فلسفة

مفهوم الذات: كيف يتشكل وعينا بأنفسنا؟

توجد في أعماق كل إنسان مرآة خفية، لا تعكس ملامحه الخارجية، بل تكشف عن صورته الحقيقية التي تتشكل عبر الزمن والتجارب. تلك المرآة هي مفهوم الذات.. ذلك الشعور العميق بالهوية، والتقدير الشخصي، والقيمة التي يمنحها الإنسان لنفسه. تتشكل ملامح هذا المفهوم بين أمواج الحياة المتلاطمة، تهذبه الأيام أو تجرحه، ترفعه الثقة أو تكبّله الشكوك. فكيف يتكوّن مفهوم الذات؟ وما العوامل التي تساهم في بنائه أو تقويضه؟

مفهوم الذات

الذات ليست مجرد وعي داخلي، بل هي أيضًا امتداد نحو العالم الخارجي.. مركب معقد من العلاقات مع الأشخاص والأماكن والذكريات والتجارب. ينمو هذا المركب ويتطور بمرور الزمن، متأثرًا بالمعتقدات والقيم التي نتبناها، وبالطريقة التي نتفاعل بها مع محيطنا. إن وجود الذات ليس مجرد انعكاس داخلي، بل هو حركة ديناميكية بين الداخل والخارج، بين وعي الفرد ووجوده في العالم.

تظهر الذات إلى الوجود من خلال الأفعال والاختيارات التي تخلق روابط مع العالم الخارجي. تشكل هذه الروابط فهمنا لذواتنا، مما يجعل الذات ليست جوهرًا ثابتًا، بل عملية مستمرة من التفاعل والتشكيل. أشار الفيلسوف برتراند راسل، في كتابه “مشاكل الفلسفة” إلى أن العلاقات بين الأشياء ليست مجرد انعكاسات، بل هي جوهر يحدد طبيعة الكيانات الفردية. إحدى هذه العلاقات، التي تميز الإنسان، هي القدرة على الوعي الذاتي الانعكاسي، أي أن نجعل من أنفسنا موضوعًا لتأملاتنا وأحكامنا. فالذات تراقب ذاتها، تحاكم أفعالها، وتعيد تقييم وجودها.

قد يقال إن الذات تُخلق من العدم، لكنها في الحقيقة تنبثق من ميولنا الفطرية.. تلك التي نصقلها ونعيد تشكيلها وفقًا لاختياراتنا. وقد أظهرت دراسات على الأطفال، حتى قبل تعلمهم اللغة، أن لديهم نزعة طبيعية للتفاعل مع الآخرين، مما يدل على أن تكوين الذات يبدأ مبكرًا جدًا. وفقًا لعالم النفس الأمريكي مايكل توماسيلو، فإن هذا الميل الفطري نحو التعاون يساهم في بناء الإحساس بالذات حتى في المراحل الأولى من التطور البشري.

الذات بين الصراع والتميز

مفهوم الذات في الفلسفة
صراع الذات من أجل التميز

الذات.. المفهوم أو الإحساس بما نحن عليه كأفراد متميزين، لا يمكن أن تستمر إلا من خلال صراع دائم. فكل شيء يتآمر ضدها، لأن ما هو طبيعي هو غير المميز. وتمييز النفس يعني خلق الذات من العدم وتشكيل شذوذ يتعارض مع السياق. إن الذات بناء مصطنع، شاق وبلا شك هش، لأن الحدود التي تحددها ليست واضحة تمامًا ولا مبررة بشكل قاطع، لذا لا بد من بنائها مرارًا وتكرارًا في مواجهة ضربات الوجود.

الذات بحاجة دائمة إلى إثبات تميزها وإظهار اختلافها. والخطر الأكبر الذي يواجهها هو أن تذوب في الآخر، أي آخر كان. ولهذا، فإن أول علاماتها وأكثرها وضوحًا هي الجسد، وحدودها الأولية هي الجلد. رؤية الجسد والإحساس به ككيان فريد منفصل عن محيطه، ومادة منعزلة إلى حد ما تتشكل وسط غبار النجوم، هو ما يشكل المصدر الأولي لفكرة ومفهوم الذات. لكن هذا لا يكفي، لأن الذات مفهوم ميتافيزيقي ينتمي إلى عالم الفكر.

