أسلوب حياة

نظرية الموقد: كيف تحقق التوازن في الحياة؟

يشير التوازن في الحياة إلى القدرة على الحفاظ على حدود صحية بين حياتك المهنية وحياتك الشخصية، هل لاحظت من قبل عندما تتناول طعام أو تجلس لمشاهدة فيلم أو قراءة كتاب أن أفكاراً متطفلة حول مشاكل عملك تدور في عقلك؟ ربما يمنحك العمل الكثير من الرضا، ولكن ماذا عن الجوانب الأخرى من الحياة؟ هل تقضي الوقت اللازم مع عائلتك وأصدقائك؟ هل تحافظ على صحتك النفسية والجسدية؟ يسعى الجميع للبحث عن كيفية تحقيق التوازن في الحياة من أجل حياة أكثر سعادة، لكنه ليس بالأمر السهل في عالم اليوم المليء بالتنافس والأحكام المسبقة والكثير من التوتر والضغوط والأزمات. دعونا نُلقي نظرة على هذا الموضوع بشكل أكثر تفصيلاً من خلال التعرف على نظرية الموقد ذي الشعلات الأربع.

قصة الحكيم والفتى

منذ أكثر من عقد من الزمن قرأت قصة قصيرة تدور أحداثها حول تاجر أرسل ابنه الوحيد إلى رجل حكيم يعتبره الناس أحكم رجل على وجه الأرض ليسأله عن سر السعادة في الحياة. قضى الفتى في رحلته أياماً وليالٍ طوال، حتى وصل أخيراً إلى مبتغاه. كان الحكيم يقطن في قصر عظيم ذي حديقة غنّاء على قمة جبل شاهق. حين وصل إلى هناك وجد الحكيم يتوسط جماعة كبيرة من الناس ويتحدث إليهم. اقترب من الحشد وأخبر الحكيم أنه جاء من بلاد بعيدة ليسأله عن سر السعادة في الحياة، وما كان من الحكيم إلا أن أعطاه ملعقة بها قطرتي زيت وقال له قبل أن نتحدث عن سر السعادة عليك أن تذهب في جولة لرؤية هذا القصر الشاسع وحذره من أن يسكب ما في الملعقة.

سر السعادة

امتثل الفتى لأوامر الحكيم ومضى في طريقه، وعينيه لا تفارق الملعقة خشية من أن ينسكب الزيت. وبعد أن جال وصال في القصر، عاد إلى الحكيم. شرع الحكيم في سؤال الفتى هل رأيت القصر؟ أجابه: نعم. سأله: وما رأيك في اللوحات الفنية المعلقة على الحوائط؟ تلعثم الفتى ولم يجب عليه، استمر في سؤاله: ماذا كان لون السجاد الموجود على أرضية القصر؟ لم يجب. ماذا عن غرف القصر؟ وظل الحكيم يسأل والفتى لا يجد جواباً، وأخيراً قال له الفتى: لقد حاولت أن أركز نظري في الملعقة التي أحملها بيدي، ولم أستطع النظر إلى شيء آخر. قال له الحكيم: إذن، حاول مرة أخرى.. انطلق في جولة أخرى وحاول رؤية ما حولك وفي الوقت ذاته حاول الحفاظ على قطرتي الزيت.

انطلق الفتى في طريقه وبعد جولته عاد للحكيم، وعندما سأله الحكيم مرة أخرى أجابه الفتى عن جميع أسئلته وهو يشعر ببهجة عظيمة، وبعد أن انتهى نظر الحكيم إلى الملعقة التي يحملها الفتى وقال له: لكن أين ذهبت قطرتا الزيت؟ أجابه الفتى بخجل: لقد انشغلت بما رأيته من جمال في القصر حتى انسكبت مني قطرتي الزيت. قال له الحكيم: لقد جئت تسأل عن سر السعادة في الحياة، وهذا السر يكمن في الاستمتاع بجمال الحياة من حولك والحفاظ على قطرتي الزيت اللاتي يمثلن الصحة والستر. وبهذا التوازن ستصل إلى السعادة المنشودة.

