أسلوب حياة

الأحكام المسبقة: كيف تؤثر مشاعرنا في رؤيتنا للآخر؟

نعيش في عالم تمتاز فيه المشاعر والانطباعات بالعفوية، حيث تتشابك القناعات مع العواطف، وتتشكل الأحكام وكأنها مرايا تعكس دواخلنا أكثر مما تعكس حقيقة الآخرين. كم من مرة سارت بنا الحياة على دروب التحيز دون أن ندري، أو ربما دون أن نرغب في التمعن؟ تلك الأحكام المسبقة التي تتخفى وراء أسباب مصطنعة، تظل مرآةً لعواطفنا الحقيقية، حتى وإن بدت لنا كقناعات راسخة. وبين أروقة العلاقات الإنسانية، تتأرجح هذه الأحكام بين الصداقات الحميمة والعداوات المتقدة، لتجعلنا نتساءل: أيمكن أن تكون مشاعرنا هي الحَكَم الوحيد؟

قناعات غير عقلانية

مذهلة هي مدى قدرتنا على إقناع أنفسنا بصحة آرائنا. لا تعتمد الأفكار التي نكونها عن الآخرين في تعاملنا معهم على تقييمات دقيقة، بل على المشاعر التي يثيرونها فينا بشكل عفوي. وإذا لم ندرك ذلك في كثير من الأحيان، فذلك ببساطة لأننا لا نريد، أو لا نهتم، وكل ما في الأمر أننا نحتاج إلى تعزيز آرائنا فقط. ولهذا السبب، نخفي مشاعرنا الأولية تحت وابل من الأسباب التي ندعي أنها وجيهة.

نحن نبدأ من قناعة أنانية، بدائية، غير عقلانية، لكنها فعالة للغاية: إذا كنا نكره شخصًا ما، فذلك لأنه يستحق هذا. ثم نكرس أنفسنا لجمع الأدلة على فساده وانحرافاته. إنها ليست مهمة صعبة.. إذا ركزنا بما فيه الكفاية، يمكننا دائمًا العثور على شيء بغيض في أي شخص، خاصةً إذا كان هذا هو الشيء الوحيد الذي نبحث عنه، مع رفض أي إشارة إيجابية باعتبارها غير مهمة. والنتيجة النهائية، المصممة خصيصًا لتلبية أهوائنا، هي أننا نعكس ترتيب العوامل: ليست كراهيتي هي التي تجعل جاري مكروهًا؛ بل إن كراهيتي هي الدليل على أنه مكروه حقًا.

هذا التراكم من الأسباب، التي تكون في البداية مرتجلة ثم تترسب تدريجيًا لتصبح قناعات أكثر رسوخًا، يمنح افتراضاتنا العشوائية مظهرًا مصقولًا من اليقين. في النهاية، عندما يتعلق الأمر بالناس، يأتي الشعور أولًا؛ ثم يأتي الفعل لدعمه وإضفاء مظهر من الحقيقة عليه. عندما يتعلق الأمر بالآخرين، وخاصة إذا كانت علاقتنا بهم أكثر قربًا أو أهمية، فإن معظم تقييماتنا ليست أحكامًا، بل هي أحكام مسبقة.

الكراهية بين التحيز والتبرير

القناعات والأحكام المسبقة
الكراهية والتحيز

نحن مهتمون بالاعتقاد بأن منافسينا مكروهون، لأنه إذا لم يكن الأمر كذلك، ستنشأ الشكوك المزعجة بأننا نحن المكروهين (على الأقل بسبب إصرارنا على الكراهية). بل قد ندفع الآخر إلى التصرف بطرق مستفزة من خلال ازدرائنا، خداعنا، أو حتى توقعاتنا فقط حتى ينتهي به الأمر إلى التصرف بأسلوب شائن. إذا استفززنا شخص ما بما فيه الكفاية، يمكننا تحطيم صبره حتى وإن كان قديسًا.

