فلسفة

الفلسفة الأبيقورية: اللذة كمفتاح للسعادة في الحياة

الأبيقورية مدرسة فلسفية راسخة الجذور، نشأت على يد الفيلسوف اليوناني أبيقور، وسادت خلال العصور الهلنستية باعتبارها أحد التيارات الفكرية الكبرى إلى جانب الرواقية والشك. وغالبًا ما يتم اختزال الأبيقورية في مفهوم المتعة بمفهومها السطحي في عالم اليوم، لكن هذا تبسيط مفرط لا يرقى إلى جوهر هذه الفلسفة العميقة. فاللذة في فكر أبيقور ليست مجرد انغماس في الملذات الحسية، بل هي مفهوم متكامل يشمل راحة النفس، والتحرر من الألم، وتحقيق السكينة الروحية. لكن كيف تتجلى اللذة عند أبيقور؟ وما علاقتها بفلسفته الأخلاقية؟ وما هي معاييره للمعرفة؟

الأبيقورية: فلسفة اللذة الحكيمة

برزت الأبيقورية في العصر الهلنستي كواحدة من المدارس الفلسفية الثلاث الكبرى التي هيمنت على الفكر آنذاك، إلى جانب الرواقية والشك. وقد انتشرت تعاليم أبيقور في أرجاء الإمبراطورية الرومانية، لكنها تراجعت مع صعود المسيحية التي حاربت هذا الفكر. ومع ذلك، لم تندثر الأبيقورية تمامًا، إذ شهدت نهضة في القرن السابع عشر، حين أُعيد إحياء كتابات أبيقور، لتؤثر بعمق في الفكر السياسي والاجتماعي، بل وتسهم في إرساء بعض الأسس التي قامت عليها العلوم الحديثة، كالكيمياء والفيزياء وعلم الفلك.

أبيقور: الفيلسوف الذي سعى وراء السكينة

تعريف الفلسفة الأبيقورية
أبيقور

وُلِد أبيقور عام 341 ق.م. في جزيرة ساموس، لأسرة من المستوطنين الأثينيين. لكن حياته لم تكن مستقرة، إذ طُرد من موطنه على يد بيرديكاس، أحد خلفاء الإسكندر الأكبر. تنقل أبيقور بين المدن، فتلقى تعليمه في كولوفون، المدينة الساحلية الواقعة في تركيا الحديثة، حيث درس الفلسفة على يد ناوسيفانيس، تلميذ الفيلسوف ديموقريطس. ثم انتقل إلى جزيرة ليسبوس، ومنها إلى لامبساكوس، حيث بدأ في تعليم فلسفته وجذب التلاميذ حوله. وفي عام 307 ق.م. استقر في أثينا، المدينة التي احتضنت فكره حتى وفاته عام 270 ق.م.

كانت فلسفة أبيقور دعوة للحياة المتزنة. حيث اللذة لا تُطلب لذاتها، بل تُقاس بالحكمة. والألم لا يُرفض رفضًا مطلقًا، بل يُفهم في سياق ضرورته لتحقيق الخير الأسمى: الطمأنينة والحرية من الخوف. وهكذا، لم تكن الأبيقورية مجرد بحث عن المتعة، بل كانت فنًا في العيش، حيث تتوازن الرغبات بالعقل، ويتحرر الإنسان من أوهامه ليصل إلى حياة يسودها السلام الداخلي.

نظام فلسفي متكامل

شكلت فلسفة أبيقور نظامًا فلسفيًا مترابطًا، يسعى إلى تحقيق السعادة بوصفها الغاية القصوى للحياة البشرية. لكن هذه السعادة البشرية لم تكن، كما يظن البعض، انغماسًا في الملذات الحسية فحسب، بل تتحقق من خلال غياب الألم الجسدي والاضطراب العقلي، حيث تكمن السكينة الحقيقية.

