مراجعة فيلم The Killing Fields: رحلة إلى قلب المأساة

ربما أفضل أفلام الحرب هي الأفلام التي لا تدور حول الحرب نفسها، بل عن الأشخاص الذين يتعين عليهم التعامل مع الحرب. “حقول القتل” ليس مجرد فيلم درامي أو سرد سينمائي لحكاية واقعية، بل نافذة تفتح على إحدى أحلك فصول التاريخ الحديث. يُعيد فيلم The Killing Fields إحياء الأحداث المروعة التي شهدتها كمبوديا خلال حقبة حكم الخمير الحمر في السبعينيات. ويروي القصة الإنسانية العميقة لصداقة حقيقية بين صحفي أمريكي ومترجمه الكمبودي وسط الفوضى والمآسي. ومن خلال تصويره الدقيق والمشاهد المؤثرة، يبرز الفيلم كتحفة سينمائية تعكس قيمة الشجاعة، التضحية، والصحافة كقوة لكشف الحقائق في زمن مليء بالقمع والظلام.
الحرب الأهلية في كمبوديا
تدور أحداث الفيلم في كمبوديا عندما كانت البلاد في خضم حرب أهلية مع نظام الخمير الحمر؛ نتيجة لحرب فيتنام التي امتدت عبر حدود البلاد. يستند الفيلم إلى مذكرات الصحفي الأمريكي سيدني شانبرج الذي كان مراسلًا لصحيفة نيويورك تايمز.. وكيف أمضى سنوات في تغطية القتال والقصف في كمبوديا ولاوس.
ولكن بقدر ما تدور أحداث فيلم The Killing Fields حول ما حدث في هذا الصراع، فإن جوهره يدور حول قصة الصداقة الحقيقية بين سيدني ومترجمه الكمبودي ديث بران. عمل سيدني وبران معًا للوصول حقيقة الموقف، وخاطرا بحياتهما في حالات عديدة. وحين تأزم الوضع هناك اضطرا إلى الهروب من جنوب شرق آسيا.. ساعد سيدني عائلة بران على الهروب إلى الولايات المتحدة، لكن بران رفض الهروب مع عائلته وتمسك بمرافقة الصحفي الأمريكي.
وعندما كان الأمريكان على أهبة الاستعداد للمغادرة، اضطر الصحفي إلى التخلي عن بران لأن النظام الجديد في كمبوديا أراد إعادة جميع المواطنين الكمبوديين إليهم بما فيهم بران. شعر سيدني بالذنب لفترة طويلة بعد عودته إلى وطنه. وشرع في البحث عن صديقه الذي تركه وراءه من خلال منظمات الإغاثة الدولية والجمعيات الإنسانية التي تعمل في كمبوديا. كما تواصل مع العديد من المسؤولين في الحكومة لمعرفة مكان صديقه. وعلى الجانب الآخر كان بران يتعرض للعمل القسري بموجب سياسة “السنة صفر” التي بدأها الخمير الحمر لتدمير الماضي وبدء مستقبل جديد.
فظائع نظام الخمير الحمر
تتجلى الفظائع التي تحدث في ظل حكم الخمير بوضوح في النصف الثاني من الفيلم، عندما نرى ما يحدث في معسكرات العمل. نرى الناس يسيرون بجوار حقول الأرز الواحد تلو الآخر حاملين السلال على ظهورهم، وآخرون يعزقون الأرض، وغيرهم يمشون بخنوع ورؤوسهم منحنيه، ويستمعون إلى زعيم يصرخ عبر مكبر الصوت. نرى كيف يجلسون جميعًا معًا في مبنى خشبي في المساء للاستماع إلى دعاية الخمير، وأحيانًا يرفعون قبضاتهم معًا. ومن دون حوار أو شرح واضح، نفهم بالضبط خطورة ما يحدث هنا. وفي هذه الأثناء، ما زلنا نرى صور عمليات القتل والوحشية ومحاولات التلقين التي يمارسها نظام الخمير. إن أجواء القلق والقمع واضحة طوال الوقت.. ونحن نتعاطف مع بران وزملائه الذين يعانون.
إن المشهد الذي تعثر فيه ديث بران على الجثث التي تركت لتتعفن في الحقول الكمبودية هو ما استمد منه الفيلم اسمه.. وهذه الصور لن تفارق ذهن المشاهد أبدًا. ففي تلك اللحظة، نجح المخرج رولاند جوفي في التقاط الطبيعة الشريرة والوحشية لقائد الخمير الحمر بول بوت. وما حدث في هذه الحقول هو نفس هذا النوع من التطهير العرقي الذي لا يزال يُمارس في أجزاء مختلفة من العالم اليوم. قد يعتقد البعض أن أحداث “حقول القتل” لا علاقة لها بما نعانيه اليوم، ولكن لا شيء أبعد عن الحقيقة من ذلك. في الواقع، نحصل من خلال هذا الفيلم على دليل محبط لكيفية تكرار التاريخ نفسه.