وفي كل مرة نكتشف فيها إشارة جديدة تؤكد تحيزنا، نتعجل في الاستنتاج: “أرأيت؟ كنت على حق منذ البداية…” لقد دفعنا شخصًا إلى فقدان أعصابه بسبب وقاحتنا المستمرة، ولكن يكفينا لحظة واحدة يفقد فيها السيطرة لنؤكد أنه مجنون. ويبدو لنا بعد ذلك أن هذا الضعف يكشفه، فعندما يصرخ في وجوهنا نقول:

لا بد أنه يخفي شيئًا، لا بد أنه يحاول إسكات شيء فينا

ومع هذا الاستنتاج البسيط والمتحيز، نشعر بتأكيد صحة معتقداتنا. ومهما كثرت التبريرات التي قد يقدمها الآخر، سنظل نغمغم ونتنهد قائلين: “آه! مجرد أعذار!”..

من المثير للاهتمام ملاحظة كيف أن الأفكار الأكثر غرابة، بمجرد أن يتم التعبير عنها، تميل إلى تأكيد نفسها وتصبح متطرفة تدريجيًا. يكفي أن يسيء إلينا أحدهم مرة واحدة. إذا كانت تلك الإساءة تؤثر علينا بدرجة كافية، يصبح كل تفاعل جديد معه وكأنه إساءة جديدة. أحد الأساليب التي تدعم رأينا الأصلي هو تعميق المسافات.. كلما كان حضور الآخر أكثر سطحية، كان من الأسهل أن نملأه بالمعنى الذي يناسبنا.

“إنه يمر بجانبي دون أن يحييني”.. نلوم خصمنا في أذهاننا، دون أن نفكر أننا نحن أيضًا لم نوجه له التحية… “ينظر إليّ بحقد”… نتمتم في أنفسنا، بينما نحرقه بنظرتنا. ربما في يوم من الأيام عندما نكون في مزاج جيد، نقوم بلفتة مصالحة فاترة، ولكنها ستخيب أملنا دائمًا وتعيدنا فورًا إلى النفور الذي لم نتخلى عنه أبدًا. في تلك المرحلة، من المحتمل أن يكون الآخر في نفس موقفنا مقتنعًا بأننا نستحق كراهيته، ويجمع الأدلة التي تؤكد ذلك. وهكذا، يصبح جزءً من المهمة: لقد جعلناه يعمل لصالحنا، وقمنا بسحبه إلى منطقة العداء بيننا.

الأحكام المسبقة والتنافر المعرفي

الأحكام المسبقة على الآخرين
كيف يشكل التنافر المعرفي قناعتنا

وصف ليون فيستنغر بعبقرية هذه التصاعد في المشاعر، من خلال نظريته عن التنافر المعرفي. بمجرد أن تتشكل قناعة ما، يتآمر كل شيء فينا لتعزيزها: مشاعرنا، أفكارنا، أفعالنا… وبالتالي، فإن الشخص الذي نحبه، سنحبه أكثر مع مرور الوقت ما لم يهتز حبنا بتصرف مشين أو إذا كان لدينا سبب ما قوي لتغيير رأينا عنه. نحن نساعده بنشاط من خلال تصرفاتنا: عندما نبتسم له، سنشجعه على الابتسام.. عندما ندعمه علنًا، سنكسب تعاونه؛ عندما نقدم له المساعدة، سنحفز امتنانه… لا أقول إن كل ما يفعله الآخر هو مجرد استجابة لمحفزاتنا، أنا أقترح فقط أنه عندما نحبه، نجعل من السهل عليه أن يحبنا؛ ومع كل تعبير عن محبته، نؤكد أنه يستحق حبنا. ما ألمح إليه، هو أن طريقتنا في التفاعل تحفز استجابة الآخر وتضعها في صالح معتقداتنا.

