من الآباء اليوم ذروة سعادة الطفولة..
التربية الحديثة وتعليم الطفل القيم الحقيقية
هذا خطأ مأساوي بكل تأكيد.. وسيكون الطفل ضحيته الأولى، بسبب الصعوبات الهائلة التي سيواجهها في السيطرة على نفسه.. والقدرة على التعاطف، والتفاوض.. ومساءلة نفسه، وبالتالي فهو محكوم عليه بنقص في استراتيجيات التحكم الذاتي، وحرمانه من تعلم القواعد التي تشكل أساس التعايش الاجتماعي. لن يكون لدى هذا الطفل وسيلة للهروب من غروره المتضخم.. ولن ينعم بالطمأنينة التي تأتي من الحدود التي تحمينا من تعسف الآخرين، بل والأهم من القواعد التي تنظم العدالة وتحمي الضعيف. لن يفهم هذا الطفل الصعوبة المتأصلة في الأمور ذات القيمة.. ولن يستمتع برضا تحقيق النجاح بنفسه. لن يدرك قيمًا مثل التضامن، والتعاون، والجهد، والمبادرة الشخصية. إن ميوله الاستبدادية ستدفعه في النهاية إلى الاصطدام بالبيئة المحيطة.
تتوافق كل هذه العواقب المترتبة على السلوك الحامي المفرط للبالغين مع تلك الأسطورة السامة عن “الطفولة السعيدة”، التي تعتبر العصر الذهبي للحياة التي يفترض أن الجميع يحن إليها (على الرغم من أن أي طفولة، مثل أي حياة، لا تخلو من القلق والمعاناة، مهما أردنا نسيانها).
الإفراط في حماية الأطفال
هناك شيئًا من الحقيقة والضرورة في ذلك التقدير للطفولة في التربية الحديثة.. فالأطفال يتمتعون بالكثير من البراءة، والنقاء، والتوهج الذي يضفي على الحياة معانيها الأولى، ولذلك يستحقون أن نمنحهم حمايتنا وحبنا. لكنني أعتقد أن هذا التقدير قد أصبح مفرطًا في الوقت الحالي، لدرجة أننا نبالغ في تمجيد صفات الطفولة، مما يؤدي إلى مثالية غير متطابقة مع واقعها بل مع حنيننا الخاص. إن إخضاع الطفل لأحلامنا، نمنعه من النمو في عالم حقيقي.. عالم سيواجه فيه مشاكل يجب أن يعاني منها ويواجهها بنفسه.. مجتمع سيقيده ويجبره على فقدان براءته تدريجيًا.. عالم يجب أن يكتشف فيه أبعادًا مريرة مثل الخوف، الصراع، الإحباط، والشجاعة… هذا هو النضج الحقيقي.. وهذا ما ننكره عليهم غالبًا، بنوايا حسنة أو لمجرد أننا نفضلهم كذلك، من خلال حمايتهم المفرطة وتسامحنا معهم، مما يمنعهم من التكيف مع صعوبات الحياة.
ولكن هناك ما هو أسوأ. فكل إفراط له جانبه المظلم، وإفراطنا الأبوي في التفاني يخفي جانبًا آخر، نغطيه بمهارة من خلال حبنا الأبوي.. أنا أتحدث عن الإهمال العميق الذي ينشأ فيه الأطفال حاليًا، ونقص الحضور الأبوي والأمومي الذي يرافقهم، ويشكلهم ويقدم لهم الدعم اللازم…
يعيش الآباء اليوم حياة مزدحمة للغاية، مليئة بالأنشطة والمتطلبات.. وليس لديهم وقت كاف ليكونوا بجانب أطفالهم، حتى لو كان ذلك يعني أن يشعروا بالملل منهم. يسعد العديد من الآباء اليوم بإنجاب الأطفال، لكنهم لا يملكون الوقت أو الصبر ليكونوا إلى جانبهم. في الواقع، ليس لديهم حتى الوقت لتربيتهم، ولهذا السبب يوكلون مهمة التعليم إلى المتخصصين الذين ينتقدونهم لاحقًا، ربما بدافع من الشعور بالذنب، لأنهم لا يؤدون عملهم بشكل جيد. في هذا التخلي عن التربية من قبل العديد من الآباء، يظهر بشكل درامي تلك الطبيعة الاستهلاكية للأبوة التي، رغم صعوبة الاعتراف بها، تعاش اليوم.
