فلسفة

التفكير النقدي: الخطوة الأولى نحو وعي أعمق

هناك نوعين مختلفين من أنماط التفكير، فمن جهة نجد موقف التصديق الساذج الذي تتبناه بعض فئات المجتمع، ومن جهة أخرى نجد الشك الذي تتمسك به فئات أخرى.. وكأن الشك هو الطريقة الوحيدة الصحيحة للتفكير.. من المهم أن نشير إلى أن المسألة ليست في تحديد أي نمط من التفكير هو الصحيح، إذ أن هذا النوع من الأحكام يقع ضمن الأخلاق أو القيم، ومن الناحية الشكلية ضمن نطاق القانون.. في السطور التالية سنتعرف على التفكير النقدي والشك كأداتين جوهريتين في عقل الإنسان المعاصر، تمنحانه القدرة على التمييز بين الحقيقة والزيف حتى لا يقع ضحية للخداع أو ينجرف وراء أفكار غير مدروسة أو أحكام مسبقة.. سنستعرض بدقة ماهية هاتين الأداتين الفكريتين، وجذورهما الفلسفية، وطبيعة العلاقة بينهما، ثم نتوقف عند القيمة العملية والفكرية التي تقدمانها في الحياة اليومية، سواء على المستوى الشخصي أو المجتمعي، العلمي أو الأخلاقي..

ما هو التفكير النقدي؟

بادئ ذي بدء، سأقوم بتعريف التفكير النقدي. يمكن القول إنه يتمثل في عدم اعتبار تصوراتنا (وتصورات الآخرين) حقائق مطلقة. لنتخيل أننا التقينا في الشارع بشخصين يتحدثان بصوت عالٍ، وسمعنا أحدهما يقول بنبرة مقنعة بما فيه الكفاية: “السبب في تدهور اقتصادنا هو سوء الحكومة”..

ليس من الصعب سماع عبارات مثل هذه في أيامنا هذه، في شوارعنا، وفي أماكن عملنا، وفي العديد من الأماكن العامة والخاصة، في الأوقات المناسبة وغير المناسبة على حد سواء.. عند التعرض لمثل هذه الكلمات، يمكننا اتخاذ مواقف مختلفة.. ولكن بشكل أساسي يمكننا أن نتفق أو لا نتفق، أو ببساطة نتجاهل في أذهاننا هذا التناقض ونتخلى عن أي تفكير لاحق حول الموضوع.

التفكير النقدي هو الذي يدفعنا إلى التساؤل داخليًا عن مدى صحة ما سمعناه. وربما بعد تحليل سريع، نقرر ما إذا كنا نوافق أو لا نوافق على ما سمعناه، بل وربما نتساءل إن كنا قد أغفلنا بعض التفاصيل، أو إن كنا قد فهمنا بدقة ما قيل.. أما التفكير غير النقدي، فيقودنا إلى استبدال هذا التساؤل الداخلي بسلسلة من الحجج والتبريرات التي تدفع أذهاننا إلى التفكير في أمور أخرى، وتبقينا في حالة من الرضا أو التمسك الأعمى بالمعتقدات.

وبالعودة إلى المثال، فإن التفكير النقدي سيدفعنا لنسأل أنفسنا: هل هناك فعلًا تدهور في اقتصادنا الوطني؟ وإن وجد هذا التدهور، فهل سببه الوحيد حقًا هو سوء الحكومة؟ هل هناك فعلًا حكومة سيئة؟ هل توجد أسباب أخرى محتملة؟

تعريفات مختلفة

تعريف التفكير النقدي
تعريفات مختلفة للتفكير النقدي

يعرّف لويس ميرتز، وهو تربوي أمريكي بارز، التفكير النقدي بأنه:

عملية واعية ومتعمدة تستخدم لتفسير أو تقييم المعلومات والخبرات، مدعومة بمجموعة من المواقف والمهارات التي توجه القرارات المدروسة والإجراءات..

 

ويقول روبرت إينيس، عضو في جمعية فلسفة التعليم، عن التفكير النقدي بأنه:

تفكير انعكاسي وعقلاني يهدف إلى اتخاذ قرار بشأن ما يجب الإيمان به أو ما يجب فعله.

بالتالي يمكننا القول إن التفكير النقدي هو الإرادة العقلانية لإخضاع ما ندركه لسلسلة من العمليات الذهنية من التحليل والتساؤل، بهدف إصدار حكم حول صحته.. وباختصار: هو أن نسأل أنفسنا بالنسبة لما أدركناه:  هل هو صحيح؟ هل هو حقيقي؟ هل هو الشيء الوحيد الممكن؟ وأن نبحث أكثر قليلًا من أجل إيجاد الإجابة.

