علوم

علم النفس الإيجابي: علم حقيقي أم أوهام زائفة؟

ظهر علم النفس الإيجابي في السنوات الأخيرة، وحقق نجاحًا ساحقًا. انتشرت كتب علم النفس الإيجابي في كل مكان، وازداد عدد المحترفين المتخصصين في التدريب الشخصي وعلماء النفس المتخصصين في تقنيات التحفيز، الذين يكسبون قوتهم من بيع نصائحهم الخبيرة مقابل مبالغ مالية كبيرة. أطل علينا علم النفس الإيجابي كنافذة مشرقة تدعي أنها تمتلك مفتاح السعادة المطلقة، وتعدنا بالنجاح المضمون ، وتوهمنا بأن الألم والحزن مجرد ظلال يمكن تبديدها بالتفكير الإيجابي. وسرت بين الناس مفاهيم جديدة مثل المساعدة الذاتية، والتنمية البشرية، والتفكير الإيجابي، وتقدير الذات، والحزم، والإبداع، والمرونة النفسية، والنمو الشخصي، وغيرها. لكن أليس في هذا الطرح تبسيط مخل لعمق التجربة الإنسانية؟ أليس الألم جزءً لا يتجزأ من نسيج الحياة؟ على ماذا يستند علم النفس الإيجابي؟ وهل يمكن الاعتماد عليه كعلم أم إنه مجرد علم زائف ومضلل يتماشى مع الفردية الأنانية التي يقوم عليها النظام الرأسمالي الاقتصادي. دعونا نسلط الضوء على جوانب هذا العلم المضللة والزائفة علميًا..

منهجية علم النفس الإيجابي

يفترض علم النفس الإيجابي واقعًا تجزيئيًا. حيث يركز على الفرد بشكل مجرد، دون تحليل علاقاته مع الآخرين أو عملية تفاعله مع بيئته، مما يجعله يعبر عن فردية منهجية. تتعارض هذه الفردية المنهجية مع البحث العلمي الجاد والعميق لأنها تتجاهل الفرضية الأساسية لعلم الوجود المادي النظامي: أن كل ما يوجد (بما في ذلك الأفراد) هو نظام أو جزء من نظام.

يبدأ علم النفس الإيجابي من مفهوم العاطفة كشيء تم تشكيله مسبقًا أو تصميمه لهدف معين، بدلًا من رؤيتها كشيء يتم تعلمه وتقديره من قبل الفرد في سياق معين. ولا يأخذ بعين الاعتبار دور التعلم في اكتساب القوة النفسية. كما أنه لا يفسر كيف تتشكل العواطف، بل يعتبر العاطفة سببًا للسلوك بدلًا من كونها نتيجة له. على سبيل المثال، يرى تقدير الذات كسبب للسلوك الناجح، بينما في الواقع، تقدير الذات يكون نتيجة سلسلة طويلة من السلوكيات الناجحة.

وبهذا المعنى عندما يؤكد علم النفس الإيجابي على التحفيز الذاتي، يقع في نفس المفارقة التي وقع فيها البارون مونشاوزن عندما قال إنه تمكن من الخروج من الماء مع حصانه عن طريق سحب نفسه من شعره.

السبب والنتيجة

يستخدم علماء النفس الإيجابي منهجية تعتمد فقط على الترابط: قياس صفات المشاركين من خلال تقسيمهم إلى مجموعتين بناءً على سمات يُفترض أنها أسباب أو نتائج. لكن هذه المنهجية غير صحيحة لتوقع الأسباب أو تحديدها: الارتباط لا يعني السببية. على سبيل المثال، ارتباط وجود عواطف معينة بظروف معينة لا يعني أن تلك العواطف هي سبب تلك الظروف.

لا تحلل الدراسات التي تُقدَّم كدليل العوامل المتعددة التي يمكن أن تتدخل بين ما يُعتَبر سببًا (العاطفة الإيجابية، السعادة) والنتيجة (العيش لسنوات أطول، تحقيق “النجاح” في الحياة). خطأ كبير في هذه الدراسات هو استبعاد أن إظهار الابتسامة أو الإيجابية يمكن أن يكون نتيجة لعوامل أخرى تجعل الشخص يشعر بالرضا. كيف يمكن تحديد ما هو السبب وما هو النتيجة في مثل هذه الحالات؟

مفاهيم علم النفس الإيجابي

علم النفس الإيجابي والتفاؤل
أبرز مفاهيم علم النفس الإيجابي

لا يتم تعريف مفاهيم مثل “المشاعر الإيجابية” أو “المشاعر السلبية“. وبدءًا من هنا، ينهار الصرح المفاهيمي بأكمله. إذ يعرّف علماء النفس الإيجابي “المشاعر الإيجابية” بأنها تلك التي يمكنها حل العديد من المشكلات التي تولدها المشاعر السلبية، وهي ليست أكثر من مجرد حجة دائرية. ولهذا السبب يرتبط علم النفس الإيجابي بالحركات الروحانية أكثر من ارتباطه بالعلم.

