يميل الإنسان إلى الاستئناس بشريك تطيب معه النفس وتأمن. وفي عالمٍ أمسى حلبة يتصارع فيها الخلق للظهور والنيل والاستهلاك، قد يعتاد المرء الاستئناس بنفسه أو موهبته أو عمله أكثر مما يستأنس بشريك، فلا يُجبر على خوض معركة مع التضحيات والتفهّمات. ويوصد باباً قد ينتج عوائقاً تحول بينه وبين الظفر والانجاز، وإرضاء نفسٍ تسقط في بئر النجاحات والظهور، ظناً منه أنه يحقق نفسه، ولربما.. هو يحطم نفسه!!
وعلى الرغم من أن عدداً كبيراً ينتهج ذلك المنطق، إلا أن وازع إقامة بيت قد يتفلت كشذى عطر، فيرمي بأحدهم بين أحضان آخر فينشأ عرساً، ويحضر جمعاً، وربما ينجب طفلاً. بيد أنه يكون شذى لحظياً من قنينة رديئة، فسرعان ما يتلاشى الود والوصال، فتحدث الفرقة كون صدق وبذل (الطرفين) لم يترسخا كقاعدة للبناية..
وقد أنتج هذا المنطق زيجات تعين على النهل من الدنيا أكثر من التوغل في مشاعر يرنو إليها الفرد، ويتوسم في زواجه ملئاً لبعضها كالونس والمشاركة. وإن تمكن عناء إقامة البيت من الفرد لفترة، فعطل التمني، وكبح ملاحقة الأحلام، وحدّ من سطوة الرأس مالية.. يتآكل الودّ.. فيشعر بأنه ضحى أكثر وبادر أكثر.. فيحزن ويغضب وقد يهجر.
لذلك ما أكثر الأزواج، وما أقل الألفة..
في فيلم Marriage Story يصدر لنا المخرج نوح باومباخ قصة زواج معاصرة.. حيث الذات تتملص من تضحياتها داخل أسرة.. وتسعى لتحرر يرسمها ككيان منفصل تخضع لأهوائه الأسرة مرّات كما يخضع لها مرّات.
قصّة زواج تشارلي ونيكول، مخرج من ممثلة. موهبتان وقودهما الطموح وعدم رسم حدود. وحين يكون طرفي البيت موهوبين، يُدرج البيت على قائمة المناوشات.. فينخرط في الكثير من أزقة منفصلة قد تهوي به لو لم يتمتع الطرفان بالكثير من التفهم والمرونة والتضحية.
فخ البَذل المملوك
في البداية أبدت نيكول – سكارليت جوهانسون – كل التفهّمات والتضحيات الممكنة. فضلت عملها في التمثيل المسرحي مع زوجها، فانضمت لفرقته كي لا تقتات الأسرة الشتات. تناست حبها في المكوث بمسقط رأسها ولاية لوس أنجلوس على أن تطوف الولايات والبلدان مع زوجها العبقري.. فتعتلي خشبات المسارح منفذة ما يمليه من تعليمات على الفرقة بأكملها.
وفي حوارها مع محاميتها، ظهر أنها لم تستطع إخماد ولعها في التجلّي منفردة بعيداً عن عباءة زوجها، فموهبتها تتيح لها ذلك.. وإنها لم تتعد فرصاً في الماضي كانت سانحةً أمامها وتظهر كوميض دافئ في الأفق.. لكنها لفظتها بغية تكاتف الأسرة، وكذلك بغية الإبقاء على شعور الحبّ الذي كان متقداً في بداية العلاقة.. غير أن تلك التضحيات غير المقننة قد ساهمت في صنع زوج مهمل لكيانها وأهوائها من وجهة نظرها. لا يراها سوى عضو في فرقته المسرحيّة.. وأنثى تقيم في بيته مع طفله.. لا يعرف رقم هاتفها، ولا يطلب رأيها في أثاث البيت.. حتى أنّه سمح لنفسه خلسةً بمضاجعة إحدى العاملات في المسرح.
تضحيات وتناقضات..
أما تشارلي – آدم درايفر – فقد أبدع نوح في رسم شخصيّته في فيلم Marriage Story، حيث يقف في المنتصف بين المتناقضات والمتضادات، لا يهرول ناحية الوضاعة ولا يهرع تجاه الفضيلة. يعيّن زوجته بطلة لمسرحيّاته، ويسلّط الضوء على موهبتها.. ويتفهّم تقلبات مزاجها ونفورها دون حنق.. ومع ذلك يخونها!!