اقرأ أيضًا: الطريق إلى تحقيق الذات في الحياة

نحن لا نملك الأشياء، بل هي ما تملكنا

الحياة الشخصية والعمل
اقتباس من باولو كويلو

أليست قصة طفولية نوعاً ما؟ نعم إنها كذلك، لكن بها شيء من الواقع. يقول باولو كويلو:

“يمكنك أن تفعل أي شيء.. ولكن ليس كل شيء”

أنا لا اتفق مع هذا الاقتباس، ولكني أفضل هذا:

“يمكنك أن تفعل كل شيء، وتحصل على كل شيء.. ولكن ليس دفعة واحدة”

يمكنني القول بأن 50% من السعادة تتمثل في أن تكون سعيداً بما لا تملكه، والنصف الآخر ليس الاستمتاع بما تكرس له طاقتك فحسب، بل فهم سبب أهميته بالنسبة لك. انتظر لحظة وفكر في هذا الأمر.

تخيل أنك تملك شركة ضخمة ذات رأس مال ضخم، وسيارة فارهة، وقصر مشيد.. هل تعتقد أن ملكيتك لهذه الأشياء ستجعلك تنام ليلاً.. بالطبع لا يمكنك ذلك خوفاً على مالك وقلقك عليه. وهل تعتقد أنك وصلت إلى هذه الثروة الضخمة دون التضحية بكل الأشياء الأخرى في الحياة كالعائلة والأصدقاء والصحة. وهل في النهاية تشعر بالفخر والاعتزاز والرضا عن الذات بعد تحقيق هذا الهدف. إذن عليك أن تكون سعيداً لأنك لا تمتلك الكثير من الأشياء وبهذا ستكون حصلت على نصف السعادة.

يتمثل النصف الآخر في تكريس وقتك لعمل تحبه، وإياك أن تصدق مثل هذه المقولات التي تخبرك بحب ما تعمل حتى تعمل ما تحب. إنها مجرد كذبة لإلهائك والسير بك بعيداً عن عمل ما تحبه والاستمتاع به. انظر حولك يا عزيزي وقل لي: كم شخص تعرفه يشعر بالرضا والسعادة في وظيفته أو عمل أو حتى يستمتع به؟ اعتقد الجواب معروف.

اقرأ أيضًا: هل تبيع كتب التنمية البشرية الأوهام للناس؟

نظرية الموقد

ماذا تقول نظرية الموقد
نظرية الموقد ذو الشعلات الأربع

إننا نتحدث عن تحقيق التوازن في الحياة، حتى نصل إلى حالة السعادة المنشودة. لكن التوازن في الحياة غير واقعي بقدر ما هو غير عملي. فكر في الأمر. هل سمعت من قبل عن نظرية الموقد ذي الشعلات الأربع[1] التي اقترحها جيمس كلير؟

تخيل أن حياتك تشبه أحد تلك المواقد القديمة التي تعمل بأسطوانة الغاز. هذا الموقد لديه أربع شعلات، هل تتذكر ماذا يحدث إذا أردت وضع أربع مقالي للطهي في نفس الوقت؟ نعم، لن يكن هناك ما يكفي من الطاقة لإشعال الشعلات الأربع معاً لدرجتها القصوى. أي سيتوزع الغاز على الشعلات الأربع وسيظل اللهب في حالة النصف تقريباً أو أقل قليلاً. أما إذا قمت بالطهي على شعلة واحدة، فلن تكن هناك مشكلة، حيث يتركز الغاز في هذه الشعلة ليصل إلى أقصى حد من اللهب.

لقد ظهرت المشكلة فقط عندما أردت توزيع الغاز المحدود الذي تقدمه لك أسطوانة الغاز على الشعلات الأربع. فإذا أردت زيادة اللهب عند شعلة عليك إطفاء أخرى. يمكن تمثيل الحياة بهذا الشكل. هذا ما تقوله نظرية الموقد ذي الشعلات الأربعة. حيث تمثل كل شعلة من هذه الشعلات مجالات الحياة. هذه الجوانب هي التي تشكل التحدي المتمثل في معرفة كيفية إدارة اللهب أو التعامل معه، وهي جوانب الحياة التي يجب علينا إدارتها جيداً لنكون سعداء:

  • الصحة.
  • العمل.
  • العائلة.
  • الأصدقاء.