قصة حقيقية
إن ما يعطي فيلم The Killing Fields ثقلاً عاطفيًا أكبر هو أن هاينج نجور، الذي يلعب دور ديث بران، مر بنفس المحنة في حياته الواقعية. ومن المستحيل أن تشاهد نجور هنا دون أن تعرف أنه شارك في تجربة مروعة مماثلة من قبل.. حيث كان عليه أن يقنع الجنود بأنه فلاح غير متعلم. ولو أدركوا أن بران كان في الحقيقة مثقفًا ومراسلاً، لقُتل على الفور. لم يكن نجور ممثلاً محترفًا عندما حصل على هذا الدور.. لذا فهو لا يمثل بقدر ما يقدم وجهًا إنسانيًا لا يمكن إنكاره.. وهذا بلا شك أحد أكثر العروض شجاعة في التاريخ.. حصل نجور على جائزة الأوسكار لأفضل ممثل مساعد عن دوره في هذا الفيلم، لكن كان ينبغي أن يحصل على وسام القلب الأرجواني وليس الأوسكار فحسب..
الأداء الرائع في فيلم The Killing Fields
وعلى الرغم من عظمة نجور، فلن نغفل الممثلين الآخرين الذين لا يقل أدائهم عظمة. حيث قدم سام ووترستون أدائًا استثنائيًا في تجسيد سعي سيدني شانبرج الدؤوب للبحث عن الحقيقة وتقديمها للعالم أجمع. نراه طوال الوقت يطارد بعناد أي مصادر متاحة له بغض النظر عن مدى تعريض حياته وحياة المقربين منه لخطر القتل. يؤدي هذا لاحقًا إلى شعور عميق بالذنب. حيث شجع ديث بران على البقاء معه على الرغم من أنه كان معرضًا لخطر أكبر من أي شخص آخر في دائرته. يلتقط ووترستون تعقيدات المراسل الذي يرى أهمية الوصول إلى قلب القصة بالإضافة إلى التكلفة الكبيرة التي يصبح التعامل معها أمرًا صعبًا للغاية.
لا يجب علينا كذلك أن نغفل دور جون مالكوفيتش في أحد أقدم أدواره، ونرى الشدة والقوة التي يتمتع بها المصور الصحفي روكوف. حيث يتعافى بسرعة من انفجار يقع بجواره مباشرة، وعلى الفور يقفز مرة أخرى لالتقاط أكبر عدد ممكن من الصور. وهناك أيضًا الممثل الراحل سبولدينج جراي الذي شارك في بطولة الفيلم بدور القنصل الأمريكي،.. وكانت تجربته في صناعة فيلم The Killing Fields مصدر إلهام لفيلمه “السباحة إلى كمبوديا” الذي قدمه بمفرده. ومن هنا، وُلدت مسيرة مهنية أخرى بفضل هذا الفيلم الذي أدى إلى العديد من الأفلام الممتعة للغاية التي قدمها حتى رحل عنا بطريقة مأساوية.
إنجاز سينمائي قوي
كان فيلم حقول القتل بمثابة أول فيلم روائي طويل للمخرج رولاند جوفي. يجعلك جوفي تشعر وكأنك تشاهد فيلمًا وثائقيًا عميقًا للغاية، ومع ذلك تنغمس في القصة بشكل لا يمكن تصديقه، لذا يعد هذا الفيلم إنجازًا سينمائيًا قويًا. واصل جوفي إخراج فيلم The Mission مع روبرت دي نيرو وجيريمي آيرونز وقد نال استحسان النقاد. ولكن بعد ذلك أخرج فيلمًا مقتبسًا بشكل خاطئ من رواية “الحرف القرمزي”.. وغير نهاية الكتاب وأضاف إليه المزيد من الجنس. ثم شرع في إخراج فيلم Captivity، وهو فيلم غير قابل للمشاهدة تمامًا لدرجة أنني توقفت عن مشاهدته بعد أقل من 20 دقيقة. عندما تشاهد فيلم The Killing Fields ثم فيلم Captivity، تتساءل عما حدث لهذا الرجل.
أثبت هذا الفيلم أنه ليس مجرد أول ظهور إخراجي رائع لجوفي، بل إنه تعاون رائع بين فنانين اجتذبوك تمامًا إلى واقع مكان وزمان لا يرغب الكثير منا أبدًا في تجربتهما عن قرب. وبعد سنوات عديدة، أصبح هذا تحفة سينمائية تجبرك على تجربة ما يمر به الناس. لا توجد طريقة للخروج من حقول القتل دون أن تتأثر به بشدة.
يعد فيلم The Killing Fields شهادة حية على قوة الروح البشرية.. وقدرتها على الصمود أمام أحلك الظروف. إنه يسلط الضوء على دور الإنسانية والتعاطف في عالم مزقته الصراعات. بعد مشاهدته، لا يمكن إلا أن نتساءل عن مسؤوليتنا الجماعية في مواجهة الظلم ومنع تكرار مثل هذه المآسي. فيلم كهذا لا يُنسى بسهولة.. فهو يترك بصمة عميقة تدفعنا للتأمل في قيمة الحياة والحرية وأهمية الحقيقة في مواجهة قسوة التاريخ..
مقال غني بالمعلومات المفيدة، شكراً لك
الشكر لك