يعتبر زوجته شريكة نجاحه. بيد انّه لا يعبّر عن ذلك بالكثير من الإطراء أو التقدير. تجمعه رابطة صداقة مع أم زوجته وأختها، حتى أن المُشاهد قد يتعجّب من كمّ المرح والألفة بين تشارلي وساندرا حماته.. ومع ذلك لا يحب المكوث ولو لفترة في لوس أنجلوس حيث تهوى زوجته وتقيم حماته.
هو شخص ينطلق كسهمٍ مارقٍ تجاه عمله.. وأيضاً يشارك أسرته اللعب والهزل والجدّ، يطفئ أنوار البيت، ويرتّب ما تخلفه زوجته من فوضى دون نفور؛ فيغسل صحوناً متسخة، ويلملم ملابس وجوارب مُلقاة.
يوضح لنا نوح بطريقة غير مباشرة، لكن يسهل استنباطها، أن المشكلة الأكبر في تشارلي كزوج هي الوقوع في نفس الفخّ الذي يقع فيه كثيراً من الرجال الذين نجحوا في امتلاك قلب امرأة. وهو فخّ البذل المملوك.. فالزوجة المُحبّة، قد تُسهب في التضحيات، وتغدقك بالطاعة والبذل.. والمنتظر، هو إظهار أشكال العرفان المختلفة وليس اعتبار تضحياتها حقّاً، أو التسخيف من أي بادرة نشاط لا يندرج تحت مظلة الأسرة، وبالتحديد إن كانت الزوجة صاحبة موهبة.. فتلك أقرب للجموح من الرضا، وأركن للترحال والركض خلف الفرص من المكوث والرعاية.
وهذا يفسّر فشل نيكول في محاولاتها لأن تتشبّه بالزوجة الراضية القنوع، كونها صاحبة موهبة تشعرها وأنها دائماً تستحقّ الأفضل.
المودّة.. سطر تائه في أوراق القضيّة
قد لا يعي الإنسان ذلك السرّ الخفي الذي يقوده لمعاشرة أحدهم لسنين، يقطن معه في منزل أو حجرة أو حتى (كارافان) أو كبينة في الشارع.. يتحمل ما ينضحه عقله من قروح، ويتلذذ بما ينتجه من استقامة. يقول البعض إنه الحب، وهذا أكثر التفسيرات ضبابية.. ويقول البعض إنها الكيمياء التي تنشأ بين روحين فيمتزجا بإحكام، ليجدا في الطبع، وإن اختلف أو توغل في الغرائبية، سكينة وهدأة..
هو سرّ إلهي تكفل الرب بزراعته بين وجدانين متلاقين، فيهيئ زوجين لاستقباله، فتطول عشرتهم، وإن انعدمت سبل الحياة فأنهكهما المرض، وأكلتهما الفاقة. وينزعه من آخرين فيفترقا، وإن بُسطت سُبُل العيش. يصف الله تلك الحالة بالـ”مودّة”.
يصرّ نوح في فيلم Marriage story أن يجعل تلك المودّة كالكرة البلاستيكية يركلها الزوجين معاً، فتعتلي سطح بناية مهجورة لتذيبها شمس النهار وتأكلها، فنسج قصّة انهيار المودّة بإحكام كما يقول في إحدى اللقاءات أنّ Marriage story ما هو إلا فيلمًا لقصّة زواج عن حبّ.. وانتهت بانتكاسة.
يعرض نوح ببراعة العوامل المختلفة لاختلاس تلك المودّة. ويجعل شخصيّة تشارلي الشخصيّة المُكتشفة لأهمّ وأخطر تلك العوامل، وهو إشراك المحامين في الخلافات الزوجية.
ربما كان يرى تشارلي وميضاً تتكئ عليه العلاقة من جديد، فيعيد تشكيلها بطريقة أو بأخرى من بعد فوضى المطامع.. وأن ذلك الوميض الخافت يجب حمايته من أي نزاع ينفث في لهيبه شخصاً، فإدراج المحامين والمحكمة هو أمر من شأنه سدّ كل المسامات التي قد يتسلل منها شذى الودّ.
ربما يرى أن خيانته لا تحمل في طيّاتها شحناء كالذي سيولده محاميين متأهبين مستعرين يجهلان الملابسات، ويستأصلان تفاصيلاً ويبقيان على أخرى تخدم القضيّة والموكّل.
وهذا يفسّر تراجع تشارلي في البداية عن توكيل المحامي جاي موراتا الأقرب للشراسة والاندفاع، ونهش حقوق موكله من كرامة خصمه، فلجأ للمحامي بيرت الأقرب للرزانة والذي لا يتنحى عن الإنسانية والمروءة في عملية جلب الحقوق.