لا تكتفي الذات أن تكشف عن نفسها من خلال أفعالها، بل يجب أن تشعر بأنها كيان فاعل، يرسم وجوده. باختصار، تحتاج إلى أن تشعر بأنها إرادة، وبالتالي بأنها حرة. وبدون القدرة على الاختيار، لن يكون هناك وجود للذات. ومن دون تلك الصوت الداخلي الذي نسميه الوعي، وهو صدى النشاط العقلي، لن يكون هناك “أنا”. ولكن بما أن الذات هي بناء عقلي يرتكز على تلك الفردية المفترضة، فهي بحاجة دائمة إلى إعادة تأكيد نفسها.

من أين يأتي مفهوم الذات؟

هل ينشأ بشكل طبيعي، بطريقة ميكانيكية، من تجربتنا في إدراك أنفسنا كجسد، أو إرادة، أو خطاب داخلي؟ أم أن كل ذلك لا يكفي؟ ربما يكون هناك حاجة إلى عنصر شيء آخر، شيء تفرضه طبيعتنا الاجتماعية. حيث يتطلب مفهوم الذات اعترافًا من الآخرين، وعلاقة مع الآخرين يتم فيها منحنا هوية فردية.

من المحتمل أننا نتعلم فهم أنفسنا كـ”أنا” من خلال استيعاب حقيقة أن الآخرين يعاملوننا ككيانات منفصلة.. عندما يخبرونا مرارًا وتكرارًا أننا كذلك.. عند ولادتنا، يُمنح لنا اسم، ومنذ ذلك الحين نعتبر أفرادًا. ولكن ماذا لو لم يُنظر إلينا ككيانات مستقلة؟ ماذا لو لم يُطلق علينا اسم، أو لم يُستجب لنداءاتنا، أو لم يرد أحد عندما نتحدث؟ ماذا لو لم يكن لقراراتنا ورغباتنا أي اعتبار؟

ربما يكون من المستحيل علينا أن نتصور ذاتنا أنفسنا، وحتى لو لمحناها فلن نجدها مقنعة. لكن العكس تمامًا قد يؤدي إلى النتيجة ذاتها: لو تحققت جميع رغباتنا دون مقاومة، ولو لم يواجهنا شيء، حينها قد تتوهم الذات أنها كيان شامل مطلق.. قوة خفية تهيمن على كل شيء، أو ربما لن تتمكن حتى من تصور نفسها، إذ لن يكن هناك حدود تميزها. وعندها، ستندمج الذات مع الكل – الذي هو اللاشيء – وهذه المطابقة بالذات هي ما تلغي الذات.

ترسم هذه التناقضات ملامح المهمة الشاقة التي تواجهها الذات.. ليس فقط تأسيس نفسها، بل الاستمرار في تأكيد وجودها باستمرار، لأن يقينها بوجودها ليس مطلقًا ولا نهائيًا أبدًا. ولهذا، فإن الذات هي قبل كل شيء صراع، إذ كما تقترح الفلسفة الشرقية، حيثما تُرسم حدود، تبدأ حرب.

التهديدات الوجودية للذات

أهمية مفهوم الذات
أعمق مخاوف الذات

هناك تهديدان يمكن وصفهما بأنهما “وجوديان” بالنسبة للذات، وهما في الوقت نفسه أعمق مخاوفها: غياب الاعتراف الذاتي وغياب الاعتراف من الآخرين. فكلما نظرت الذات إلى المرآة، يجب أن تجد نفسها منعكسة فيها.. وإذا حدث أن نظرت يومًا ولم تر نفسها، فسيكون ذلك علامة، بل شبهة لا تحتمل حول عدم وجودها. وبما أن الآخرين هم مرآتها أيضًا، فإن الذات لا تحتاج فقط إلى أن ترى نفسها، بل تحتاج إلى أن يُعترف بها من قبل الآخرين، إلى أن تلمحها نظراتهم وتقرّ بوجودها. تحتاج الذات إلى تأكيد دائم على ظهورها، ولهذا يجب أن تتصرف كذات.. أن تمارس إرادتها وقوتها.. أن تختبر مدى فاعليتهما، وفي الوقت نفسه أن تشعر بمقاومة البيئة وحدودها الصلبة.