تعلمنا نظرية الموقد ذو الشعلات الأربع أنه لكي تنجح في ت عزيز مجال واحد من حياتك، عليك أن تخفض مستوى إحدى الشعلات الأخرى. إذا كنت تريد الوصول لأقصى لهب في شعلة معينة، فسيتعين عليك بالتأكيد تقليل شدة الشعلات الأخرى أو إطفائها.

اقرأ أيضًا: ماذا يعني النجاح الحقيقي؟

التوازن بين العمل والحياة الشخصية

نظرية الموقد
العمل والحياة الشخصية

إن المفهوم الشهير المتمثل في محاولة تحقيق التوازن بين عملك وحياتك الشخصية قد أضر أكثر مما نفع. ففي بعض الأحيان يطلب منك الجسم التركيز قدر الإمكان (تركيز عقلك وطاقتك وكل ما لديك) ليتناغم تماماً مع مشروع عمل جديد، أو ربما علاقة، أو ربما تحسين صحتك. لماذا عليك أن تضيع هذا الانسجام لتبحث عن التوازن الشهير الذي يردده لك المجتمع باستمرار؟ ماذا سيحدث إذا وضعت بيض أكثر في نفس السلة مقارنةً بالسلتين الأخريين.

إننا نقول في أعماقنا أننا نريد التوازن في الحياة لأننا نخشى ارتكاب الأخطاء. نخشى أن يؤدي بنا إهمال مجالات معينة والتركيز على تحقيق الأهداف الشخصية إلى الفشل. فلا يزال تحقيق التوازن بين مجالات الحياة المختلفة بمثابة دفاع عاطفي. إنه يُشبه الخوف من منح زوجتك مساحة كبيرة في حياتك، لأنك تخشى أنها لن تحب قضاء الكثير من الوقت معك.

لا نريد التقليل من شأن عائلتنا وأصدقائنا وصحتنا وعملنا كثيراً للتركيز على شيء واحد فقط لأننا نخشى فقدان عادات معينة ستصبح لاحقاً غير قابلة للاسترداد، وسنصبح بنفس القدر من المحتاجين. ولكن ماذا ستفعل إذا طلب منك جسدك أن تتقبل مرحلة جديدة من حياتك؟ هل ستبحث عن التوازن؟

هل تبحث عن التوازن؟

عليك أن تعلم جيداً أنه إذا كنت تريد الوصول إلى القمة في حياتك المهنية وفي زواجك، فستتأثر صحتك وصداقاتك. وإذا كنت تريد أن تنجح كأب مع عادات صحية رائعة، فمن المنطقي أن عملك سيعاني. ربما تكون الغريزة الأولى لدى البشر حتى لا يطغى مجال على آخر هي ضبط جميع الشعلات بحيث يكون اللهب منقسماً بالتساوي (التوازن) إلى حد ما، ولكن بعد ذلك سيتعين علينا ببساطة أن نقبل أننا لا نستطيع تعزيزها. ولن يكون لدينا الوقت أو الطاقة اللازمة للحفاظ على العادات التي نحتاجها في جميع المجالات أو خلق عادات جديدة، ولا يمكننا حتى الاستفادة منها.

نحن هنا مضطرون للإجابة على سؤال: هل أفضل أن أعيش حياة غير متوازنة، ولكنني أقوم بعمل جيد في منطقة معينة؟ أو هل أريد أن أعيش حياة متوازنة، ولكني أشعر أنني لن أصل إلى إمكاناتي الكاملة أبداً؟

لا أعتقد أنه من قبيل الصدفة أن هؤلاء المشاهير من مديري الشركات أو رجال الأعمال لديهم مثل هذه الحياة العاطفية الكارثية. وربما يكون هناك من استطاع أن يحافظ على كليهما، ولكن على حساب الشعلات الأخرى: الصحة والأصدقاء.

اقرأ أيضًا: هل نصبح أكثر حكمة وشجاعة كلما تقدمنا في العمر؟

استراتيجيات لتحقيق التوازن في مرحلة جديدة في الحياة

التوازن بين العمل والحياة
استراتيجيات تحقيق التوازن

دعونا نتقبل مرة واحدة وإلى الأبد أننا لا نستطيع أن نكون في أفضل حالاتنا في جميع مجالات حياتنا. أننا لا نستطيع الوصول إلى القمة في كل شيء. فوقتنا محدود وطاقتنا محدودة، مما يجعل كل خيار له تكلفة إما الوقت أو الطاقة، إما تكلفة جسدية أو عقلية.

