ثلاثية صمت الإله: (2) تحليل فيلم Winter Light.. الحقيقة المؤلمة

You are currently viewing ثلاثية صمت الإله: (2) تحليل فيلم Winter Light.. الحقيقة المؤلمة
فيلم ضوء الشتاء لبرجمان وهو الجزء الثاني من ثلاثية صمت الرب

فيلم Winter Light للمخرج إنجمار بيرجمان هو أكثر أفلامه كآبة، وهو الجزء الثاني فيما أطلق عليه “ثلاثية صمت الرب” أو “ثلاثية الإيمان”. أما الفيلم الأول في هذه الثلاثية فهو فيلم Through a Glass Darkly (1961) والثالث هو فيلم The Silence (1963). وهذه الثلاثية تطرح قضية توق الناس لإله صامت بعيد المنال. في هذا المقال نتناول تحليل فيلم Winter Light بشيء من التفصيل.

مقدمة لابد منها

يتعلق فيلم Winter Light بأزمة إيمان قس لوثري وشكه في وجود الرب. وقد قال بيرجمان ذات مرة أن هذا الفيلم بالتحديد هو المفضل بالنسبة له من بين جميع أعماله. ربما يكون السبب وراء ذلك هو أن الفيلم مأخوذاً من تجارب بيرجمان الشخصية، فوالده كان وزير لوثري متشدد عاش معه المخرج في هذه الأجواء الكئيبة المليئة بالحزن كما صورها في فيلمه.

يعتمد فيلم Winter Light على شخصية واحدة وتفاعلها مع عدد قليل من الشخصيات، ومشاهدة هذا النوع من أفلام إنجمار برجمان بمثابة تجربة مليئة بالتحديات، نظراً لأنه لا يمنح المشاهد مساراً سردياً واضحاً ليتبعه. ولكن بدلاً من ذلك يحصل على سلسلة من اللقاءات الدرامية بين عدد قليل من الشخصيات المتناقضة، ومن ثم يُترك المشاهد ليقرر بنفسه ما إذا كان بإمكانه استخلاص نوع من الاستنتاجات غير المؤكدة حول ظروفهم الشخصية والاجتماعية. ومن المؤكد أن الأمر متروك للمشاهد في أي قصة لتقديم الكثير من البناء السردي في عقله. ولكن مع بيرجمان، يُترك المزيد من هذا البناء السردي الداخلي للمشاهد.

اقرأ أيضًا: تحليل فيلم Bergman Island: عندما تمتزج الحقيقة بالخيال

التواصل في فيلم Winter Light

تبدـأ أحداث فيلم Winter Light داخل الكنيسة، حيث يحضر القداس ستة أشخاص فحسب. يتقدم القس توماس إريكسون – جونار بيورنستراند – نحو الحاضرين ليمنحهم الخبز والخمر – طقس التناول. وكان من بين الحاضرين جوناس بيرسون – ماكس فون سيدو – وزوجته كارين – جونيل ليندبلوم – بالإضافة إلى سيدة ترتدي نظارة طبية تدعى مارتا – إنغريد ثولين – والتي علمنا لاحقاً أنها كانت عشيقة القس توماس مؤخراً. حينما كان توماس يقدم القربان للحاضرين لم يظهر أي نوع من التواصل أو المشاركة معهم. ونرى ذلك بوضوح خلال هذا الحفل البطيء والمتعمد الذي استغرق 15 دقيقة من الزمن الأصلي للفيلم البالغة مدته 81 دقيقة، لكنه كان ضرورياً لنتعرف على الجو السائد الخالي من التواصل والفراغ الروحي الذي يحيط بالجميع.

ربما يوضح عنوان الفيلم باللغة السويدية مضمون الفيلم وفكرته العامة. فالعنوان السويدي هو Nattvardsgästerna، والذي يعني الضيوف بالتواصل؛ وهذه المفارقة تكمن في أن التواصل هو الشيء الوحيد الغائب في الفيلم. فبطل القصة توماس لم يكن متواصلاً مع الأشخاص من حوله فحسب؛ بل فقد تواصله مع الرب وكذلك الإيمان به أيضاً.