تضمنت فلسفة أبيقور عدة أركان أساسية، بدءًا من نظرية المعرفة التي تقوم على التجربة الحسية، إذ اعتبر أن الأحاسيس، إلى جانب إدراك اللذة والألم، هي معايير يقينية لا تخطئ في كشف حقيقة الأشياء. كذلك، بَنَى أبيقور تصوره عن العالم على أسس مادية ذرية، متبنيًا تفسيرًا طبيعيًا للتطور، من نشوء الكون وصولًا إلى نشأة المجتمعات البشرية.

نفي الخوف والمعتقدات الماورائية

كان أبيقور راديكاليًا في رؤيته للوجود، إذ رفض الكيانات المتعالية التي نادى بها أفلاطون، مثل “عالم المُثل“، واعتبر أن كل شيء يتكون من ذرات مادية. ومن هذا المنطلق، رفض فكرة بقاء الروح بعد الموت، وبالتالي أسقط احتمالية الحساب والعقاب في الحياة الآخرة.

لقد رأى أن الخوف من الموت والعقاب الإلهي هو الجذر العميق للقلق الإنساني. وهذا القلق بدوره يولد رغبات متطرفة وغير عقلانية تسلب الإنسان راحة البال. ومن خلال التحرر من هذه المخاوف، يصبح الإنسان قادرًا على عيش حياة متزنة. حيث يتمتع بالملذات الجسدية والعقلية التي تنسجم مع طبيعته. ويصل إلى حالة من الطمأنينة والرضا المستدام.

الميتافيزيقا في الفلسفة الأبيقورية

مبادىء الفلسفة الأبيقورية
الميتافيزيقا عند أبيقور

تبدأ رؤية أبيقور للكون من مبدأين جوهريين:

  • الأجساد تتحرك.
  • لا شيء يأتي إلى الوجود من العدم.

استنادًا إلى ذلك، رأى أبيقور أن كل ما في الكون يتألف من ذرات دقيقة غير قابلة للتجزئة، تتحرك في فضاء فارغ أطلق عليه اسم “الفراغ”. وكل الأشياء التي نراها ليست سوى تجمعات لهذه الذرات، التي تتفاعل عبر التصادم والارتداد والتشابك.. وهو ما يفسر ظواهر الطبيعة وسلوكيات الكائنات الحية.

لكن أبيقور رفض فكرة الانقسام اللامتناهي للأجسام، مؤكدًا أن هناك وحدات أساسية غير قابلة للتغيير تشكل جوهر المادة، مما يضمن الانتظام في قوانين الطبيعة. فلو استمرت الأجسام في الانقسام إلى ما لا نهاية، لتلاشت في العدم، وهذا يتناقض مع مبدأ أن “لا شيء يأتي من العدم ولا شيء يذهب إلى العدم”.

في صلب الفلسفة الأبيقورية تكمن رؤية مادية خالصة للكون، حيث تتألف جميع الأشياء من ذرات تتحرك في فراغ لا نهائي. هذه الذرات، التي تعني حرفيًا “غير قابلة للتجزئة”، ليست مجرد وحدات بناء، بل هي الجوهر الحقيقي لكل ما هو موجود. وفقًا لأبيقور، فإن الذرات والفراغ فقط هما الموجودان في حد ذاتهما، أي أنهما لا يعتمدان على أي شيء آخر في وجودهما. أما بقية الأشياء – مثل الألوان، والوقت، والعدالة – فهي ليست كيانات مستقلة، بل مجرد صفات أو ظواهر تنشأ عن تفاعل الذرات.

وبما أن أبيقور رفض فكرة أن “شيئًا يمكن أن ينبثق من العدم”، فقد اعتقد أن الكون أبدي.. لم يُخلق ولن يفنى، بل كان موجودًا دائمًا وسيظل كذلك. الأمر ذاته ينطبق على الذرات.. إذ لم تأت إلى الوجود في لحظة معينة، بل كانت دومًا الأساس المادي لكل ما هو موجود.