يضيف البعد الاجتماعي للذات مستوى آخر إلى هذه المهمة.. مستوى يمكن تسميته “النوعي”. لا يكتفي الآخرون بالاعتراف بنا أو تجاهلنا، أو التعاون معنا أو معارضتنا؛ بل إنهم أيضًا يصدرون الأحكام. يخبروننا إلى أي مدى نتصرف “بشكل صحيح” أو “بشكل خاطئ”. هذا القبول أو الرفض هو ما يشكل الأخلاق، والأخلاق بدورها ترسم ملامح الذات.

هذه الساحة التي يصبح فيها الحكم أداة لصياغة الهوية تكتسب طابعًا بالغ الأهمية، لأنها تضيف بعدًا للقيمة، وتفتح مجالًا لا نهائيًا لعمل الذات.. فلا يكفي أن تكون، بل يجب أن تكون وفقًا للمعيار.. يجب أن يكون وجودها مقرًا به من قِبَل الجماعة. بل أكثر من ذلك: هناك درجات لا متناهية من “الصواب” و”الخطأ”، مما يؤدي إلى تصنيف الذات بين الآخرين، إلى تحديد مدى تفوقنا أو تدنينا في الجماعة.

البحث عن الاعتراف والتقدير

تسعى الذات إلى أن تكون معترفًا بها، قوية، ومحبوبة، وتشعر بالتقدير.. ولكي تحقق ذلك، عليها أن تكون جيدة.. ليس فقط جيدة، بل عليها أن تكون الأفضل، أو على الأقل ألا تكون بين الأسوأ. هذه المهمة الجديدة تبدو غير قابلة للاستنفاد، إذ يمكن للمرء دائمًا أن يكون أفضل من شخص آخر، أو بالأحرى، يمكن دائمًا أن يظهر شخص آخر يكون أفضل منه. وهكذا، تجد الذات نفسها في حالة رقابة دائمة.. تراقب نفسها بلا انقطاع، وتراقب الآخرين الذين يراقبونها.. عليها أن تختبر قيمتها.. أن تقيسها بالمقارنة مع قيمة الآخرين. وهكذا، يظهر تهديد جديد للذات: إمكانية أن تكون في وضع “سيئ”، وما يترتب على ذلك من تداعيات كارثية، مثل الرفض، أو الازدراء، أو التجاهل، أو الإلغاء، أو الخضوع…

لا عجب، إذًا، أن تكون الذات، كما علمنا الحكماء الشرقيون منذ آلاف السنين، المصدر الأكبر للمعاناة والقلق عند الإنسان. تجعلنا ذاتنا في حاجة دائمة إلى التأكد من أننا معترف بنا ومقدَّرون، وإلى معرفة مدى هذا الاعتراف والتقدير. هناك قلة من الأمور أكثر تدميرًا من تدني تقدير الذات، أي انخفاض قيمة الذات في نظر صاحبها. لكن تقدير الذات مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالتقدير الذي نحظى به من الآخرين، وبقدرتنا على التأثير في محيطنا وممارسة إرادتنا. ولهذا، فإن رأي الآخرين فينا يهمنا إلى حد بعيد؛ ويبعث فينا الحب والطمأنينة، ويمنحنا الإعجاب الرضا.. إن الفوز في المنافسة مهم لنا، ولو من حين إلى آخر. هناك نوع من التلاشي الوجودي في الإحساس بفقدان القوة، وعلى العكس، هناك امتداد للذات حين نشعر بقدرتنا على تحقيق ما نريد.

أشار سبينوزا إلى ذلك، وأطلق على هذه القدرة اسم “القوة” أو “القدرة على الفعل، يقول سبينوزا:

حين تتأمل النفس ذاتها وقدرتها على الفعل، فإنها تبتهج، وتزداد بهجتها كلما تخيلت ذاتها وقدرتها بوضوح أكبر، وفي المقابل بمجرد أن تتخيل النفس عجزها، تشعر بالحزن..

