أسلوب حياة

النضج الحقيقي: رحلة نحو الفهم العميق للذات والعالم

التقدم في السن عملية غريبة، يطلق عليها البعض اسم “النضج” أو إذا كانت نظرتك مختلفة ربما تسمي الأمور بمسمياتها فتطلق عليها اسم “الشيخوخة”. قال لي صديقي ذات مرة عبارة من تلك التي تظل عالقة في الذهن لفترات طويلة: عندما تكبر ستكون أكثر حكمة وشجاعة، وتدُرك معنى النضج الحقيقي. ولا أنكر أنني كنت مؤمناً بذلك في مرحلة معينة من الحياة. مرت عشر سنوات وأكثر منذ أن سمعت تلك العبارة، وكلما تقدمت في العمر أكثر كلما أدركت خطأها. فماذا يعني النضج الحقيقي؟

الحكمة والشجاعة

يختبر الإنسان العديد من التجارب طوال طريق حياته. وكلما تقدم في العمر يكتسب معارف أكثر. وهنا قد يتخيل البعض أنه كلما عرف أكثر زادت معرفته، بل على العكس من ذلك، فكلما عرف الإنسان أكثر كلما شعر أنه لا يعرف. ويذهب من جديد للبحث عن معارف جديدة في محاولة لإشباع جوعه المعرفي. هذا الأمر يشبه تماماً الشرب من ماء البحر فإذا شربت منه أكثر ازدت عطشاً.

أما بالنسبة للشجاعة فهي شيء يتركك مع الوقت، كما يفقد الجسم طاقته الطبيعية وحيويته. في مرحلة المراهقة والشباب كانت الشجاعة واحدة من الصفات الأكثر بروزاً في الشخص، فلم يكن يخشى شيئاً أو يهابه، لكن كلما تقدمت في العمر تصبح أكثر خوفاً على حياتك وما تملكه.

انتحال الحياة

المخاطرة في الحياة
النضج العقلي والفكري

كانت السنوات الطويلة تمر أمامي وأنا أرى معاناة الكثير ممن حولي يمرون بمرحلة الشيخوخة، وأرى انعكاس هذه المرحلة في مواقف وعادات أولئك الذين أتفاعل معهم من وقت لآخر. وكونك زائراً للحياة اليومية للآخرين يمكنك رؤية الخراب الناجم عن هذه العادة المتجذرة بين البشر والتي تتمثل في “انتحال الحياة” أو محاولة أن تعيش حياة طبيعية. فلم أرى في حياتي شخصيات تعيش حياتها الطبيعية إلا من رحم ربي. إذا كنت مثلي لا تتعب أبداً من الملاحظة ربما كنت قد لاحظت هذا الأمر.

في كثير من الأحيان اسمع عبارات من قبيل نحن رجال وعلينا أن نكافح من أجل الوصول إلى هدفنا. علينا أن نتحلى بالشجاعة ونسخر طاقتنا ورغبتنا في الوصول إلى العظمة، لنترك إرثاً عظيماً من بعدنا. لكن الحقيقة هي أنه عندما تقترب أكثر ترى أن معظم الناس لا يحلمون حتى عن بعد بأي شيء على الإطلاق. نظراً لأن أفكارهم وأسبابهم هشة وغير مؤكدة، فقد أنشأوا سقالات على عجل لمواجهة حياة يبدو أنه لم يكن لديهم الوقت لاختيارها. على سبيل المثال، العمل، الزواج، إنجاب الأطفال، شراء منزل، شراء سيارة.. إلخ.. وكأن كل هذا جاءهم من الخارج بطرد بريدي دون أن يطلبوه، وكأن حياتهم قد تم إعدادها مسبقاً وتم وضعهم فيها.

لا مخاطرة ولا شجاعة

مع مرور الوقت نرى الحماس يموت، ونرى عدد الأشخاص الذين تجمعنا معهم اهتمامات معينة يتخلون عنها وعنا، فلم يعد بإمكانهم الركض بعد الآن. إنهم متعبون، محبطون، محطمون، يحملون أشياء كثيرة في أذرعهم. لديهم الكثير مما يجب حمايته من السقوط لأنهم أصبحوا الآن لا يملكون أنفسهم. ينمو الخوف عندما تكون مسؤولاً عن حياة الآخرين، فلا يمكنك القفز بعد الآن لأنك إذا سقطت فستجر الآخرين معك. ومن هنا تبدأ حياة أكثر هدوءً لا مخاطرة فيها ولا شجاعة. تغفو بسهولة أكبر، ولم يعد العالم مكاناً يكون فيه القتال والموت والفوز أو الهزيمة هو الهدف، بل مكاناً بأرضية ناعمة وزوايا منجدة. أنت ترى ذلك وتفهمه جيداً ولا تملك الشجاعة لتغييره، وهذا ما يسمونه النضج!