لا يمكننا التعامل مع مفهومي “العاطفة الإيجابية” و”العاطفة السلبية” بمعزل عن سياقهما. ولا يمكن تصنيف المشاعر على أنها “إيجابية” أو “سلبية” إلا من خلال النظر في المشاعر المذكورة ضمن سياق، في إطار السوابق والصفات الذاتية والتبعية. إن تجاهل الأهمية التكيفية للعواطف يعني فقدان معلومات مهمة حول الدور المختلف الذي يمكن أن تلعبه العواطف في تكيف الأشخاص مع مواقف الحياة المختلفة. على سبيل المثال، يمكن للخوف، في لحظة معينة، أن يكون له وظيفة إيجابية إذا كان يحذرنا من خطر حقيقي يهدد بقائنا.

تتطلب المقاربة العلمية للعواطف دراسة تلك المناطق من الدماغ التي يتم تنشيطها عندما نشعر بالسعادة أو الحزن، وفهم ما هي تداعيات بعض المشاعر علينا، وكيف يعمل الجهاز الحوفي (المسؤول عن العواطف) وقشرة الفص الجبهي (المسؤولة عن الإدراك والاستدلال)… لا شيء من هذا موجود في مجال علم النفس الإيجابي.

طغيان التفاؤل

يتطلب أي تقدم في الحياة مواجهة الجوانب المظلمة وغير السارة في العالم وفي أنفسنا. ومع ذلك، ينبع علم النفس الإيجابي من رغبة في تجنب مواجهة الواقع. إنه استراتيجية للهروب من الخوف الناتج عن وجود محفزات “منفرة”.

إن القاعدة العامة للتفكير بشكل إيجابي هي بلا شك جيدة، عندما تعني الحفاظ على نوع من التفاؤل في الحياة، يتمثل في الثقة بقدراتنا والعمل بطريقة تولد الثقة لدى الآخرين. إذا جاء علم النفس الإيجابي ليخبرنا بذلك، فلن يكون اكتشافًا لشيء جديد لم نكن نعرفه، لأن هذا المفهوم يشكل جزءً من علم النفس الشعبي أو ما يمكن أن نطلق عليه “الفطرة السليمة”. لكن علم النفس الإيجابي يتجاوز ذلك بكثير.

تقديس الإيجابية

التنمية البشرية
الرؤية الأمريكية للحياة

يسعى علم النفس الإيجابي لإضفاء شرعية علمية على الرؤية الأمريكية للحياة.. تلك الحياة القائمة على التفاؤل بأي ثمن. السؤال هو: ما المصالح التي تخدمها هذه الإيديولوجيا التي تقدس “الإيجابية”؟ الجواب واضح: إنها تخدم مصالح أولئك الذين يمتلكون السلطة السياسية والاقتصادية الكافية لفرض شروطهم على الآخرين. وتحت ستار الإيجابية يمكن مطالبة العمال بعدم الاحتجاج عند تخفيض أجورهم، وعدم الشكوى إذا اضطروا للعمل لساعات إضافية، وقبول الطرد من العمل دون المطالبة بحقوقهم.

وبقدر ما يتم التركيز دائمًا على الذات الفردية، يتم تهميش أو حتى محو أي إشارة إلى الهياكل والآليات الاجتماعية التي قد تكون السبب في قضايا مثل الفقر، أو قلة الفرص، أو التهميش الاجتماعي. يؤكد علم النفس الإيجابي على أن الأمر لا يتعلق بتغيير الواقع النابع من الظلم الاجتماعي، بل فقط بتغيير أفكارنا و”إظهار الإيجابية”.

هذه الإيديولوجيا لها عواقب وخيمة.. فهي تثبط الناس عن المشاركة في عمليات التغيير الاجتماعي، التي تتجاوز بكثير مجرد نطاق الذات الفردية. يركز علم النفس الإيجابي على الفوائد الشخصية التي يزعم أنها تأتي من التفكير الإيجابي، مثل الثروة، والنجاح المهني، والصحة. لكنه لا يقدم شيئًا عن تحسين المجتمع وجعله أكثر عدالة ومساواة.