التفسير الميكانيكي للظواهر الطبيعية

تميّز أبيقور عن غيره من الفلاسفة بمحاولته استبدال التفسيرات الغائية للظواهر الطبيعية – التي ترى أن لكل شيء هدفًا معينًا – بتفسيرات ميكانيكية قائمة على تفاعل الذرات. فقد أراد أن يحرر الإنسان من الخوف من الآلهة، لذا أصرّ على أن الظواهر مثل الزلازل والبرق لا تحدث بإرادة قوى خارقة، بل نتيجة لقوانين طبيعية يمكن تفسيرها بالعلم والملاحظة.

بسبب إنكاره للعناية الإلهية، اتُهمت الأبيقورية في العصور القديمة بأنها فلسفة إلحادية.. وهو اتهام رفضه أبيقور وأتباعه. لكنه رغم ذلك، طرح مفهومًا مختلفًا تمامًا عن الآلهة، بعيدًا عن التصورات التقليدية. يقول أبيقور:

لدينا تصور للآلهة باعتبارها كائنات مباركة وسعيدة للغاية. غير أن القلق بشأن مآسي العالم، أو محاولة التحكم فيه، يتعارض مع حياتها الهادئة والسعيدة. لذا فإن الآلهة لا تهتم بنا، بل إنها غير مدركة لوجودنا من الأساس..

لا تلعب الآلهة أي دور في إدارة الكون أو التدخل في شؤون البشر، وهي بالنسبة لأبيقور مجرد كائنات مثالية يمكننا الاقتداء بها في سعينا لحياة هادئة وخالية من الاضطراب، دون الحاجة إلى الخوف من عقابها أو سخطها.

فلسفة العقل: الذهن ككيان مادي

فلسفة أبيقور
العقل عند أبيقور

كان أبيقور من أوائل الفلاسفة الذين طرحوا نظرية هوية للعقل، حيث رأى أن العمليات العقلية ما هي إلا تفاعلات مادية تخضع للقوانين الذرية. ورغم أن الفلسفة الحديثة تربط العقل بالدماغ، فإن أبيقور، متأثرًا بالمعتقدات السائدة في عصره، اعتبر أن مركز العقل يقع في الصدر، حيث اعتقد اليونانيون القدماء أن العواطف تنشأ.

رأى أبيقور أن العقل مكون من أربعة أنواع من الجسيمات: النار، والهواء، والرياح، وعنصر رابع مجهول يتميز بنقاوته الفائقة. ورغم تحفظه على شرح تفاصيل هذه النظرية، فقد أكد أن العقل، لكونه ماديًا، يتأثر بالجسد ويتفاعل معه، تمامًا كما يظهر تأثره بالأمراض والإصابات الجسدية.

أحد الاستنتاجات الحاسمة في فلسفة أبيقور أن الموت يعني الفناء التام. فالعقل، الذي يتكون من ذرات، لا يمكنه الاستمرار خارج الجسد. عند الموت، تتفرق هذه الذرات، ما يعني أن الوعي والإحساس يتلاشيان تمامًا. وبذلك، لا وجود لحياة بعد الموت، ولا لعقاب أو مكافأة في عالم آخر، مما يجعل الخوف من الموت غير منطقي في نظر الأبيقورية.

معايير المعرفة في الفلسفة الأبيقورية

تمثل نظرية المعرفة في الفلسفة الأبيقورية موقفًا تجريبيًا صارمًا. حيث يؤمن أبيقور بأن المعرفة تستند بالكامل إلى التجربة الحسية. وأن الحواس هي المصدر الأساسي لكل الإدراك البشري. وعلى عكس التيارات الشكية التي شككت في إمكانية الوصول إلى الحقيقة، اعتبر أبيقور أن الحواس، إذا استُخدمت بشكل صحيح، يمكن الوثوق بها تمامًا، لأنها لا تخطئ في ذاتها، بل يكمن الخطأ في تأويل الإنسان للمعلومات الحسية.