بعد انتهاء القداس الافتتاحي، اقترب جوناس وكارين بيرسون من القس توماس من أجل استشارة دينية حول حالة الاكتئاب الخطيرة التي يعاني منها الزوج. فلقد أصبح مهووساً بالتقارير والمقالات التي تفيد بأن الصين مستعدة لشن حرب نووية[1]. من هنا يدرك القس أن جوناس فقد إيمانه بالحياة وأن لديه ميول انتحارية. لذا طلب منه جوناس أن يرافق زوجته إلى المنزل ويعود إلى القس ليتحدث معه بحرية تامة. لكن بعد رحيل الزوج مع زوجته يتضح تناقض توماس تجاه دعوته المهنية، وذلك عندما يحدق وحده في تمثال منحوت للمسيح على الصليب ويقول لنفسه: “يا لها من صورة سخيفة”. وهنا ثم تأتي إليه مارتا.

اقرأ أيضًا: تحليل فيلم Persona: التجربة النفسية الأكثر غموضاً وجاذبية

مارتا

ومارتا هي معلمة في مدرسة محلية، ومن الواضح أنها تعانق وتقبل توماس على انفراد. لذا يبدو أنها معتادة على العلاقة الحميمة معه. لكن هناك فرق روحي حاسم يفصل بينهما: بينما يشتكي توماس من صمت الرب، تؤكد له مارتا أنه غير موجود أصلاً. وقبل أن تغادر، تحثه على قراءة الرسالة التي أرسلتها إليه.

يعود توماس إلى مكتبه لقراءة الرسالة، لكنه قام أولاً بسحب بعض الصور لزوجته المتوفاة التي كان يحبها. بينما تسببت وفاتها قبل أربع سنوات في ترك فراغاً عاطفياً ونفسياً بداخل توماس. ثم يلتفت إلى خطاب مارتا. يتضح من خطاب مارتا أنها تحب توماس حباً عظيماً إلا أن بداخلها العديد من الصراعات التي تخشى أن تقولها إليه وجهاً لوجه. لذا فضلت أن تصب ما في قلبها من خلال رسالة. في هذا المشهد يظهر بيرجمان مارتا وهي تتلو فحوى الرسالة في صورة مقربة – مباشرة في الكاميرا لأكثر من ست دقائق – وهي تترافع بصدق وعاطفية في قضيتها. ومن خلال التحديق المباشر في الكاميرا تمنحنا مارتا إحساساً متزايداً بالتعاطف. وربما يكون هذا المشهد هو أهم مشهد في فيلم Winter Light. نظراً لأن هذا الاتصال المباشر يتناقض بشكل صارخ مع بقية تصوير الفيلم للتفاعل الفاشل وغير الأصيل.


الرسالة

تبدأ مارتا رسالتها بالقول إنها تعلم أنهما لا يحبان بعضهما البعض في الحقيقة. فمن جانبها، يبدو أنها تعترف بأن “حبها” كان متمركزاً حول الذات، وبالتالي ليس حباً حقيقياً. كما أنها تعترف بشكل مؤلم بنقاط ضعفها وعيوبها، بما في ذلك الطفح الجلدي المشوه الذي أصيبت به والذي أصاب توماس بالاشمئزاز، رغم إنه كان يحاول أن يبدو متعاطفاً معها. كما أخبرت توماس أنها بسبب إحباطها من معاناتها المؤلمة، قامت بالصلاة أخيراً إلى الإله الذي لم تؤمن به ليمنحها سبباً للعيش، أو يمنحها بعض المهام التي من شأنها أن تبرر ألمها وتستدعي كل قوتها. وهي تقول، بشكل مثير للدهشة، أن هذه الصلاة قد استُجيبت بالفعل! وقد أدركت أخيراً أن مهمتها على هذه الأرض كانت أن تحب توماس دون قيد أو شرط. لكن بعد أن قرأ توماس الرسالة كان من الجلي أنه لم يتعاطف معها.