التوقعات المثالية وتأثيرها السلبي
وهكذا، تواجه الطفولة اليوم مفارقات مأساوية. فمن جهة، لم تكن الطفولة يومًا أكثر تمجيدًا وتقديرًا من عصرنا الحالي.. ومن جهة أخرى، لم يسء المجتمع فهمها كما يفعل الآن.. ولم يكن الأطفال أكثر إهمالًا بسبب غياب الوالدين. من جهة، ننتظر من أطفالنا أن يقدموا لنا أعظم فرصة للحب والسعادة، ومن جهة أخرى، نخنق فرديتهم تحت وطأة توقعاتنا المثالية والمليئة بالعواطف. من جهة، نعتبر أن حصول أطفالنا على أفضل تعليم (الذي يجعلهم سعداء ويعدهم للعالم والعمل) هدفًا ذا أولوية، ومن جهة أخرى، أصبح التعليم معقدًا للغاية لدرجة أننا نفضل تسليمه إلى المختصين الذين توفرهم لنا المجتمعات، لكننا نفعل ذلك دون الثقة الكاملة فيهم، ودون السماح لهم بأن يخالفونا الرأي أو يكشفوا لنا تناقضاتنا الخاصة.
لا أحب النظر إلى الماضي بحنين، لأن ذلك غالبًا ما يكون وسيلة للهروب من الحاضر.. وفي جميع الأحوال، نادرًا ما نكون محقين عندما نضفي المثالية على تلك الأزمنة الماضية التي يفترض أنها كانت أفضل. فالتراث مليء بالعيوب، ومن حسن الحظ أننا تجاوزنا الكثير منها في عدة جوانب. ومع ذلك، يجب أن نعترف أنه لم يمض وقت طويل على تلك الأيام عندما كان الأطفال يعتبرون عبئًا وإزعاجًا يجب تحمله كاستثمار للمستقبل.. وكانوا يخضعون بلا جدال لانضباط الأسرة، ولم يكن يؤخذ حقهم في الطفولة على محمل الجد. على الأقل، في تلك الأيام كان الأطفال يكبرون بعيدًا عن إصرارنا المفرط وتوقعاتنا المثالية.. ولم يعاملوا كمنتج يحقق السعادة الأبوية.. وكان بإمكانهم على الأقل أن يشعروا بأنهم صانعو مصيرهم الخاص إلى حدٍ ما عندما كانوا يدركون الصعوبات ويواجهونها بأنفسهم.
التربية الحديثة في عالم مختلف
باختصار، لا يتعلق الأمر بالعودة إلى الوراء، وهو أمر مستحيل على أي حال.. ولا ينبغي أن نلوم أنفسنا بسهولة، بل علينا أن نفكر فيما يمكننا فعله بشكل أفضل. ففي نهاية المطاف، كان على جيلنا أن يبتكر كيفية التربية الحديثة في عالم مختلف تمامًا عن العالم الذي عاش فيه آباؤنا. ومن الطبيعي أن نخطئ كثيرًا ونسعى إلى تصحيح أخطائنا. ومن الموضوعات الجيدة للتأمل هو التفكير بجدية في مدى مسؤولية الآباء اليوم عن انتشار الأطفال والمراهقين المضطربين، والمعرضين للتنمر، والمصابين بالقلق النفسي، والمدمرين لذواتهم.
في النهاية، يبقى سؤالنا حول الطفولة معلقًا بين طيات الزمن: هل نحن بصدد تربية جيل قادر على مواجهة تحديات الحياة بحكمة، أم أننا نصنع من أطفالنا نماذج مستهلكة لفكرة المثالية التي لا صلة لها بالواقع؟ إن الطفولة ليست أسطورة لا يمكن المساس بها، بل هي مرحلة من الحياة يجب أن يعيشها الطفل بحرية، ليتعلم من معاناته ونجاحاته، ليتحمل مسؤولياته، ويتحلى بالحكمة. علينا أن ندرك أن التربية الحديثة ليست مجرد توفير سعادة فورية، بل هي بناء شخصية مستقلة، قادرة على التفهم والتعاطف مع الآخرين.