شراسة المواجهة..
يكتشف تشارلي فيما بعد أنه على خطأ. وأن المحاماة تبنى على الانحياز لا الحياد. لا تسعى للوصول لحلّ وسط بقدر جلب أكبر قدر ممكن من المنفعة. ربما في مشاكل كالانفصال بين زوجين كان بينهما مودّة ظنّ تشارلي وكذلك نيكول أن المحاميين قد يجتمعان على طاولة عشاء يرمون النكات، ويتجاذبون أطراف الحديث فتحلّ القضيّة دون بخس أحد الطرفين. لكن يكتشف تشارلي أنه الطرف المغلوب وأنه وكّل محامياً مُسالماً كبيرت.
يعود تشارلي لموراتا. وهنا يقول نوح أن مشهد المرافعة في فيلم Marriage Story بين المحاميين موراتا ونورا هو الوقود الحقيقي لنشوء أكثر المشادات شراسة في علاقة تشارلي بنيكول. فقد أبدع نوح في نسج مشهد تبزغ فيه التوتّرات والشحناء. تفاصيل صغيرة بنى عليها نوح مشهداً قد يعيش في أخلاد الجميع في سينما الأسرة.
وفي حين وكلت أحدهم لأخذ حقوقك، ستكتفي أنت بإبداء التعبيرات على وجهك، في حين يصبّ أحدهم جام غضبه، ويسترسل في حججه على خصمك. يقول نوح أنه كان مصرّاً على تصدير نيكول وتشارلي كبطلين للمشهد دون التفوّه بالكثير من الكلمات. وذلك عن طريق فنّ الكادر والكاميرا وعدساتها التي تقترب وتبتعد عن الزوجين بشكل يشعرك أنّهما بطلا مشهد لا يتفوها فيه.
تتقاذف الاتهامات بلا روية.. يقوم موراتا ويترافع واقفاً، ويستعين بلغة الجسد فيُلقي بأصابع الاتهامات ليرهب خصمه.. تخلع سارا معطفها تخفيفاً من ثقل الضغوط.. تلتزم الهدوء الذي تخلى عنه موراتا، تستعين بابتسامات وضحكات خفيفة ساخرة كي تظهر وأنها صاحبة الحجّة السليمة والسرديّة الأوقع.. لا يترك لها موراتا الفرصة فيزيد من وتيرة الاتهامات لتصل إلى حدّ الشتائم.. يجذبها ناحية الأذى، فتتهم تشارلي هي الأخرى.. يعيّن القاضي (خبيراً مقيّماً) للطرفين.
البيوت لا تستمر بالحبّ
سينما نوح تعتبر الواقع مصدراً ملهما للحكاية والمشهد، حتى إنه تأثّر بشدّة بالمخرج وودي آلن الذي صدّر في أفلامه صورة واضحة للأشخاص العاديين بتحديات وصعاب مألوفة، وكذلك أساليب تأقلم مألوفة مع نهايات متوقعة.
ثمة شحنة من الغضب قد تسربت للأنفس على إثر المرافعة، فكان بديهياً للغاية أن تتجسد تلك الشحنة على هيئة أصواتاً مرتفعة، وتراشقات ربما تصل للعنف حين تحدث خلوة بين الزوجين.. واهتم نوح بإبداء مشهداً يحدث كل يوم بطريقة غير مفتعلة.. مشهد مشاجرة الزوجين.
إن مشاهد النقاشات الحادة هي مادة خصبة للغاية لكلاً من الكاتب والمخرج لجعل مهارتهما حادة البزوغ.. فكان بديهيّاً أن ينال مشهد مشاجرة نيكول وتشارلي اهتماماً بالغاً من نوح لتصديره على الوجه الأكمل.
يحكي نوح في احدى لقاءاته عن إعداده لإخراج ذلك المشهد، وكيف يُعطي لكل نظرة وحركة قدرها.. حتى الجمادات المحيطة وشكل الجدران والأثاث.. كلّه ساهم في إخراج أكثر مشاهد فيلم Marriage story حساسيّة.
جذور الحب
الآن.. وبعدما تفلتت الشحناء، وصار الطرفين عالقين في مرامي الاتهامات.. بالطبع ستنهمر الدموع وتخر القوى وتتهدج الأنفاس.. ومع ذلك، ربما لن يكرها بعضهما البعض، فنجدهما يتعانقان بعد استنزاف كل طاقتهما في الشجار. المؤسف إنه لن يكون عناق التعاضد والعون بقدر ما هو عناق الوداع.. فطرفاً يعانق جاثياً، وطرفاً يعانق منكسراً..
