أسلوب حياةفلسفة

مساعدة الآخرين: كيف تمنح حياتنا معنى أعمق؟

العطاء هو النبض الذي يُبقي الإنسانية حيّة. الشعاع الذي ينير دروب القلوب المعتمة، والموسيقى الخالدة التي تعزفها أرواحنا عندما نمد يد العون للآخرين. ليست مساعدة الآخرين مجرد فعل نبيل نؤديه، بل هي لغة عالمية تنطق بها قلوبنا دونما كلمات. إنها الجسر الذي يربط بين الأحلام المتعثرة والأيادي التي ترفعها، وبين الضعف والقوة التي تمنحها. كيف لا تكون مساعدة الآخرين من أرقى صور الوجود، وهي التي تجعلنا نكتشف عمق إنسانيتنا؟

أسباب مساعدة الآخرين

لماذا نستمتع بمساعدة الآخرين؟ لماذا تتركنا تلك المساعدة بشعور من الرضا والمعنى والقيمة؟ عند النظر إليها بشكل موضوعي، دون أحكام مسبقة أو عواطف، فإن الأمر مثير للاهتمام؛ فالإيثار هو عمل إضافي لا يعود علينا بمصلحة مباشرة، بل في بعض الأحيان قد يضرنا فعلاً.

ومع ذلك، نحن جميعًا نقوم بذلك في لحظة ما، وإن لم يكن مع الجميع، ولا في كل شيء، وربما تكون تلك الاستثناءات والحدود هي ما يجعلنا نكتشف دوافعنا للاستمتاع بمساعدة الآخرين. إن القول بإننا نستمتع بمساعدة الآخرين لأننا نحبهم، أو لأننا اخترنا أن نكون داعمين، هو قطع نصف الطريق. فالحب والمبادئ ليسا سببًا نهائيًا، لأن لهما أيضًا أسبابًا.. نحن لا نحب الجميع، وعادةً ما يتطلب تضامننا توقع أن يكون متبادلًا، أو على الأقل ألا يكلف أكثر مما نتوقع. نحن لا نساعد لأننا نحب، بل إن الحب والمساعدة يسيران معًا. ويعززان بعضهما البعض، علاوة على ذلك، فإننا نتوقف عن مساعدة أولئك الذين لا يساعدونا عندما نحتاج إليهم، تمامًا كما نتوقف عن حب من لا يحبنا..

التعاطف الإنساني

التعاطف الإنساني
أهمية التعاطف بين البشر

تأتي المساعدة والحب من الاستعداد البشري للتعاطف والتعاون، وهي صفة لعبت بلا شك دورًا رئيسيًا في بقاء أسلافنا. إن نوع مثل نوعنا، الذي يعيش في قبائل ويملك قدرة محدودة على البقاء خارجها، يحتاج إلى الاستعداد للتعاون، حتى بدون مكافأة فورية. وهكذا، يتم تعزيز المجموعة، ولكن قبل كل شيء يتم إنشاء شبكة من الدعم المتبادل يمكن الاعتماد عليها في حالة الحاجة، وهذه الشبكة تزيد من شعورنا بالأمان أمام عدم اليقين في المستقبل..

من ناحية أخرى، فإن التعامل مع الأمر من وجهة نظر المبادئ يبدو أكثر تعقيدًا، ولا يبدو أنه يمكن اختزاله إلى تفسير بيولوجي. ربما تكون الأخلاق لها أساس بسيط – ما هو جيد هو ما يفيدنا، وما هو سيء هو ما يضرنا.. هذه هي النقطة الانطلاق المبسطة، لكن تطورها معقد ومتشابك ومتصاعد…

مساعدة الآخرين والسعادة

لا يكتفي معظمنا بما هو جيد، بل نطمح إلى ما هو أفضل. ونسعى لتوسيع هذه الطموحات لتشمل البشرية جمعاء، أو على الأقل إلى المجتمع القريب. نحن لا نتحدث عن أفراد محددين، فمن الواضح أن هناك تنافسًا وكراهية، ولكن حتى مع أعدائنا، نحن قادرون على التمييز بين ما هو عادل وما هو غير عادل، والتمسك به إذا بدا مناسبًا. قد لا نصل إلى تقديرهم، وقد لا نتمنى لهم سعادة كبيرة، لكن عمومًا لن نرغب لهم في البؤس أو الموت. والأهم من ذلك إذا وجدوا أنفسهم في تلك المواقف، فإن النفور نادرًا ما يمنعنا من مساعدتهم..