لاحظ أنني أصررت على استخدام عبارة “ما أدركناه” بدلًا من “ما حدث”، لأن التفكير النقدي ينبغي أن يُطبّق، في المقام الأول، على أنفسنا، بهدف تجنب الانحيازات الإدراكية والأخطاء في الحكم. وبعد أن يتم حل المشكلة الداخلية للإدراك، ينبغي للتفكير النقدي أن يتجه نحو المصادر الخارجية لما ندركه، من أجل الإجابة عن سؤال: “ما الذي حدث فعليًا؟”..

ما هو الشك؟

سقراط والشك
من أقوال سقراط

الشك له تقليد تاريخي يعود إلى زمن الإغريق القدماء. لنتذكر العبارة الشهيرة المنسوبة إلى سقراط:

أنا لا أعرف سوى أنني لا أعرف شيئًا..

لكن الشك الحديث لا يتبنى مواقف راديكالية وغير عملية إلى ذلك الحد.. يقول مايكل شارمر، أحد أبرز الشكاكين في عصرنا:

الشك الحديث غارق في المنهج العلمي، الذي يشمل جمع البيانات من أجل صياغة واختبار تفسيرات للظواهر الطبيعية..

لكن الشك الحديث يتجاوز الجوانب العلمية ليخترق مجالات الحياة اليومية والعملية.

أما العالم الفلكي الراحل كارل ساجان، وهو شكاك شهير كرس سنواته الأخيرة لنشر العلم بيننا – نحن غير المتخصصين – فقد عبّر عن الشك بقوله:

ليس شيئًا غامضًا. نحن نواجهه يوميًا. فعندما نشتري سيارة مستعملة، إن كان لدينا الحد الأدنى من الحس السليم، سنستخدم بعض مهاراتنا الشكّيّة المتبقية..

لذا يمكننا القول إن الشك يستند إلى استخدام التفكير النقدي، سواء في داخل عقل الشخص الذي يمارسه، أو خارجه في مصدر ما يُدرك، ويتضمن جمع أدلة موضوعية من أجل صياغة فرضية عمّا حدث، ثم مقارنتها بالواقع. عندما نشتري سيارة مستعملة، من الشائع أن نسمع من المالك السابق عبارات مثل: “لم تتعرض لحادث أبدًا” أو “هي في حالة ممتازة، شبه جديدة”.. فإذا تعاملنا مع هذه العبارات على أنها صحيحة مؤقتًا، فإن الشك سيجعلنا نفحص الهيكل للتأكد من صحتها، وأن نتفقد إن كانت قد خضعت لعمليات إصلاح للهيكل، أو ربما نستعين بخدمات ميكانيكي مستقل ليفحص الشاسيه، والمحاذاة، وجوانب أخرى قد لا نتمكن من ملاحظتها بعين غير خبيرة. وباختصار، الشك هو الإرادة في التشكيك بما ندركه، وجمع أدلة موضوعية لاستكمال عملية الحكم العقلاني.

ما فائدة التفكير النقدي والشك؟

مهارات التفكير النقدي
أهمية التفكير النقدي

ذكر موشي ف. روبنشتاين في كتابه “أنماط حل المشكلات” قبل أكثر من ثلاثين عامًا أن:

بوجود الإرادة للشك، يمكن محاربة التعصب العقائدي والأحكام المسبقة..

وهنا تحديدًا، فإن الثنائي الشك – التفكير النقدي يمثل المحرك الذي يغذى بإرادة الشك. يتيح هذا الثنائي تحويل الإرادة في الشك المبني على أسس عقلانية، والسعي إلى جمع أدلة موضوعية، إلى أدوات تساعد في البحث عن أسس الحقيقة والواقع، عندما يكون البحث عنهما هو الغاية. كما أنهما يتيحان مقاومة بعض أنماط التفكير التي تعيق التغيير نحو الأفضل، أو تعرقل البحث العلمي، أو تمنع تطوير نماذج أفضل لتفسير الظواهر الطبيعية.