الغموض والسحر في العلاقات الإنسانية

لكن لماذا تبدأ مثل هذه العلاقات ولا تفعل غيرها؟ ولماذا يفعل البعض ذلك بقوة أكبر من الآخرين؟ لماذا يتمادى البعض بينما تسقط أخرى على قارعة الطريق، أو تنتهي إلى قلب الطاولة ويتحول الصديق الحميم إلى عدو لدود أو العكس؟ هناك الكثير من الأسئلة للتفكير بها. ولا يمكننا القول إلا أن هناك تغييرات في المشاعر، وهامش من الغموض والسحر في العلاقات سواء الانجذابات أو العداوات. هل يمكن أننا نسميها غموضًا أو سحرًا بسبب تعقيدها؟

على أي حال، ما لا يمكن إنكاره هو أننا في بعض الأحيان نصبح عالقين في تلك الزوايا العاطفية، أو ننجرف مع تيارات الشغف، غالبًا دون أن ندرك ذلك، دون أن نلاحظ أن ما نعتبره أحكامًا هو في الحقيقة مجرد أحكام مسبقة، وأن ما نعتبره يقينًا هو مجرد عواطف. ومن الأسهل دائمًا رؤية ذلك في الآخرين بدلاً من رؤيته في أنفسنا. كم يصعب علينا أن نحرر أنفسنا من ذاتيتنا، وكم يبدو شاقًا أن نعارض أنفسنا ونشكك في يقينياتنا، ولو قليلًا، ولو لمرة واحدة! إذا فعلنا ذلك أو حاولنا على الأقل ربما تكون تجربة مثمرة! لماذا لا نمنح ذلك الشخص الذي نكرهه الفرصة ليكون صديقًا لنا ليوم واحد؟

في أعماقنا، يكمن صراع دائم بين عقولنا وقلوبنا، بين ما نعتقده يقينًا وما تحكمه عواطفنا. الأحكام المسبقة ليست سوى ظلال من مشاعرنا التي تعكس عالمنا الداخلي أكثر مما تعكس الواقع. ربما يكمن التحدي الحقيقي في مواجهة هذا الصراع بشجاعة، وإتاحة الفرصة لأنفسنا وللآخرين للخروج من قفص التصورات المسبقة. لنجرب يومًا أن نتعامل مع من نكرهه كأنه صديق، ولنعطِ للحب والعقل فرصة للحوار، فقد نفاجأ بما يمكن أن يقدمه لنا هذا التغيير البسيط.

وائل الشيمي

كاتب وأديب بدأ مسيرته الأكاديمية في مجال الصحافة، حيث حصل على بكالريوس في هذا المجال، وقاده شغفه بالإنسانية إلى دراسة علم النفس والفلسفة، وقد ساعدته دراسته وقراءاته في فهم أبعاد الشخصية البشرية وتعقيداتها. في روايته "الأجنحة السوداء" صور قضايا الوجود والتحديات النفسية التي يواجهها الإنسان في رحلة بحثه عن الإله، في سياق سردي مشوق يحمل في طياته تأملات فلسفية حول الحياة والموت، الحرية والقيود. كما أطلق في مجموعته القصصية "علامات لا تُمحى" مجموعة من القصص التي تتناول الجوانب المظلمة من التجربة البشرية، تاركاً آثارًا لا تُمحى في ذهن القارئ. إلى جانب أعماله الروائية والقصصية، ساهم الكاتب بالعديد من المقالات النقدية والحوارات الفكرية في الصحف والمجلات والمواقع الإعلامية، حيث شكلت كتاباته مساحة للتفكير والتحليل حول قضايا ثقافية واجتماعية معاصرة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

دعمك يهمنا ❤️

نحن نعمل بجد لتقديم محتوى مجاني ومفيد لك. هل يمكننا الاعتماد على دعمك بتعطيل مانع الإعلانات؟ شكرًا مقدمًا!