الضغط الاجتماعي والقلق المرضي

من المستحيل أن يشعر الإنسان بالسعادة دائمًا. إن القسوة، والقتل، والعبودية، والإبادة الجماعية، والتحيز والتمييز، كلها أمور تجعل من الصعب أن تكون متفائلًا أو سعيدًا أمام هذه الفظائع المستمرة.

هناك حاجة لتقييم كل عاطفة وفقًا لسياقها. على سبيل المثال، الحزن في مواجهة الظلم قد يكون عاطفة مناسبة وصحية. لكن الضغط الاجتماعي المفرط لصالح الموقف المتفائل قد يدفع الأشخاص الذين يشعرون بالحزن إلى الامتناع عن التعبير عن مشاعرهم خوفًا من الرفض الاجتماعي. وهذا يؤدي إلى تفاقم حالة الحزن لديهم.

عندما نطالب الآخرين بأن يكونوا دائمًا مبتسمين ومشرقين، بدلاً من تقديم الدعم لهم ومساعدتهم على تقبل مشاعرهم السلبية دون الشعور بالذنب، فإننا نخلق تأثيرًا عكسيًا لما نسعى لتحقيقه. يؤدي طغيان التفكير الإيجابي إلى أن يسأل الناس أنفسهم باستمرار عما يجعلهم سعداء، مما يخلق قلقًا قد يصبح مرضيًا في نهاية المطاف.

علم النفس الإيجابي والسعادة

علم النفس الإيجابي والسعادة
السعادة في علم النفس الإيجابي

يُعد مفهوم السعادة نسبيًا. حيث يختلف باختلاف الثقافات والأفراد. لكن يتعامل علم النفس الإيجابي مع السعادة كما لو كانت مفهومًا مطلقًا ومتفقًا عليه. العواطف ليست مجرد نتاج مباشر لآليات فسيولوجية أو عصبية بحتة؛ بل تكون دائمًا مضمّنة في سياقات اجتماعية محددة ومشبعة بدلالات ثقافية. إن السعادة كما يفترضها علم النفس الإيجابي هي تلك الخاصة بالفرد الغربي، الأبيض، الليبرالي، القياسي. تصور السعادة على أنها إنجاز شخصي وحالة تعتمد على تأكيد الذات هو تصور يتوافق مع النظرة البروتستانتية للفرد التي تشكل جزءً أساسيًا من ثقافة أمريكا الشمالية وأوروبا الشمالية.

في الثقافات الآسيوية الشرقية، على سبيل المثال، يتركز التفكير والعمل والدوافع حول الذات في علاقتها بالآخرين. تعتبر السعادة حالة مشتركة تعتمد على التعاطف المتبادل، والرحمة، والدعم الجماعي. باختصار، السعادة ترتبط بالانسجام الاجتماعي.

النجاح في الحياة

النجاح في الحياة هو مفهوم آخر من تلك المفاهيم التي يفترض أنه بسيط وغير إشكالي. ولكن في الحقيقة هو نسبي ويختلف باختلاف تصور الأفراد والمجتمعات. يستنتج علم النفس الإيجابي، من خلال تقديم النجاح كنتيجة حتمية لخطة عمل مدروسة، أن من لا ينجح فهو المسؤول عن إخفاقه، لأنه لم يفعل ما يتعين عليه القيام به. وبالتالي، يلوم الفقراء والمحرومين على فقرهم ومعاناتهم، بدعوى أنهم لم يوجهوا عواطفهم بالشكل المناسب. ومن ناحية أخرى، يُمجّد أولئك الذين يحققون النجاح باعتبارهم وجدوا فلسفة السعادة في أنفسهم وليس في ظروفهم المادية أو الاجتماعية.

هذا النهج هو وسيلة خبيثة لتبرير النظام الاجتماعي القائم على الظلم والعنف واللامساواة.. ومن خلال الترويج لفكرة أن السعادة والنجاح يعتمدان فقط على الإرادة الذاتية، يتم تهميش الأثر الحاسم للظروف الاجتماعية والاقتصادية. هذه الرؤية تؤدي إلى فهم مشوه للمجتمع والتاريخ، مما يعيق التغيير الحقيقي والعدالة الاجتماعية.