إن حب البشر هو الشكل الأكثر تقدمًا من الحب بالنسبة للعديد من القوانين الأخلاقية، بما في ذلك تلك التي تنتمي إلى بعض الديانات. وهذه الأخيرة تجعل من الرحمة، التي تفهم كحب غير مشروط، أحد محاور السعادة الذاتية. لقد ولدنا جميعًا بنفس الطريقة وسنموت جميعًا، لذا نرغب جميعنا في الوصول إلى السعادة وعدم المعاناة.. وعند النظر إلى الآخرين من هذه الزاوية، بدلاً من إدراك الاختلافات الثانوية… أشعر أنني أمام شخص يشبهني تمامًا. بهذه الروح، نصل إلى أعلى درجات الإنسانية.. نحب المساعدة لأنها تجعلنا نشعر بالوحدة بشكل أقل…

معضلات المساعدات

فوائد مساعدة الآخرين
مزايا مساعدة الآخرين ومخاطرها

هل يجب علينا دائمًا مساعدة مَن يحتاج المساعدة؟ بالطبع، وخاصةً عندما نحبه، ولكن ليس بأي طريقة؛ فالمساعدة قوة، وبالتالي لها مخاطرها، وموانعها، وآثارها الجانبية. هناك مساعدات قد تضر، سواء بمن يتلقاها أو بمن يقدمها..

هناك مساعدات تخفي أشواكًا تحت بتلاتها اللطيفة. وهناك أيضًا نداءات استغاثة خادعة، لا تهدف إلا إلى جذب المتفرجين أو الضحايا. وهناك أشخاص يجوبون العالم بحثًا عمن يساعدونه ليشعروا بالقوة دون أن يخوضوا مخاطر الحب..

لا أعتقد أنه يمكن تقديم المساعدة بصدق دون قدر من التواضع؛ ففي كل عونٍ يلوح دومًا شيء من التكبر. تتغير طبيعة التفاعل، فيأخذ أحدهم دور المحتاج، بينما يأخذ الآخر دور الأعلى. هناك من يزعم أنه يمتلك فائضًا من الحكمة، أو المال، أو القدرات، ويبدأ بتوزيع هذا الفائض على الآخرين، وهم كرماء ورحماء كما يبدو. وكان من المألوف بين سيدات المجتمع الراقي القيام بأعمال خيرية أو كفالة أطفال من بلدان فقيرة. يا له من أمر مختلف عن التضامن بين المتساوين، ذلك الذي يدفعنا إلى دعم بعضنا البعض لأن الطريق يصبح أسهل عندما نمشيه معًا! حاجتنا لبعضنا البعض هي ضمان: الآخرون يعلمون أنهم يمكنهم الاعتماد علينا، لأنهم يرون أننا نعتمد عليهم أيضًا..

الشعور بالقدرة

نحن ننمو ونشعر بأننا مفيدون عندما نقوم بالأشياء بأنفسنا، حتى وإن كلفنا ذلك مزيدًا من الجهد. تأتي كرامتنا من شعورنا بالقدرة، وعندما تفرض علينا المساعدة مثل إجبار طفلٍ على تناول طعام دون أن يكون جوعان، فإن ما يُمنح لنا ليس إلا شعورًا بالاضطرار والتعاسة. إذا لم يُسمح للناس أن يتعلموا بأنفسهم، أو طلب الدعم الذي يعتبرون أنهم بحاجة إليه، فإنهم يُربّون على العجز. “أنا بخير، وأنت في حال سيئ”: هكذا تلخص إحدى عبارات التحليل التفاعلي الموقف..