وضع أبيقور ثلاثة معايير أساسية للمعرفة، هي:

  1. الأحاسيس

    تمثل الأحاسيس المصدر الأساسي للمعرفة، حيث تزودنا بالمعلومات المباشرة عن العالم الخارجي. لا تخطئ الحواس في ذاتها، لأنها مجرد استقبال سلبي للصور الحسية، دون أن تصدر أي حكم عليها. تكمن الأخطاء في تأويلنا لهذه الأحاسيس، وليس في الإحساس نفسه.

  2. الأفكار المسبقة

    الأفكار المسبقة هي المفاهيم التي تتشكل لدينا نتيجة التكرار المستمر للتجارب الحسية. على سبيل المثال، نحن نعرف أن الشمس تشرق كل صباح لأننا اختبرنا ذلك مرات عديدة، ما أدى إلى ترسيخ هذا المفهوم في أذهاننا. تشكل هذه الأفكار أساس اللغة والتواصل، حيث تمنحنا القدرة على التعرف على الأشياء دون الحاجة إلى إعادة اختبارها كل مرة.

  3. المشاعر

    المشاعر هي التي تحدد لنا ما هو مرغوب وما هو مكروه، فهي مقياس طبيعي لتقييم الأمور. تنقسم إلى نوعين رئيسيين: اللذة (التي يجب أن نسعى إليها) والألم (الذي يجب أن نتجنبه). تلعب المشاعر دورًا أساسيًا في الأخلاق الأبيقورية، حيث يرى أبيقور أن تحقيق السعادة يتم من خلال التحرر من الألم الجسدي والاضطراب العقلي.

اعتقد أبيقور أنه يمكن اختبار صحة أي حكم من خلال مقارنة الإحساس الأولي بإحساسات لاحقة. على سبيل المثال، إذا بدا لنا برجٌ من بعيد مستديرًا، فيمكننا الاقتراب منه وفحصه من زوايا مختلفة لمعرفة إن كان مستديرًا حقًا أم أن ذلك مجرد خداع بصري. كما يرى أن الحواس لا تخطئ أبدًا، لأن دورها يقتصر على استقبال المعلومات دون إصدار أحكام. فالخطأ يحدث عندما نصدر أحكامًا خاطئة بناءً على إدراكنا الحسي. ومن هنا، فإن أبيقور لم يكن ضد الحواس، لكنه كان حريصًا على تصحيح الطريقة التي نفسر بها ما نشعر به.

مفهوم اللذة عند أبيقور وعلاقته بمذهبه الأخلاقي

مفهوم اللذة عند أبيقور
اللذة عند أبيقور

يبدأ المذهب الأخلاقي الأبيقوري من الفكرة التي طرحها أرسطو بأن السعادة هي أعلى منفعة، لكنه يختلف معه في تحديد ماهية السعادة. فبينما يرى أرسطو أن السعادة تكمن في تحقيق الفضيلة، يؤكد أبيقور أن اللذة (غياب الألم والاضطراب) هي السعادة الحقيقية.

لكن مفهوم اللذة عند أبيقور أكثر تعقيدًا مما قد يبدو، فهو لا يدعو إلى المتعة الفورية أو الإفراط الحسي، بل يرى أن اللذة الحقيقية تكمن في التحرر من الألم الجسدي والقلق العقلي، وهو ما يُعرف بمفهوم الطمأنينة. وقد اعتبر أبيقور أن اللذة هي الخير الأسمى، حيث يسعى جميع البشر فطريًا إلى اللذة وتجنب الألم، ويظهر هذا في سلوك الأطفال الذين يتجهون بشكل غريزي نحو الأشياء التي تمنحهم المتعة ويبتعدون عن تلك التي تسبب لهم الألم. حتى السلوكيات التي تبدو كأنها تضحية بالنفس أو طلب للفضيلة تنبع في النهاية من رغبة في تحقيق المتعة الشخصية، وإن كان ذلك على المدى الطويل.