لاحظ أن الفيلسوف يؤكد على أهمية التمايز، إذ لا يمكن أن يكون هناك ذات(أو روح) من دون أن تتميز بطريقة ما عن غيرها.

مفهوم الذات والتفاعلات الاجتماعية

يمكن فهم جزء كبير من التفاعلات الاجتماعية – وربما جميعها، باستثناء تلك التي تستهدف البقاء فحسب – من خلال هذا المنظور الذي يبرز مطالب الذات: الاعتراف، والتقدير، والقدرة. تبدو بعض هذه التفاعلات واضحة: الشعور بالفخر عندما نتلقى التهنئة، المتعة الناتجة عن الفوز بمسابقة أو تحقيق مكاسب في صفقة، أو الرضا الناجم عن نجاحنا في إصلاح جهاز معطل. غير أن هناك مواقف أخرى لا تكشف عن دوافعها بهذه الصراحة، وغالبًا ما تفاجئنا، بل وتثير حيرتنا. لننظر في بعض الأمثلة.

حاجة الطفل لجذب الانتباه

علم نفس الطفل
كيف يبدأ الطفل في التعبير عن نفسه

يمتلك الأطفال حاجة درامية، لا تُفهم دائمًا، لأن يُرى وجودهم. حيث لا تزال ذات الطفل هشة وضعيفة للغاية، وتعتمد بشكل كامل على اعتراف الآخرين بها (أولًا من الأم، ثم من باقي الأشخاص الذين يتفاعل معهم الطفل). إن الشعور بعدم رؤيته في نظر الآخرين يعادل لديه الخوف العميق من العدم. لهذا، يحتاج الأطفال باستمرار إلى لفت الانتباه، والنظر إليهم، والتحدث إليهم.. وإذا لم يحصلوا على هذا الاهتمام عن طريق الحب، فسيسعون إليه عبر الغضب أو حتى من خلال التعرض للتوبيخ، فذلك في نظرهم أفضل من أن يكونوا غير مرئيين تمامًا. إن الصراخ أو حتى العقاب الجسدي قد يكونان أفضل من التجاهل، وإن لم يجدوا أي وسيلة أخرى، فسيفعلون أي شيء لاستفزاز هذه الاستجابات.

يبكي الأطفال منذ سن مبكرة، ويركلون، ويرمون الأشياء أو يكسرونها، أو حتى يعاندون لمجرد تحقيق تلك الغاية عندما ينظر إليهم أحدهم ويقول له شيء ما، ثم يهدأون غالبًا. لكن للأسف، بعض الأطفال يبقون عالقين في هذه الأدوار، إما بسبب عدم عرض أي أدوار أخرى عليهم، أو لأنهم لم يجدوا طريقة أخرى لجذب الانتباه. ليس من المبالغة القول إن بعض الأطفال يصبحون أسرى لأنماط سلوكية غير اجتماعية؛ وإذا لم يُنقَذوا منها، فمن المحتمل أن تستمر معهم حتى البلوغ، وعندئذٍ سيكون من الصعب جدًا تغييرها. والنتيجة واضحة: لا توجد مدرسة أفضل من الحب، فهو لا يقتصر على الاعتراف فقط، بل يشمل أيضًا التقدير والتغذية المستمرة لتقدير الذات. ويجب ألا ننسى هشاشة الذات: لا بد من إعادة تأكيدها مرارًا وتكرارًا، عبر تكرار الكلمات المحبة بلا كلل، وإظهار الاهتمام الحقيقي بكل ما يفعله الطفل. فالحب هو أفضل دواء لجروح الذات.

مختبر العلاقات الإنسانية

أما العلاقة الزوجية، فهي مختبر نموذجي للعلاقات الإنسانية، وذلك بسبب مستوى القرب الشديد بين الطرفين، والتوقعات – المبالغ فيها – التي نضعها فيها. يمكننا تحمل التجاهل في الشارع، بل حتى في العمل، لكن لا يمكننا تحمله في المنزل. هناك، نحن بحاجة إلى أن نُرى، إلى أن نحظى بالاهتمام والتقدير. تختبر الخلافات قوة العلاقات العاطفية، ولكن لا شيء يدمّرها أكثر من اللامبالاة. كل هذا يبدو واضحًا تمامًا. ولكن هناك ظواهر أخرى أكثر غموضًا ولا تبدو بنفس الوضوح.