علم النفس الإيجابي والفلسفة

لطالما تأمل الفلاسفة في مفهوم السعادة بعمق، مستخلصين رؤى أكثر دقة وتميزًا بشأن الطرق المؤدية لتحقيقها. لكن الرؤية المبسطة والسطحية التي يقدمها علم النفس الإيجابي تتجاهل التعقيد الكامن في الحياة. السعادة ليست مجرد حالة مزاجية تتحقق بغياب الألم، بل هي نتاج مشروع حياة يقبل الألم كجزء لا مفر منه من الوجود. بدون الألم، لن يكون بإمكاننا إدراك القيمة الإيجابية لنقيضه، وهو المتعة. يتجاهل علم النفس الإيجابي المعرفة الكلاسيكية المتعلقة بالذكاء العاطفي.. وهو أحد الجوانب التي لطالما كانت مركزية لفهم النفس البشرية. كان على علم النفس أن يتأمل في الفرضيات الفلسفية التي يفترضها ضمنيًا بدلاً من اعتبارها بديهية أو واضحة بذاتها.

يمكن القول إن علم النفس الإيجابي هو شكل من أشكال العلم الزائف بسبب عيوبه المنهجية وضعف نماذجه النظرية. كما أنه يُمثل فلسفة سيئة لأنه يتبنى مجموعة من الافتراضات الفلسفية بشكل غير نقدي ودون التفكير في عواقبها أو مقارنتها بالبدائل المتاحة. وأخيرًا، يعد علم النفس الإيجابي إيديولوجيا خطيرة لأنها تبرر نمطًا من العلاقات الاجتماعية يقوم على الفردية الأنانية والمفترسة.. وهو الأساس الذي يستند إليه النظام الاقتصادي الرأسمالي.

باختصار.. نحن أمام نوع من “التفكير الفيروسي” الذي يجب إخضاعه للنقد كي لا يستمر في الانتشار بين الناس.. فهو يمثل عائقًا أمام البحث العلمي، وتهديدًا لبناء مجتمع أكثر تضامنًا وعدالة.

في النهاية، تبقى السعادة سعيًا مستمرًا يتلون بألوان الألم والفرح معًا. ليست السعادة سلعة تُباع ولا وصفة جاهزة تُقدَّم، بل هي انعكاس لحياتنا بكل تناقضاتها. إن علم النفس الإيجابي، وإن بدا كمرشد في عتمة الحياة، فإنه قد يكون مرآة تعكس وهمًا لا حقيقة. وبينما نسعى نحو بناء عالم أكثر إنسانية وعدالة، علينا أن ننظر إلى السعادة بعين أكثر حكمة.. عين ترى في الألم دروسًا، وفي التحديات فرصًا، وفي الإنسانية جمالًا كاملًا لا ينفصل عن تناقضاته.

مراجع

1.    Author: Everett L. Worthington Jr., (05/16/2024), Weaknesses of Positive Psychology might be Overgeneralized: Forgiveness Studies as a Counter to the Critiques, www.link.springer.com, Retrieved: 04/15/2025.

2.    Author: Llewellyn E van Zyl & Sebastiaan Rothmann, (05/26/2022), Grand Challenges for Positive Psychology: Future Perspectives and Opportunities, www.pmc.ncbi.nlm.nih.gov, Retrieved: 04/15/2025.

3.    Author: Llewellyn Ellardus van Zyl, Jaclyn Gaffaney, Leoni Van der Vaart, Bryan J Dik & Stewart I Donaldson, (01/01/2023), The Critiques and Criticisms of Positive Psychology: A Systematic Review, www.researchgate.net, Retrieved: 04/15/2025.

 

وائل الشيمي

كاتب وأديب بدأ مسيرته الأكاديمية في مجال الصحافة، حيث حصل على بكالريوس في هذا المجال، وقاده شغفه بالإنسانية إلى دراسة علم النفس والفلسفة، وقد ساعدته دراسته وقراءاته في فهم أبعاد الشخصية البشرية وتعقيداتها. في روايته "الأجنحة السوداء" صور قضايا الوجود والتحديات النفسية التي يواجهها الإنسان في رحلة بحثه عن الإله، في سياق سردي مشوق يحمل في طياته تأملات فلسفية حول الحياة والموت، الحرية والقيود. كما أطلق في مجموعته القصصية "علامات لا تُمحى" مجموعة من القصص التي تتناول الجوانب المظلمة من التجربة البشرية، تاركاً آثارًا لا تُمحى في ذهن القارئ. إلى جانب أعماله الروائية والقصصية، ساهم الكاتب بالعديد من المقالات النقدية والحوارات الفكرية في الصحف والمجلات والمواقع الإعلامية، حيث شكلت كتاباته مساحة للتفكير والتحليل حول قضايا ثقافية واجتماعية معاصرة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

دعمك يهمنا ❤️

نحن نعمل بجد لتقديم محتوى مجاني ومفيد لك. هل يمكننا الاعتماد على دعمك بتعطيل مانع الإعلانات؟ شكرًا مقدمًا!