أسلوب حياة

تأملات عن خيبة الأمل: دروس خفية من عتمة الواقع

خيبة الأمل… تلك الندبة التي تخلفها الحياة على قلوبنا حينما لا تكتمل الحكايات كما تصورناها… هذا الشعور الذي يشبه غروب شمس كنا ننتظره بشغف، لكن سحب الحزن غطّت ألوانه. في خيبة الأمل، تنكسر الأحلام كزجاجٍ هش، ونشعر كأن الأرض تسحب ببطءٍ خطواتنا نحو صمت عميق. ومع ذلك، تظل خيبة الأمل جزءً من لوحة الحياة، لونها قاتم لكنه يجعل بقية الألوان أكثر إشراقًا. هي الدرس الذي نتعلم منه أن لا شيء ثابت، وأن الأمل قد يُبعث من بين رماد الخيبة.

فقدان الثقة

خاننا صديق جيد.. تخلى عنا شريك حياتنا.. تبيّن أن الشخص الذي ساعدنا قد فعل ذلك بدافع المصلحة.. خيبة الأمل هي صدمة تؤلمنا، وتصل في بعض الأحيان إلى شل حركتنا. إنها حدث يتعارض مع التوقعات الإيجابية، فيشكك في بعض القناعات السعيدة التي كانت لدينا، مما يصيبها في مقتل، وبالتالي يجب إعادة صياغتها. هكذا تقلل الخيبة من مجال رضانا، وتجعل العالم أقل أمانًا وأكثر جحودًا، وتجعل السعادة أقل احتمالًا، مؤثرة على أحد ركائزها المهمة: الثقة.

تتركنا خيبة الأمل محطمين، ومذهولين، وحائرين. أخلفت الحياة وعدها؛ فتحت الفوضى فجوة في كوننا، وتسرب منها الشعور بالغرابة. لقد عشنا في عالم ظننا أننا نعرفه، وفجأة، وبشكل درامي، يكشف لنا عن وجهه الغريب. أولاً، تغزونا الدهشة، وهي ما تبقينا مشلولين، وكما في حالة الحداد، نبدأ بالمقاومة. ثم، مع تقدم الفهم والتقبّل، تبدأ مشاعر الحزن أو الغضب بالتسرب إلينا، وهي المشاعر المرتبطة بالخسارة. يعتمد تغلّب أحد هذه المشاعر على الآخر بشكل أساسي على “مركز الإسناد”. ربما سنشعر بالحزن إذا اعتبرنا أنفسنا المسؤولين عن هذا الأذى الذي سببه لنا العالم: لم أكن أستحق تقديرهم أو احترامهم، لم أكن أدرك الأمر، ينتهي الأمر بالجميع إلى التخلي عني… أما الغضب فيصبح أكثر احتمالًا إذا رأينا الشخص الآخر هو المسؤول: خدعني، لم يعرف قدري، كان حقيرًا..

خيبة الأمل ونسبية الأحكام

خيبة الأمل بمن تحب
خيبة الأمل والأحكام المسبقة

إذا سيطر الحزن، فإننا ننغمس في حداد يبقينا عاجزين؛ أما إذا طغى الغضب، فقد نشعر برغبة في التصرف: بالاعتداء، بالرفض، بالاحتقار… وغالبًا ما يلي الغضب الحزن، حين تتاح لنا الفرصة لتغيير وجهة نظرنا وإلقاء اللوم على الآخر. وهناك عادةً مزيج من الاثنين معًا، لأننا – نحن والطرف الآخر – متورطون بطريقة ما.

ومع ذلك، يجب أن تعلّمنا خيبة الأمل أن نشعر بها بشكل أقل فأقل في كل مرة. فما الفائدة من إلقاء اللوم على العالم لكونه كما هو عليه؟ وفي كل الأحوال، نحن الذين لم نبقَ واقعيين.. نحن الذين لم نتمكن من الرؤية بوضوح، نحن الذين انجرفنا وراء رغباتنا وأحلامنا إلى درجة جعلتنا نؤمن أن العالم موجود فقط لإشباعها. انجرفنا مع الحماس، فقمنا بتجميل الواقع وجعله مثاليًا، أي سعينا لاستبداله بتوقعاتنا. استسلمنا للوهم بكل معانيه، وخرقنا أبسط قواعد الحذر، التي توصي بعدم التسرع في الاستنتاجات، وبالحفاظ على قدر من الشك، وتذكّر مدى ضآلة معرفتنا بالأشياء ومدى تغيرها.

كان ينبغي لنا أن نكون أكثر حذرًا، وكان علينا، إن لم يكن توقع الأمور (إذ ليس ذلك ممكنًا دائمًا حين تغيب المعلومات)، فعلى الأقل التفكير في احتمال ألا تسير الأمور كما نريد.. ربما وجب علينا أن نتوقف عن الحكم على الأشخاص؛ أو على الأقل، نلجأ إلى نسبية الأحكام، ونضع تحفظات على استنتاجاتنا. كان يجب أن نتذكر أننا دائمًا نجهل أكثر مما نعرف، وأن كل شيء يتغير بسرعة وله ألف وجه، وأن الأشخاص يحملون العديد من الوجوه داخلهم، وهم بالتأكيد أكثر من أي فكرة نكوّنها عنهم، خاصةً إذا كانت تلك الفكرة تقتصر على ما يناسبنا.