حينما تتقدم في العمر لم يعد بإمكانك أن تضحك بلا مبالاة، أو تغامر بأخذ إجازة من كل ما يحيط بك، وتنظر إلى ماضيك بأعين حزينة تتحسر على ما فاتك وما كان يمكن أن يكون. تحتقر حماقة الشباب وغموضها معتقد أنها كانت أحلاماً ساذجة، وتسخر من جهود من تراه يسعى لتحقيق أحلامه ولا يزال يقاتل على حلمه وتنعته بالأحمق والمجنون والمغرور، وترتشف بعضاً من قهوتك وتخبر نفسك أن ما أنت عليه هو ما يجب أن تكون عليه الحياة بعد سن معينة. والمثير للدهشة أنك تعاني من عدم وجود مكان لك في العالم.

النضج الحقيقي وصراع الحياة

التقدم في العمر والنضج الحقيقي
كيف تواجه تحديات الحياة

قال عالم النفس الأمريكي ويليام جيمس إن أنواع التجربة الدينية متنوعة مثل الناس. وهذا صحيح في كل شيء. إن الرؤى والمواقف تجاه الحياة متنوعة، ولكنها تعتمد على كيفية نظرتنا لها وتفسيرها. ليست كل تجارب الحياة متشابهة مثل التجارب الدينية تماماً، وبالتالي لا يمكن أن تكون كل التفسيرات متشابهة. كل واحد منا بداخله مجموعة من الخبرات التي يجب عليه التعامل معها خلال حياته. فالحياة صراع بينك وبين نفسك وبينك وبين المحيط الذي تعيش فيه.

إن الحضارة البشرية بأكملها قائمة على الصراع والتنافس. يقول الله تعالى في قرآنه الكريم “ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد”. ولهذا السبب لا أفهم سبب سعي البعض لتحويل العالم إلى مكان سلس وتدجين البشرية فيه. صحيح أننا جميعاً نريد أن يختفي العنف والظلم، لكن أليس من المضر سلب العالم كل حججه؟ إن وجود الظلم لهو السبب الرئيسي لبحثنا عن العدالة، ووجود الحرب سبب سعينا إلى السلام، وهكذا لا تعرف الأشياء إلا بأضدادها. أليس من المنطق تعلم فنون القتال للدفاع عن أنفسنا؟ أنا لا أريد حتى التفكير في عالم يتدفق فيه كل شيء بسلاسة مروّضة، وخالٍ من أي نوع من الصراع أو المنافسة. أي نوع من البشر سنكون في مثل هذه الحضانة؟

إذا كان ما يسمونه النضج الحقيقي هو فهم غباء الآخرين والتسامح معهم، فمن الأفضل ألا تنضج، وإذا كانت عملية النضج الحقيقي تتطلب أن تفقد زخمك وتنظر باحتقار إلى أولئك الذين يؤمنون بأحلامهم، وتقنع نفسك بأنهم مجرد مجموعة من الحمقى ليس عليك ألا تنضج. إننا في الواقع نشير إلى مصطلح آخر، مفهوم مختلف لأن النضج الحقيقي هو الوصول إلى التطور الكامل، وأن تكون ذاتك في أوجها وفي أفضل حالاتها. ويمكننا القول إن النضج الحقيقي يعني الاستعداد لعيش الحياة، وليس الانتهاء منها.

وائل الشيمي

كاتب وأديب بدأ مسيرته الأكاديمية في مجال الصحافة، حيث حصل على بكالريوس في هذا المجال، وقاده شغفه بالإنسانية إلى دراسة علم النفس والفلسفة، وقد ساعدته دراسته وقراءاته في فهم أبعاد الشخصية البشرية وتعقيداتها. في روايته "الأجنحة السوداء" صور قضايا الوجود والتحديات النفسية التي يواجهها الإنسان في رحلة بحثه عن الإله، في سياق سردي مشوق يحمل في طياته تأملات فلسفية حول الحياة والموت، الحرية والقيود. كما أطلق في مجموعته القصصية "علامات لا تُمحى" مجموعة من القصص التي تتناول الجوانب المظلمة من التجربة البشرية، تاركاً آثارًا لا تُمحى في ذهن القارئ. إلى جانب أعماله الروائية والقصصية، ساهم الكاتب بالعديد من المقالات النقدية والحوارات الفكرية في الصحف والمجلات والمواقع الإعلامية، حيث شكلت كتاباته مساحة للتفكير والتحليل حول قضايا ثقافية واجتماعية معاصرة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

دعمك يهمنا ❤️

نحن نعمل بجد لتقديم محتوى مجاني ومفيد لك. هل يمكننا الاعتماد على دعمك بتعطيل مانع الإعلانات؟ شكرًا مقدمًا!