هناك تنافس مستمر في العلاقة الزوجية (وفي العائلات بشكل عام)، لأن التنافس هو أحد طرق تأكيد الذات واختبار قيمته. وقد أظهرت الدراسات أن العلاقة تكون أكثر استقرارًا إذا تخصص كل طرف في شيء مختلف؛ فعندها، لن يُنظر إلى نجاح الشريك على أنه تهديد للقيمة الذاتية، مما يقلل الحاجة إلى المنافسة ويخفف من الشعور بالإحباط أمام إنجازات الآخر.

مفهوم الذات والقواسم المشتركة

مفهوم الذات الاجتماعي
مفهوم الذات الاجتماعية

يحدث شيء مشابه مع الأذواق والهوايات والتفضيلات. عندما نحب، نرغب في مشاركة كل شيء، وللاقتراب من بعضنا البعض، نبحث عن القواسم المشتركة. ولكن إذا تشابهنا كثيرًا، فسيأتي وقت نشعر فيه بالحاجة إلى إحياء تميزنا، أي إنقاذ الذات من الاندماج الذي يهددها بالذوبان. إن العيش معًا يتطلب إعادة ترتيب الأولويات، ومع مرور الوقت، قد يفاجأ أحدنا بمدى تغيّره في اتجاهات غير متوقعة، وأحيانًا غير مرغوبة، لمجرد الرغبة في التميز أو الاختلاف. فقد يتحول الشخص اللطيف والمتسامح إلى شخص متسلط أو جاف في التعامل مع شريك خاضع، ليس فقط بسبب انزعاجه من الخضوع، ولكن بفعل مبدأ التكامل.

إذا كان كلا الشريكين في البداية يحب الخروج كثيرًا، فقد يتحول أحدهما تدريجيًا إلى شخص يفضل البقاء في المنزل، بينما يصبح الآخر أكثر تمسكًا بالخروج من ذي قبل، في تجسيد لفكرة “التناغم بين الأضداد” التي تحدث عنها هيراقليطس. فالأضداد لا تتجاذب فحسب، بل تتكامل وتُبقي العلاقة مشدودة بحالة من التوازن الديناميكي. وغالبًا ما يحدث حتى تبادل للأدوار: يكفي أن يصبح الشخص الأكثر تنظيمًا أكثر إهمالًا ليجد الآخر نفسه، فجأة، متحمسًا للحفاظ على النظام.

في كل الأحوال، يبدو من الحكمة أن تحترم العلاقة الزوجية (وكذلك أي علاقة إنسانية) حدودًا معينة، وألا يكون هناك إصرار على مشاركة كل شيء، بل يجب ترك مساحة كافية للتميز الفردي. من الصعب تحقيق التوازن بين التقارب والاختلاف، ولعل هذا هو السبب في أن كثيرًا من المحاولات في العلاقات الإنسانية تنتهي بالفشل.

مغامرات الحياة

إن الحاجة إلى التقدير والشعور بالكفاءة توجه الكثير من قراراتنا طوال الحياة. هل نحب ما نجيده، أم أننا نصبح بارعين في شيء ما لأننا نحبه؟ من المرجح أن كلا الاتجاهين متكاملان وينموان معًا. لكن من المؤكد أن من الصعب أن يحدث شيء لا يستوفي هذين الشرطين معًا: أن نحب شيئًا لا نشعر بالكفاءة فيه، أو أن نصبح ماهرين في شيء لا نستمتع به. في الحالة الأولى، مواجهة العجز تعدّ عقبة أمام الذات وتضعف تقدير الذات؛ كنت أحلم بأن أكون شريكًا جيدًا في الرقص، لكن الواقع أنني كنت أدهس الأقدام أكثر مما أخطو، ولهذا لم أشعر بالراحة في أماكن الرقص. لكن لا يتقن المرء شيئًا إلا بالممارسة، ولا بد لي من الاعتراف بأنني لم أكن أبذل جهدًا كبيرًا في الرقص أصلًا.