اقرأ أيضًا: مراجعة فيلم Glass: وداع لا يليق بالثلاثية الرائعة

الاعتراف

عندما عاد جوناس للحديث مع توماس، نجد أنه بدلاً من تهدئته وطمأنته بشأن المستقبل والثقة في خطط الرب، يشرع في الاعتراف له بشكوكه الخاصة في وجود الرب. وهنا يقول له توماس أنه ربما يكون هناك بعض الارتياح الفكري في معرفة أخيراً أنه “لا يوجد خالق، ولا داعم للحياة، ولا تصميم.” وهذه المرة الأولى التي كان فيها توماس على استعداد لمشاركة أفكاره الداخلية، لكنها جاءت في الوقت الخاطئ ومع الشخص الخاطئ. فجوناس يعاني من الاكتئاب الحاد والقلق الوجودي من الحياة في حين يذهب القس ليشاركه يأسه الفلسفي وأفكاره عن عدم وجود الرب. إن جوناس في حاجة إلى المساعدة لكن توماس لا يزال مشغولاً بمخاوفه الأنانية ولا يتعاطف مع اهتمامات واحتياجات من حوله. لذا غادر جوناس بنظرة خاسرة على وجهه وبعد ذلك بوقت قصير ينتحر.


الحقيقة المؤلمة

بعد ذلك تحاول مارتا بمودة مواساة توماس، وتعرب عن تطلعها لأن تكون زوجته. وفي لحظة أخرى لا تنسى من الفيلم، يرد توماس بالقول إنه سئم منها. لقد أحب زوجته الراحلة، وهو الآن ميت عن الشعور الإنساني. وهنا يصرح توماس لمارتا بشعوره الداخلي نحوها، فيقول بصراحة تامة:

“السبب الحقيقي وراء عدم زواجي بكِ هو أنني لا أريدك… لقد سئمت من محبتك، ورعايتك المحبة لي، وتدليلك لي ونصائحك المفيدة، وشموعك ومائدتك.. لقد سأمت من قصر نظرك، ويديك الخرقاء، وقلقك، وطريقتك الخجلى في الفراش.. عاطفتك الخجولة… تجبريني لأشغل نفسي في حالتك الصحية، بعسر هضمك وطفحك الجلدي، بدورتك الشهرية، بخدك البارد… مرة وإلى الأبد لا بد لي من الهروب من هذا الظروف القذرة والتفاهات الحمقاء “.

بالنسبة لتوماس، الأمر كله يتعلق بنفسه. لقد هجره الله شخصياً (ففي وقت من الأوقات قال محدثاً نفسه: “يا الله، لماذا تركتني؟”، ولا يهتم بألم الآخرين. ومن هنا يترك مارتا ويذهب إلى كارين بيرسون، التي أصبحت فجأة أرملة حامل مع ثلاثة أطفال آخرين، ويبلغها بشكل روتيني بوفاة زوجها. ثم يقود سيارته إلى الكنيسة.

اقرأ أيضًا: شرح نهاية فيلم Split: فكرة متطرفة عن ألاعيب العقل

آلام المسيح في فيلم Winter Light

أثناء وجوده في الكنيسة يأتيه من يسأله عن بعض الأمور التي واجهته خلال قراءته للكتاب المقدس؛ وبالتحديد سؤال كان يزعجه كثيراً عندما تأمل في قصة آلام المسيح. حيث يقول للقس: ألا تعتقد أن التركيز على معاناة المسيح خاطئ كليةً؟ يجيبه القس: ماذا تعني بذلك؟