يقول أبيقور نحن ندرك أن اللذة جيدة والألم سيء بنفس الطريقة التي ندرك بها أن النار ساخنة، لذا لا نحتاج إلى برهان فلسفي لإثبات أن المتعة خير أو أن الألم شر، لأن التجربة الحسية المباشرة كافية لإثبات ذلك.

أنواع اللذة عند أبيقور

يرتبط مفهوم اللذة عند أبيقور ارتباطاً وثيقاً بإشباع رغبات المرء. لكن أبيقور يميز بين نوعين مختلفين من الملذات: ملذات “الحركة” والملذات “الثابتة”. تحدث ملذات “الحركة” عندما يكون المرء في طور إشباع الرغبة، على سبيل المثال، تناول الطعام عندما يكون المرء جائعاً. تتضمن هذه الملذات دغدغة نشطة للحواس. وهذه المشاعر هي ما يسميه معظم الناس “اللذة”. ومع ذلك، يقول أبيقور أنه بعد إشباع رغبات المرء (على سبيل المثال، عندما يكون المرء ممتلئاً بعد الأكل)، حالة الشبع، لم يعد في حاجة أو عوز، فهذا الأمر نفسه ممتع. ويسمي أبيقور هذا متعة “ثابتة”، ويقول إن هذه الملذات الثابتة هي أفضل الملذات.

لهذا السبب، ينفي مفهوم اللذة عند أبيقور وجود أي حالة وسيطة بين اللذة والألم. عندما يكون لدى المرء رغبات غير محققة، يكون هذا مؤلماً، وعندما لا يعد لدى المرء رغبات غير محققة، فإن هذه الحالة الثابتة هي الأكثر إمتاعًا على الإطلاق، وليست مجرد حالة وسيطة بين اللذة والألم.

يميز مذهب أبيقور الأخلاقي أيضًا بين اللذة الجسدية والعقلية؛ فاللذات الجسدية ترتبط بالحواس، مثل الطعام والشراب والموسيقى. لكنها مؤقتة وتزول بمجرد تحقيقها. أما اللذات العقلية، فهي تدوم لفترة أطول، وتشمل ذكريات ممتعة من الماضي أو الاطمئنان للمستقبل. وتعد اللذات العقلية أقوى من الجسدية، لأن الخوف والقلق من المستقبل يمكن أن يدمران السعادة أكثر من أي ألم جسدي عابر.

التمييز بين الرغبات

يرتبط مفهوم اللذة عند أبيقور بإشباع الرغبات، لكنه يميز بين ثلاثة أنواع من الرغبات:

  1. الرغبات الطبيعية الضرورية: تشمل الحاجات الأساسية مثل الطعام والماء والمأوى، والتي يجب إشباعها لأنها ضرورية للبقاء والعيش بدون ألم.
  2. الرغبات الطبيعية غير الضرورية: مثل تناول طعام فاخر أو الرغبة في الكماليات. ليست ضرورية، لكن يمكن الاستمتاع بها باعتدال دون أن تؤدي إلى الألم أو الإدمان.
  3. الرغبات غير الطبيعية وغير الضرورية: مثل السعي وراء الشهرة، الثروة، والسلطة. هذه الرغبات لا نهاية لها، وتجلب القلق أكثر مما تجلب السعادة، لذا يجب تجنبها.

على عكس بعض الفلاسفة الذين يرون الفضيلة غاية في حد ذاتها، يرى أبيقور أن الفضيلة وسيلة لتحقيق اللذة. الفضائل الإنسانية مثل الحكمة، العدالة، والاعتدال ليست قيّمة لذاتها، بل لأنها تساعد الإنسان على تحقيق حياة سعيدة خالية من الألم والقلق. على سبيل المثال، الاعتدال في الأكل يؤدي إلى صحة جيدة، مما يساهم في تقليل الألم الجسدي على المدى الطويل.