وليس هذا فحسب، فثنائي الشك – التفكير النقدي يمثل كذلك الأساس في إجراء التحقيقات في الجرائم والانتهاكات، من خلال جمع الأدلة التي يتركها المجرمون لتقديمهم إلى العدالة. وفي الميادين الإدارية، يستخدم هذا الثنائي كمنهج في تنفيذ عمليات التدقيق والمراجعة لمختلف أنواع السجلات المالية والجوهرية في المؤسسات.

العقائد والأحكام المسبقة

إن العقائد الجامدة تنتمي إلى عالم الإيمان، والأحكام المسبقة تمنعنا من المهمة الشاقة المتمثلة في التفكير والتحليل. لكن كليهما – العقائد الجامدة والأحكام المسبقة – أكثر شيوعًا في ردود أفعال البشر من الشك والتفكير النقدي..

لقد درس دانييل غولمان طبيعة العواطف البشرية بصرامة علمية.. وخلص – كما اتفق معه كبار علماء الأعصاب في السنوات الأخيرة – إلى أن العواطف موجودة لدينا كجزء من برمجة دماغنا لمواجهة التحديات المبكرة التي عاشتها البشرية منذ ملايين السنين.

لكن اليوم فإن العديد من هذه المشاعر (البدائية تقريبًا) تدفعنا إلى ارتكاب انتهاكات غير ضرورية. وبناءً على السجل الأحفوري للبشر وأنواع الحيوانات الأخرى التي شاركتنا الزمان والمكان في عصور ما قبل التاريخ، كان التهديد الرئيسي الذي واجهناه هو المضايقات التي تتعرض لها من جانب الحيوانات الأخرى التي كانت أقوى وأفضل تجهيزًا للصيد منا.

بدايات التفكير النقدي

لقد تعلمنا الخوف من الوحوش الكبيرة لأننا كنا فريسة سهلة للعديد منهم. إن جنسنا البشري ليس سريعًا بما يكفي للهروب.. ولا رشيقًا بما يكفي لتسلق شجرة، ولا قويًا بما يكفي للرد المباشر على هجماتهم.. ولا محميًا بما يكفي للجوء إلى دفاعاتنا الطبيعية. لقد كان لدينا دماغ أكثر تطوراً بقليل، قادر على ابتكار أسلحة الدفاع والهجوم، وقادر على تصميم الفخاخ والتنكر، وقادر على نقل المعرفة إلى الأبناء، وقادر على خلق روابط اجتماعية لحماية الأنواع الناشئة، وقادر على تطوير المشاعر والأفكار المترابطة. لقد قضينا الكثير من الوقت على هذا النحو، آلاف السنين، وأصبحت تلك الطرق لحل مشاكل البقاء محفورة في جيناتنا وفي أدمغتنا.

يقول غولمان:

القشرة المخية الحديثة عند الإنسان العاقل، وهي أكبر من نظيرتها في أي نوع آخر، أضافت كل ما يعتبر بوضوح إنسانيًا. وفي سياق التطور، مكنت هذه القشرة من ضبط دقيق للأحاسيس، مما منح الكائن الحي مزايا كبيرة في القدرة على البقاء وسط التحديات، وبالتالي زادت من احتمال نقل الجينات التي تحمل هذه الدوائر العصبية إلى الأجيال التالية..

قدرات عقلية هائلة

المشكلة الآن هي أن معظم التهديدات التي نواجهها لم تعد تهدد حياتنا فعلًا.. ولا تمثل خطرًا على بقاء الجنس البشري. نمتلك اليوم قدرات عقلية هائلة، لدرجة أننا نخترع بأنفسنا المشكلات والصراعات والأعداء الوهميين. نلاحظ الفروقات بيننا وبين الآخرين – بما في ذلك الكائنات الحية الأخرى – بسهولة مفرطة. ونشعر بأننا مهددون من هذه الاختلافات الطفيفة جدًا. ونشعر بالرضا عندما نقوم بإقصاء “الآخر” أو مواجهته، حتى ولو بصورة رمزية أو افتراضية، مبررين سلوكنا هذا بالاستناد إلى عقائد وأحكام مسبقة تظهر بسرعة مدهشة.