يقول: أعني هذا التركيز على الألم الجسدي.. فلم يكن بهذا السوء، أنا شخصياً عانيت أكثر من المسيح ذاته؛ وعذابه بالأحرى كان بسيطاً.. لقد تحمل العذاب الجسدي لأربع ساعات فحسب.. لكني أرى بأنه كان عذاباً أسوأ على مستوى آخر.. لقد عاش حواريه معه قرابة الثلاث سنوات ومع ذلك تركوه في النهاية ليبقى وحيداً.. معرفة بأن لا أحد يفهمك، أن يتخلى عنك الجميع وأنت في أمس الحاجة لشخص تعتمد عليه.. لابد وأن ذلك كان مؤلماً. لكن الأسوأ لم يأت بعد؛ فعندما كان المسيح يُثبت على الصليب ويعلق هناك في عذاب صرخ قائلاً: يا إلهي لماذا تخليت عني؟ لقد اعتقد أن أباه السماوي تخلى عنه.. لقد شك في كل شيء إلا أن تكون بشارته مجرد كذبة.. ففي اللحظات التي سبقت موته كان الشك قد استولى عليه.. بالتأكيد كان هذا عذابه الأعظم.. صمت الإله.

في هذا الحوار الشيق تتجلى فكرة فيلم Winter Light بصورة كبيرة. فالألم الجسدي لا يقارن بأي حال من الأحوال مع الألم النفسي، وخاصة الآلام الناتجة عن القلق الوجودي، وصعوبة التواصل مع الرب، ومع البشر. فتوماس الذي كان يؤمن ذات مرة عندما تزوج أن الله محبة وأن الحب هو الله، هو الآن مجرد قشرة فارغة، والفيلم مجرد تصوير للحوادث التي تكشف الأزمة الوجودية والبؤس الداخلي للروح المفقودة.

اقرأ أيضًا: مراجعة مسلسل المسيح: أكثر المسلسلات المثيرة للجدل

مفتاح فيلم Winter Light

لكني أعتقد أن فيلم Winter Light يقول أكثر من ذلك. فمفتاح الفيلم هو مارتا، وهو الدور الذي أدته ببراعة إنجريد ثولين. حيث تظهر مارتا الملحدة، وهي تصلي بإخلاص في اللحظات الأخيرة من الفيلم. إنها تصلي من أجل توماس. وفي واقع الأمر، فإن مارتا شبيهة بالمسيح في هذه القصة، حتى يديها المتضررة من الطفح الجلدي تستحضر مجازاً صورة صلب المسيح. ورفض توماس لمارتا يشبه إنكار بطرس للمسيح. ومن هنا يمكن أن ترى القصة معكوسة. حيث توماس ليس الشخص المهجور، لكنه الهالك. ومارتا هي صورة الرحمة. إنها تشعر بالألم، لكنها تمثل الحب غير الأناني. هذه اللقطة الأخيرة لمارتا وهي تصلي ورأسها لأسفل هي التي ترفع الفيلم وتجعله يستحق العناء. وبهذا الحب، ربما يكون هناك أمل لتوماس.


في الختام وبعد تحليل فيلم Winter Light لابد من التنويه إلى إنه واحد من أكثر أفلام إنجمار بيرجمان كآبة، فهو يحتوي في طياته على الكثير من الأسئلة التي تتعلق بحقيقة وجود الإله من عدمه. وكذلك يطرح قضية التواصل بين الإله وبين البشر.


هوامش

[1] في الحقيقة، لم تكن هذه مجرد تكهنات فارغة أو من نسج خيال بيرجمان. فلقد أكد ماو تسي تونغ منذ منتصف الخمسينيات فصاعداً أن حرباً نووية من الإبادة الجماعية ستكون لصالح الصين، وربما سيكون لدى الصين عدد كافٍ من الناجين لإعادة البناء، بينما سيتم تدمير الرأسمالية الغربية.

اترك تعليقاً