وماذا عن المساعدة التي يحتاجها البعض لكنهم لا يطلبونها، أو حتى يرفضونها؟ هناك من يبالغ في كبريائه ويرفض الاعتراف بأنه بحاجة لتعلم شيء من شخص يعرف، أو حتى أن يقبل المساعدة من شخص يملك ما ينقصه. هذا الشخص يحتاج إلى شيء من التواضع، ليس فقط للحصول على ما ينقصه، بل لتعلم قبوله: فبالاعتراف بهذه الحاجة نتمكن من بذل الجهد – حتى وإن كان محرجًا أو مقلقًا – للتعلم.

مساعدة الآخرين بين التوجيه والحرية

السعادة في مساعدة الآخرين
لماذا نساعد الآخرين

لكن من الصحيح أننا لا نشعر دائمًا بالقدرة على الاعتراف بضعفنا، أو طلب الدعم الذي لا نستطيع توفيره لأنفسنا. أحيانًا نكون محاصرين، وأشد ما نحتاجه هو التوجيه؛ وأحيانًا نكون في حالة يأس تجعلنا عاجزين عن رؤية الحل أو التوجه إليه. الجهل، أيضًا، قد يكون متهورًا: ربما نعرض أنفسنا لمخاطر خطيرة. في مثل هذه الحالة، يجب على الحب أن يكون جريئًا: أن يهزنا، أو يتولى زمام الأمور، أو يجبرنا قليلًا على التغيير. على الأب أحيانًا أن يفرض العادات الجيدة التي لا يستطيع الابن فرضها على نفسه. وفي الصداقة، أحيانًا تكون الجرأة ضرورية أيضًا..

لكن قبل الوصول إلى هذا، يجب استنفاد كل سبل الإقناع اللطيف. من يضمن لنا أننا لا نفرض أخطاءنا؟ هل نحن متأكدون من فهمنا الكامل، ومن صحة معاييرنا؟ فرض النجاة قد لا يكون إلا فعلًا متغطرسًا. الحب دائمًا صعب، لكنه يكون أكثر صعوبة عندما يستلزم فرض شيء ما. أحيانًا يجب القيام بذلك. لكن، في كثير من الأحيان، تكون المساعدة الحقيقية في ترك الآخر يخطئ ليتعلم بنفسه..

وهكذا، تبقى مساعدة الآخرين البذرة التي تزرع الأمل في أرض الحياة، فتثمر أشجارًا وارفة من المحبة والإخاء. إنها النهر الذي لا ينضب، يحملنا جميعًا على ضفاف الإنسانية في مركبٍ واحد. فكل يد تُمد لرفع سقطة، وكل كلمة طيبة تُقال لتهدئة وجع، هي شعلة تضيف نورًا إلى ظلام هذا العالم. لنجعل من المساعدة نهجًا لا نتخلى عنه، ووصيةً نحملها في أعماقنا، لأننا حين نساعد الآخرين، نكون في الحقيقة نعيد تشكيل أرواحنا، ونُزهر قلوبنا بالعطاء الذي لا ينتهي.

وائل الشيمي

كاتب وأديب بدأ مسيرته الأكاديمية في مجال الصحافة، حيث حصل على بكالريوس في هذا المجال، وقاده شغفه بالإنسانية إلى دراسة علم النفس والفلسفة، وقد ساعدته دراسته وقراءاته في فهم أبعاد الشخصية البشرية وتعقيداتها. في روايته "الأجنحة السوداء" صور قضايا الوجود والتحديات النفسية التي يواجهها الإنسان في رحلة بحثه عن الإله، في سياق سردي مشوق يحمل في طياته تأملات فلسفية حول الحياة والموت، الحرية والقيود. كما أطلق في مجموعته القصصية "علامات لا تُمحى" مجموعة من القصص التي تتناول الجوانب المظلمة من التجربة البشرية، تاركاً آثارًا لا تُمحى في ذهن القارئ. إلى جانب أعماله الروائية والقصصية، ساهم الكاتب بالعديد من المقالات النقدية والحوارات الفكرية في الصحف والمجلات والمواقع الإعلامية، حيث شكلت كتاباته مساحة للتفكير والتحليل حول قضايا ثقافية واجتماعية معاصرة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

دعمك يهمنا ❤️

نحن نعمل بجد لتقديم محتوى مجاني ومفيد لك. هل يمكننا الاعتماد على دعمك بتعطيل مانع الإعلانات؟ شكرًا مقدمًا!