التعافي من الخسارة

كيف تتعافى من خيبة الأمل
التعافي من الخسارة

تعلمنا السنوات طبيعة العالم المتعدد الأوجه وغير المتوقع، وميلنا إلى رؤيته كما يناسبنا، بل وإجباره على التكيف مع تطلعاتنا. السنوات، إن أحسنّا الاستفادة منها، تعلمنا كم نحن جاهلون في إصدار الأحكام.. وكم نحن غير قادرين على التأثير على مجرى الحياة.. وكما قال غارسيا ماركيز، “لا أحد يعلم الحياة”. تعلمنا السنوات أنه لا يوجد شيء كامل أو آمن، ولا شيء مضمون أو محقق.. كل شيء يتغير، والإحباط دائمًا أكثر احتمالًا من الرضا، ولو لمجرد أنه يؤثر علينا أكثر، لأنه ما لا نريده. تعلمنا السنوات أننا في أعماقنا لا نشعر بخيبة الأمل سوى في أنفسنا.

يمنحنا معرفة ذلك قدرة جديدة: التعافي من الخسائر بشكل أسهل. يجب أن نعتاد على الخسارة، أو على الأقل، أن نأخذ في الاعتبار حقيقة أن كل شيء يمكن أن يضيع. يحذرنا الحكماء من التعلق، وربما يبدو هذا طلبًا مبالغًا فيه، فلذة الحياة بأكملها تكمن في التعلق؛ لكن يمكننا على الأقل أن نفعل ذلك بوعي، وبافتراض أن الخسارة ستؤذينا. ومع السنوات، ينبغي للمرء أن يكون أقل تأثرًا بخيبات الأمل، لأنه عانى منها مرارًا وتكرارًا، ومن المفترض أنه يحسب حسابها، وهو يعلم في أعماقه أن أهوائه ورغباته هي ما تجعله يتألم بشدة..

ويلات الخداع

لن نتمكن أبدًا من الشفاء تمامًا من آثار خيبة الأمل ومن ويلات الخداع.. ولكي نفعل ذلك، سيتعين علينا أن نتوقف عن أن نكون بشرًا، أو بعبارة أخرى، أن نصل إلى درجة التنوير. ولكن ربما يمكننا التعامل معها بطريقة مختلفة: استقبالها كزيارة غير مرغوب فيها من رسول قديم مزعج، يأتي إلى بيتنا ويرحل عاجلًا أو آجلًا؛ ونعترف بها كقاعدة من قواعد الحياة.. قانون الخسارة الذي سينتهي كل شيء، بما في ذلك نحن؛ ونفهمها بابتسامة هادئة، مدركين أن الحياة صعبة، وأننا والآخرين ضعفاء ومعذبون؛ ونستعيد أنفسنا سريعًا من الدهشة، من الألم، من الحزن أو الغضب، تاركين للرياح أن تأخذها، مثلما تأخذ وتعيد كل الأشياء.

خيبة الأمل ليست سوى محطة قصيرة على طريق الحياة الطويل. ربما تطفئ فينا شيئًا، لكنها تشعل بداخلنا القدرة على التحمّل، وتعيد رسم ملامح الأمل بأيدينا نحن. لولا خيبات الأمل لما أدركنا قيمة النجاح، ولما فهمنا أن الحياة ليست طريقًا مستقيمًا بل متاهة من التجارب والمشاعر. فلنعتبر خيباتنا معلمًا صامتًا يُهمس في آذاننا: انهض، جرّب مرة أخرى، فالحياة دائمًا تمنح فرصةً جديدة للذين يؤمنون بالنهوض بعد السقوط..

وائل الشيمي

كاتب وأديب بدأ مسيرته الأكاديمية في مجال الصحافة، حيث حصل على بكالريوس في هذا المجال، وقاده شغفه بالإنسانية إلى دراسة علم النفس والفلسفة، وقد ساعدته دراسته وقراءاته في فهم أبعاد الشخصية البشرية وتعقيداتها. في روايته "الأجنحة السوداء" صور قضايا الوجود والتحديات النفسية التي يواجهها الإنسان في رحلة بحثه عن الإله، في سياق سردي مشوق يحمل في طياته تأملات فلسفية حول الحياة والموت، الحرية والقيود. كما أطلق في مجموعته القصصية "علامات لا تُمحى" مجموعة من القصص التي تتناول الجوانب المظلمة من التجربة البشرية، تاركاً آثارًا لا تُمحى في ذهن القارئ. إلى جانب أعماله الروائية والقصصية، ساهم الكاتب بالعديد من المقالات النقدية والحوارات الفكرية في الصحف والمجلات والمواقع الإعلامية، حيث شكلت كتاباته مساحة للتفكير والتحليل حول قضايا ثقافية واجتماعية معاصرة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

دعمك يهمنا ❤️

نحن نعمل بجد لتقديم محتوى مجاني ومفيد لك. هل يمكننا الاعتماد على دعمك بتعطيل مانع الإعلانات؟ شكرًا مقدمًا!