ذكر جيمس كلير ثلاث استراتيجيات لإدارة هذه المجالات:

التفويض

التفويض في نظرية الموقد يعني تفويض البعض للقيام ببعض المهام نيابة عنا، وهذا يشبه الاقتراض من الآخرين بعضاً من غازهم، أو وضع عودين كبريت معاً لجعل اللهب أكبر قليلاً. يقوم رواد الأعمال بتفويض أجزاء من المشروع إلى فريق مدفوع الأجر من الموظفين حتى يتمكن رواد الأعمال من تحرير مساحة في يومهم لتكثيف لهب الشعلات الأخرى. أو لصنع شعلة عظيمة في موقد ريادة الأعمال لأنه هدفهم الأهم، ولا يريدون حتى النظر إلى المجالات الأخرى من حياتهم. لذا نرى بعض الآباء يفضلون ترك أطفالهم في الحضانة أو إلحاقهم بمدرسة لقضاء ست ساعات في اليوم. إنهم يفعلون ذلك حتى يوفروا مساحة لأعمالهم.

يبدو التفويض أمراً رائعاً للوهلة الأولى، لكننا نعطي قوة الغاز واللهب لأطراف ثالثة، ولا يغيب عنا ما يمكن أن يؤدي مثل هذا الأمر، فإخراج الآباء أنفسهم من هذه المعادلة لتوفير وقتهم يؤدي إلى تعليم أطفالهم وترويضهم من قبل التعليم الرسمي، هذا بالإضافة إلى معاناة الآباء فيما بعد، نظراً للتخلي عن أطفالهم وهم في أشد الحاجة إليهم. إن مثل هذا التفويض له مخاطر جمة، لذا علينا الحظر من استخدام التفويض في الأمور الجوهرية الهامة.

استغلال القيود

يجب أن نعلم أن الاهتمام الذي نوليه لأمر ما هو أكثر أهمية من الوقت المتاح لنا. لدينا جميعاً نفس ال 24 ساعة في اليوم، ولكن القليل منا فقط من لديه القدرة على الاستفادة منها. وبدلاً من الجلوس وتمني أن يكون لدينا مزيداً من الوقت (وهو أمر مستحيل)، فمن المنطقي أن نحقق أقصى استفادة من هذا الوقت. ببساطة، يمكننا قبول أن لدينا عدد محدود من البرتقال، ولكن في الوقت ذاته يمكننا عصره أكثر للحصول على كمية أكبر من العصير.

إذا افترضت أنني لا أستطيع العمل مشروعي الجانبي إلا لمدة ساعتين يومياً ولمدة خمسة أيام في الأسبوع، فكيف أتأكد من حصولي على أكبر قدر من المال؟ وإذا افترضت أن لدي ساعتين فقط لممارسة التمارين الرياضية في الأسبوع، فما هي التمارين التي يمكنها منحي أقصى فائدة والتزام لاكتساب كتلة عضلية بشكل أسرع؟

تجعلك هذه الأسئلة تركز على الأشياء الإيجابية التي يمكنك من خلال تحقيق أقصى استفادة من الوقت المتاح لك، بدلاً من القلق والتفكير السلبي في عدم وجود ما يكفي من الوقت. بينما تساعدك هذه القيود على تحسين أداءك والتوقف عن المماطلة والتسويف.

نحن نعلم جيداً أن القيود تساعدنا على أن نكون أكثر إنتاجية، سواء فرضت نفسها أم لا. يوضح لنا قانون باركنسون[2] كيف تتوسع مواعيد التسليم لدينا بقدر الوقت التي نملكه. بمعنى أنه إذا كان لديك أسبوعين للقيام بمهمة معينة، فمن المرجح أنك ستنتهي منها مع اقتراب نهاية هذين الأسبوعين بدلاً من بدايتهما.

تخيل شخصين لهما نفس الفعالية تماماً، ولكن أحدهما لديه 10 ساعات يومياً لفعل شيء ما والآخر ساعتين. منطقياً، الشخص الذي سيتقدم في هذا المجال سيكون هو الذي لديه المزيد من الوقت، لأنه قرر (بوعي أو بغير وعي) تقليل النيران الأخرى على موقده.