يعتقد أبيقور أن أكبر مدمّر للسعادة هو القلق، وخاصة الخوف من الآلهة والخوف من الموت. لذا، يجب على الإنسان إزالة الخوف من الآلهة، لأنها لا تهتم بالبشر ولا تتدخل في شؤونهم. ولا يوجد داعٍ للخوف من العقاب الإلهي، لأن الآلهة تعيش في حالة من الكمال والهدوء دون أن تعبأ بمصير الإنسان.

الفضائل في الفلسفة الأبيقورية

الفلسفة الأبيقورية
الأخلاق عند أبيقور

يؤكد أبيقور على أن الفضائل ضرورية لتحقيق السعادة، ولكن ليس لأنها غاية في حد ذاتها، بل لأنها أدوات تساعد الإنسان على تحقيق الطمأنينة والمتعة العقلية. على عكس الرواقيين وأرسطو الذين رأوا الفضيلة كغاية نهائية، يرى أبيقور أن الفضائل وسائل نفعية تهدف إلى تجنب الألم وتحقيق الاستقرار النفسي.

العدالة في الفلسفة الأبيقورية

العدالة عند أبيقور ليست قيمة مطلقة، بل عقد اجتماعي لضمان العيش بأمان. يعرّف أبيقور العدالة بأنها اتفاقية بين البشر تقوم على “لا تؤذي ولا تتأذى”. العدالة ليست موجودة في الطبيعة، بل تنشأ عندما يتفق البشر على قوانين تحميهم من الفوضى، والسبب الرئيسي لعدم الظلم هو الخوف من العقاب.. حتى لو لم يُقبض على الظالم، فإن خوفه من انكشاف أمره سيسبب له ألمًا نفسيًا. إذن العدالة عند أبيقور ليست قائمة على الأخلاق المطلقة، بل على الفائدة المتبادلة بين الأفراد والمجتمع.

الصداقة في الفلسفة الأبيقورية

الصداقة ليست مجرد علاقة اجتماعية، بل هي واحدة من أعظم مصادر السعادة والأمان النفسي. يرى أبيقور أن الحياة بدون أصدقاء هي حياة منعزلة ومحفوفة بالمخاطر، فالأصدقاء يحققون أقصى درجات الطمأنينة، لأنهم يمنحون الأمان والمساندة. هناك جدل حول ما إذا كان أبيقور يدعو إلى إيثار حقيقي أم منفعة متبادلة، لكنه يؤكد أن الصداقة الحقيقية توفر سعادة دائمة. يقول أبيقور أن الرجل الحكيم قد يكون مستعدًا للموت من أجل صديقه، ليس بسبب الإيثار المطلق، بل لأن الصداقة تمنح الإنسان شعورًا عميقًا بالأمان والسعادة.

الموت في الفلسفة الأبيقورية

فلسفة الأخلاق
فلسفة الموت عند أبيقور

أحد أعظم المخاوف التي حاول أبيقور محاربتها هي الخوف من الموت، فهو يعتقد أن هذا الخوف قائم على القلق من وجود حياة أخرى غير سارة، لذلك يرى أن الموت ليس شيئًا يجب الخوف منه، لأنه مجرد انعدام للإحساس. عندما نموت، لا نشعر بأي شيء، وبالتالي لا يوجد أي ألم، ويقول مقولته الشهيرة:

حين نكون موجودين، لا يكون الموت موجودًا، وعندما يحضر الموت، لا نكون نحن موجودين..

يؤكد أبيقور أن الخوف من الموت غير منطقي لأنه لا يؤثر علينا سواء كنا أحياء أو أموات.

الحجة الأولى: الموت ليس سيئًا للأحياء ولا للأموات

الموت فناء كامل، أي أنه عندما نموت، لن نشعر بأي شيء. والإنسان الحي لم يمت بعد، فلا يتأثر بالموت. الإنسان الميت غير موجود، فلا يشعر بالموت. إذن، الموت ليس شيئًا مخيفًا، لأنه لا يسبب أي ألم أو معاناة.