نظرة أكثر موضوعية للعالم

الشك
الشك الفلسفي

هنا تبرز فائدة ثنائية الشك والتفكير النقدي عندما نسعى إلى تجاوز تلك العقائد والأحكام المسبقة، خصوصًا عندما تصبح عائقًا أمام نظرة أكثر موضوعية للعالم، والكون، ولشؤون الحياة اليومية البشرية. وفي هذا السياق يمكننا أن نذكر بعض أمثلة على فائدتهما عند الرغبة في كشف:

  • الخداع والأكاذيب في الإعلانات التجارية غير المسؤولة.
  • زيف المعلومات التي تنشرها وسائل الإعلام المتحيزة.
  • العيوب الخفية وسوء النية في الصفقات التجارية.
  • الجهة الحقيقية التي تقف خلف الجرائم والانتهاكات.
  • المسؤولية الفعلية للمسؤولين والموظفين الحكوميين في حالات الإهمال أو الفساد.
  • الكذب والافتراء في تصريحات أشخاص يحاولون بيعنا شيئًا، أو إقناعنا بوجهات نظرهم المنحازة والمريحة لهم.

لكن وبالرغم من الفوائد العملية الواضحة في حياتنا اليومية، فإنني أعتقد أن أعظم فائدة للشك والتفكير النقدي تكمن في توجيه طاقتنا العقلية الفائضة نحو التصميم الخلّاق والعقلاني لما يلي:

  • طرق أفضل للتعايش.. تحررنا من الأحكام العنصرية أو السياسية المبنية على تصديق ساذج.
  • طرق أفضل لاستغلال الطبيعة.. تجنبنا اختلال التوازن البيئي وآثاره العالمية.
  • أسس أنجع لتفادي الحروب والمجاعات.. من خلال فتح الباب أمام بدائل اقتصادية لا تتطلب إبادة “الجيران”، لا بالسلاح ولا بالاقتصاد.

خاتمة

أعتقد أن التفكير النقدي ينبغي أن يُدرّس من خلال الممارسة التطبيقية.. لا كمادة نظرية في مرحلة ما من المراحل التعليمية، بل كجزء من المناهج الرسمية في العلوم التجريبية. وينبغي أن تُدرّس دورات متخصصة عن أدوات الشك في المراحل الجامعية، خصوصًا في التخصصات المتعلقة بالعلوم والهندسة وسائر فروع المعرفة. فذلك سيكون استخدامًا ذكيًا لقدراتنا العقلية المتوفرة.

وفي الختام لا يسعنا سوى القول بأن التفكير النقدي والشك ليسا مجرد مهارات معرفية أو أدوات تحليلية، بل يمثلان توجهًا عقليًا ونفسيًا يتطلب شجاعة فكرية.. وانفتاحًا على المراجعة الذاتية.. واستعدادًا لتحمل عدم اليقين. ففي الوقت الذي تدفعنا فيه الطبيعة البشرية نحو التبسيط والتسليم، يعمل هذان النهجان على دفعنا نحو التحليل والتفكر والبحث عن الحقيقة. تكمن فائدتهما الكبرى في تحرير العقل من أسر الأفكار الجاهزة.. وتفتح المجال أمام الإبداع، والعدالة، والمعرفة الصادقة. وإذا ما أردنا بناء مجتمعات أكثر وعيًا وتسامحًا وقدرة على التغيير، فإن غرس التفكير النقدي والشك في الأذهان – لا كمجرد مواد تعليمية، بل كثقافة حياتية – سيكون أحد أهم خطواتنا في هذا الطريق.

وائل الشيمي

كاتب وأديب بدأ مسيرته الأكاديمية في مجال الصحافة، حيث حصل على بكالريوس في هذا المجال، وقاده شغفه بالإنسانية إلى دراسة علم النفس والفلسفة، وقد ساعدته دراسته وقراءاته في فهم أبعاد الشخصية البشرية وتعقيداتها. في روايته "الأجنحة السوداء" صور قضايا الوجود والتحديات النفسية التي يواجهها الإنسان في رحلة بحثه عن الإله، في سياق سردي مشوق يحمل في طياته تأملات فلسفية حول الحياة والموت، الحرية والقيود. كما أطلق في مجموعته القصصية "علامات لا تُمحى" مجموعة من القصص التي تتناول الجوانب المظلمة من التجربة البشرية، تاركاً آثارًا لا تُمحى في ذهن القارئ. إلى جانب أعماله الروائية والقصصية، ساهم الكاتب بالعديد من المقالات النقدية والحوارات الفكرية في الصحف والمجلات والمواقع الإعلامية، حيث شكلت كتاباته مساحة للتفكير والتحليل حول قضايا ثقافية واجتماعية معاصرة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

دعمك يهمنا ❤️

نحن نعمل بجد لتقديم محتوى مجاني ومفيد لك. هل يمكننا الاعتماد على دعمك بتعطيل مانع الإعلانات؟ شكرًا مقدمًا!