مواسم الحياة

تلك هي الاستراتيجية الثالثة لإدارة شعلاتك في نظرية الموقد، فكما أن للحياة مواسم كذلك يمكنك فعل نفس الشيء في حياتك. بمعنى تقسيم مجالات الحياة إلى موسم للعمل وموسم للعائلة وموسم للأصدقاء وموسم للصحة. فعندما تكون في العشرينات أو الثلاثينيات من عمرك وليس لديك أطفال، قد يكون من الأسهل الاهتمام بصحتك ومطاردة طموحاتك المهنية، ليصبح موقدي الصحة والعمل في أقصى درجة من اللهب. وبعد بضع سنوات، قد تكوّن عائلة وفجأة ينخفض مستوى الموقد الصحي إلى درجة الغليان البطيء بينما يحصل الموقد العائلي على المزيد من الغاز. يمر عقد آخر وقد تتمكن من إحياء علاقاتك مع أصدقائك القدامى أو متابعة فكرة العمل التي كنت تؤجلها.

هل من المنطقي أن تكون عائلتك وابنك وزوجتك في أمس الحاجة إليك، وتقول “حسناً، الآن أقضي 12 ساعة يومياً في العمل على مشروعي”؟! أما الشيء المثير للاهتمام هو أنه يبدو أن الحياة نفسها هي التي تضعنا في مكاننا. ففي بعض الأحيان عندما تركز على مشاريعك تجد الشريك المثالي الذي تبحث عنه، ويخبرك جسدك نفسه أن تمنح نفسك (جسداً وروحاً) لسقي شيء يمكن أن ينمو حتى يصبح شجرة عمرها قرن من الزمان.

ليس علينا أن نتخلى عن أحلامنا إلى الأبد، ولكن يمكننا أن نوقفها مؤقتاً، وفي أغلب الأحيان ستنتظرنا، ولكن فصول الحياة لنا تفعل ذلك. إنها واحدة من الاستراتيجيات التي يمكن أن تعمل بشكل أفضل.

اقرأ أيضًا: كيف تكون أكثر حزماً في سلوكك وقراراتك؟

أنواع مجالات الحياة الشخصية

التوازن بين العمل والحياة
مجالات الحياة الشخصية

لاحظ أن نظرية الموقد تمثل مساحات الشعلات الأربع بالنيران، لكننا في كثير من الأحيان نركز على لهب كل موقد دون أن ندرك أننا نمر بالحياة بأسطوانة غاز فارغة. إنها تركز على رغبتنا في التحكم في الغاز، والنظر إلى قوة كل لهب لمعرفة ما يمكننا تقليله أو زيادته، في حين أنه في الواقع لن يوجد لهب يمكن إشعاله وزيادته دون أن يكون هناك غاز. لذا فإن مهمتنا الأولى في كل مجال من هذه المجالات هي تخزين ما يكفي من الغاز حتى نتمكن من إدارته بشكل جيد.

يبدو مثالياً أنك على استعداد لموازنة شعلة علاقاتك لدمجها مع جوانب أخرى من حياتك، لكن هل لديك علاقات جيدة في البداية؟ من الجيد أن تقول إنك تريد علاقة صحية حتى تتمكن من دمجها جيداً مع العمل والأصدقاء وكل تلك الأشياء. ولكن تأكد في البداية من حصولك على مثل هذه العلاقة. تساعدنا نظرية الموقد ذو الشعلات الأربعة على فهم كيفية إدارة الأصول العاطفية التي لدينا بالفعل في حياتنا.

العلاقات

تعتبر العلاقات بشكل عام (الأصدقاء، العائلة، شريك الحياة..) هي المجال الذي له التأثير الأكبر على حياتنا. تخبرنا أطول دراسة عن السعادة أجرتها جامعة هارفارد[3] بهذا الأمر. حيث تابع فريق البحث أكثر من 700 رجلاً لمدة 80 عاماً وخلصت إلى أن العلاقات الوثيقة وليس المال أو الشهرة هي ما تجعل الناس سعداء طوال حياتهم. ولم تؤثر هذه العلاقات على سعادتنا فحسب، بل على طول عمرنا أيضاً.