الحجة الثانية: “حجة التناظر”

قبل أن نولد، لم نكن موجودين، ولم نشعر بأي قلق أو ألم. بعد أن نموت، سنكون في حالة عدم وجود مماثلة لما كنا عليه قبل الولادة. إذا لم يكن عدم وجودنا قبل الولادة مخيفًا، فلماذا نخاف من عدم وجودنا بعد الموت؟ الخوف من الموت هو مصدر قلق غير ضروري يمنع الإنسان من الاستمتاع بالحياة.

الطريق إلى السعادة

اللذة الحقيقية ليست في الإفراط، بل في التحرر من الألم والاضطراب العقلي..

السعادة هي التحرر من الألم والقلق ، لذا يرى أبيقور أن تحقيق السعادة يتطلب:

  • إشباع الضروريات فقط لتجنب الألم.
  • التحكم في الرغبات غير الضرورية وعدم الانجراف وراء اللذات العابرة.
  • إزالة المخاوف المتعلقة بالآلهة والموت والمستقبل.
  • العيش وفق الفضيلة لأنها تؤدي إلى الطمأنينة والاستقرار النفسي.

وبهذا المفهوم، تصبح الحياة الأبيقورية حياة بسيطة، متزنة، وخالية من الاضطرابات، حيث يكون الإنسان راضيًا، ومتحررًا من القلق، ويعيش بسلام داخلي. فالحياة البسيطة هي الأكثر سعادة، والسعادة لا تأتي من امتلاك الأشياء، بل من الاستغناء عما ليس ضرورياً. يمكن للإنسان أن يكون سعيدًا بالقليل، طالما أنه لا يشعر بالحاجة إلى المزيد. على سبيل المثال، الشخص الذي يأكل طعامًا بسيطًا ولكن يشبع جوعه، سيكون أكثر سعادة من شخص معتاد على طعام فاخر، لكنه يشعر بالتعاسة عندما لا يجده.

يقول أبيقور:

السعادة ليست في امتلاك كل شيء، بل في عدم الحاجة إلى كل شيء.

لم تكن الفلسفة الأبيقورية مجرد دعوة للملذات، بل كانت ثورة فكرية هدفت إلى تحرير الإنسان من مخاوفه الوجودية، عبر فهم العالم من منظور مادي عقلاني، وإعادة تعريف السعادة على أنها التوازن بين اللذة والسكينة. إنها فلسفة تحث الإنسان على أن يحيا بلا خوف، وبلا قلق، مستمتعًا بالحاضر، مستنيرًا بالعقل، في انسجام مع طبيعته الحقيقية.

وائل الشيمي

كاتب وأديب بدأ مسيرته الأكاديمية في مجال الصحافة، حيث حصل على بكالريوس في هذا المجال، وقاده شغفه بالإنسانية إلى دراسة علم النفس والفلسفة، وقد ساعدته دراسته وقراءاته في فهم أبعاد الشخصية البشرية وتعقيداتها. في روايته "الأجنحة السوداء" صور قضايا الوجود والتحديات النفسية التي يواجهها الإنسان في رحلة بحثه عن الإله، في سياق سردي مشوق يحمل في طياته تأملات فلسفية حول الحياة والموت، الحرية والقيود. كما أطلق في مجموعته القصصية "علامات لا تُمحى" مجموعة من القصص التي تتناول الجوانب المظلمة من التجربة البشرية، تاركاً آثارًا لا تُمحى في ذهن القارئ. إلى جانب أعماله الروائية والقصصية، ساهم الكاتب بالعديد من المقالات النقدية والحوارات الفكرية في الصحف والمجلات والمواقع الإعلامية، حيث شكلت كتاباته مساحة للتفكير والتحليل حول قضايا ثقافية واجتماعية معاصرة.

‫2 تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

دعمك يهمنا ❤️

نحن نعمل بجد لتقديم محتوى مجاني ومفيد لك. هل يمكننا الاعتماد على دعمك بتعطيل مانع الإعلانات؟ شكرًا مقدمًا!