جذور الحبّ الممتدة لسنين لن تَبترها الشحناء فقط. تحتاج أيضاً للفُرقة والابتعاد عن الأنظار.. لكن.. ما هو مؤكّد بعد أن تطايرت الاتهامات، واعتبر كل طرف الآخر كتلة من الصفات السيئة، أن ينعدم الودّ في الحال. وتستحيل العشرة دون انتظار لتبعات أخرى.. ولا يُنتظر أن يجمعهما بيت وسقف واحد.. وإن حصل فيتحول البيت إلى بركان نشط يلفظ حمماً من حين لآخر؛ فالاتهامات الآن صارت ورقة مطروحة على الطاولة. وهذا يفسّر في بعض الأحيان وجود الحبّ دون الودّ.
ويؤكد نوح باومباخ على انفصال الودّ عن الحب كشعورين يترتّب على كليهما ممارسات مختلفة بمشهد ربط نيكول لحذاء تشارلي في نهاية فيلم Marriage story.. لا يزال في قلبها أثراً من حبّ له، لكن هذا الأثر لن يرتقي لأن تعاشره وتجد في طبعه مأمن من شرر الدنيا.. وبلفظ آخر.. حبها لن يرتق لأن يكون وداً.
“ستحاسبين دائماً وفق معايير أعلى”
حازت الممثلة لورا ديرن على جائزة الأوسكار كأفضل ممثلة مساعدة عن دورها في فيلم Marriage story. كان الأداء مختلفاً وقويّاً في المجمل، لكن في عمليّة التمثيل يستطيع المشاهد المخضرم أن ينتقي أكثر المشاهد عبقريّة للفائز بالأوسكار، فيقول وهو يصفّق: هذا هو المشهد الذي نال عليه الأوسكار.
في مونولوج نست معه لورا أنها أمام كاميرا، وليست على خشبة مسرح، عبّرت عن مدى استياء الزوجات من فهم مجحف يتبنّاه الأزواج على حدّ وصفها، وهوّ أن الزوجة مبعث التضحيات الأوّل، ونبع البذل الذي لا ينضب، وأن الزوج يشرعن لنفسه الإهمال والغفلة والأنانية واقتصاص جزءً من مسؤولياته بالتدريج.
ربما يجد الزوج في ارتباط الأولاد بالأم مساحة لشرعنة الكثير من أفعال تريحه، أو عدم بذل وقت وجهد كافيين في العملية التربوية. وفي حين إنّه لا يوجد مثل لامع للأبوّة أو لربّ أسرة نموذجيّ في مرجعيّات بعض الأمم، فلا ينظر للرجل بعين الإقلال حين يذكر هذا المثل. فقد يفعل الزوج ما يحلو له دون ضبطه بمعايير محددة.
أمومة العذراء مريم..
على عكس الزوجة، التي تقول لورا بعروق نافرة أنها خضعت عنوّة لمعايير مثالية.. فالعذراء مريم المثل الأكثر وضوحاً للأمومة والتضحية صارت نموذجاً لن تجد الأنثى بُدّاً من السير حذوه والمقارنة به، وإلّا انهالت عليها الاتهامات.
عفويّة لورا وجرأتها قسّمت المشاهدين لنصفين.. نصف مؤيد بشدّة لما تقول، ونصف يرى في كلامها شطحاً وإجحافاً لبذل الزوج ومحاولاته.. فهناك الكثير من أزواج أفنيت حياتهم دبّاً في الأرض، وحملوا من الأعباء النفسية والجسدية الكثير على إثر عمليّة التكسّب، بل اضطروا لنسيان صحبةً ولهواً وأماكن وممارسات تدفئ أرواحهم في سبيل إقامة بيت ومشاركة زوجاتهم وتربية أطفالهم.
لكن دعنا لا ننحاز كمشاهدين.. فنورا محاميّة لن تكفّ الانحياز.. دعنا نرى جمالية المشهد والتي تكمن في كشفها الجُرح بجرأة للجميع، لتتركه لنا كي نتخذ في شأنه قراراً.. إمّا نتركه فيحوم حوله الذباب أو نسعى للإلتآمه.. هي تبعث لنا رسالة مفادها أن الزواج هو بحر التضحيات الأكبر الذي لن يبحر فيه أحدٌ كالعذراء مريم، ليبدي كل التضحيات وحده دون امتعاض.