تؤكد الأدلة كذلك أن الصداقات والحب ولا يتعارضان، ففي دراسة[4] أجريت منذ عقدين من الزمن، تبين أن الأشخاص المتزوجين الذين تتراوح أعمارهم بين 22 و79 عاماً ولديهم صديقين مقربين على الأقل (أي صديق واحد على الأقل غير شريكهم)، لديهم مستويات أعلى من الرضا عن الحياة. وهم أكثر احتراماً للذات، ولديهم مستويات أقل من الاكتئاب مقارنة بأولئك الذين يعتبرون شريك حياتهم هو الصديق الوحيد لهم.

يقول فريدريك نيتشه:

“ليس غياب الحب، بل غياب الصداقة هو ما يجعل الزواج تعيساً”.

الصحة

ما لا أفهمه كثيراً هو الأهمية الضئيلة التي نوليها للصحة، باعتبارها واحدة من أكثر المواقد إهمالاً في نظرية الموقد على الإطلاق. اعتقد أنه إذا لم تكن لديك الصحة، فلن يكون لديك أي شيء على الإطلاق، ونشير إلى الصحة هنا بشقيها الجسدي والنفسي. ولكننا لا نتحدث عن الصحة العامة التي تعني ممارسة التمرينات الرياضية المكثفة والتدريب المستمر، لكننا نتحدث عن المشي على سبيل المثال، فهل تعلم أن المشي يمكنك من تحريك جميع عضلات جسدك، منا يساعدك على تنظيم أفكارك، وتخليصك من المشاعر السلبية واللحظات المشحونة عاطفياً.

العمل

وأخيراً العمل الذي نال مثل هذه السمعة السيئة في السنوات الأخيرة. من الطبيعي إذا كان الناس يكرهون ما يفعلونه، فهم بعيدون عن العثور على الوظيفة المثالية لهم. لكن ماذا تعني الوظيفة المثالية؟ إنها تعني استمرارك ورغبتك في فعل الشيء نفسه عندما يصبح عمرك مائة عام. إذا كنت تحب عملك، ستشعر بأنه أصبح جزءً منك، حتى ولو يجعلك تتطور بنسبة 1% يومياً. الحياة عبارة عن مراحل، وإذا كنت تستمتع بما تفعله 8 ساعات يومياً كالطفل، فلماذا تشعر بالذنب حيال ذلك؟

يصبح التوازن في الحياة ضرورياً فقط عندما لا يكون لديك ما يكفي من النار بداخلك. يجب أن يكون الهدف حالياً بالنسبة للبعض هو إعادة ملء أسطوانة الغاز. لتتمكن من ذلك، اضبط شعلة كل مجال من مجالات حياتك وفقاً للمرحلة أو الوقت الذي تشعر فيه أنك تريد الطهي.

مراجع

[1] The Downside of Work-Life Balance.

[2] What Is Parkinson’s Law?

[3] Good genes are nice, but joy is better.

[4]Relationship quality profiles and well-being among married adults.

وائل الشيمي

كاتب وأديب بدأ مسيرته الأكاديمية في مجال الصحافة، حيث حصل على بكالريوس في هذا المجال، وقاده شغفه بالإنسانية إلى دراسة علم النفس والفلسفة، وقد ساعدته دراسته وقراءاته في فهم أبعاد الشخصية البشرية وتعقيداتها. في روايته "الأجنحة السوداء" صور قضايا الوجود والتحديات النفسية التي يواجهها الإنسان في رحلة بحثه عن الإله، في سياق سردي مشوق يحمل في طياته تأملات فلسفية حول الحياة والموت، الحرية والقيود. كما أطلق في مجموعته القصصية "علامات لا تُمحى" مجموعة من القصص التي تتناول الجوانب المظلمة من التجربة البشرية، تاركاً آثارًا لا تُمحى في ذهن القارئ. إلى جانب أعماله الروائية والقصصية، ساهم الكاتب بالعديد من المقالات النقدية والحوارات الفكرية في الصحف والمجلات والمواقع الإعلامية، حيث شكلت كتاباته مساحة للتفكير والتحليل حول قضايا ثقافية واجتماعية معاصرة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

دعمك يهمنا ❤️

نحن نعمل بجد لتقديم محتوى مجاني ومفيد لك. هل يمكننا الاعتماد على دعمك بتعطيل مانع الإعلانات؟ شكرًا مقدمًا!