في نهاية المطاف، التعامل مع الذات يجعل الحياة أكثر صعوبة، ولكنه أيضًا يجعلها أكثر إثارة. يطمح البوذيون إلى إلغاء استبداد الذات والتحرر من مطالبها المتناقضة والمرهقة. من المرهق أن نكون مضطرين دائمًا إلى السعي لنيل الاعتراف والتقدير، والمقارنة والتنافس؛ ومن المحبط أن نرى هذه الطموحات تُحبط مرارًا، أو أن نشعر بخيبة الأمل والعار عند الفشل، أو بالحسد والغيرة عندما نجد أن الآخرين يتفوقون علينا. ومع ذلك، فإن الحياة تصبح أكثر إشراقًا عندما نُقدَّر، وبدون دافع الإنجاز لن نبذل الجهد في البناء والابتكار. لا بد من بعض الغرور والكثير من الطموح للانطلاق في مغامرات الحياة، كما يعلمنا أوليس.

مواسم الذات البشرية

قد تكمن الحكمة في “الطريق الأوسط” الأرسطي، أي تحقيق التوازن المناسب في كل شيء. يجب أن تكون فترة الشباب مرحلة تأسيسية ومغامرة، مليئة بالتحديات والخيبات، ولا مفر من أن تدفع حيويتها المتدفقة بالكثير من الجهد والمعاناة، التي يجب تعلم كيفية ضبطها بمرور الوقت. فالشباب يمتلك طاقة زائدة لدرجة أنه يحتاج أحيانًا إلى إيجاد طرق لإهدارها. ومع النضج، يظهر التقدير للمرافئ الهادئة والإبحار السلس، حين يكون لدينا “ذات” أكثر صلابة وخبرة، ولكنها أيضًا أكثر إنهاكًا وتشككًا، ذات قد لا تكون بحاجة إلى الكثير من المتفرجين أو النجاح إذا استُثمرت الحياة بشكل جيد.

يقال إنه في بعض مناطق الهند، كان هناك تقليد ينص على أنه بمجرد بلوغ الرجال سن الخمسين، يضعون التزاماتهم العائلية جانبًا ويتفرغون للصلاة والتأمل. إن الذات لها أيضًا مواسمها، ومن الجيد أن تستسلم في فصولها الأخيرة.

في النهاية، يظل مفهوم الذات أحد أكثر الأفكار الفلسفية تعقيدًا وإثارة للتأمل، فالذات ليست مجرد كيان ثابت، بل كيان متغير يتجلى في اختياراتنا وأفعالنا وعلاقاتنا. وبينما قد يستحيل علينا الإمساك به كحقيقة مطلقة، فإننا نعيشه كل يوم، في كل لحظة، من خلال وجودنا المتشابك مع العالم. يبدو مفهوم الذات كالحديقة التي يزرعها الإنسان بيده، فإن أحسن غرسها بالحب والثقة والإيمان بقدراته، أينعت وأزهرت، وإن تركها فريسة للشكوك والمخاوف، ذبلت وأجدبت. إنها انعكاس صادق لرحلتنا في هذه الحياة، تتغير ملامحها بتغير وعينا ونظرتنا لأنفسنا. فليكن لكلٍّ منا مرآته الصافية التي لا تشوّهها أحكام الآخرين، بل تنبع صورتها من إدراك عميق لقيمتنا الفريدة، التي لا يُحدّدها أحد سوانا.

المراجع:

1. Author: Mateusz Woźniak, (9/4/2018), “I” and “Me”: The Self in the Context of Consciousness, www.frontiersin.org, Retrieved: 02/05/2025.

2. Author: Robert B. BurnsClifford B. Dobson, (7/7/2004), The self-concept, www.link.springer.com, Retrieved: 02/05/2025.

وائل الشيمي

كاتب وأديب بدأ مسيرته الأكاديمية في مجال الصحافة، حيث حصل على بكالريوس في هذا المجال، وقاده شغفه بالإنسانية إلى دراسة علم النفس والفلسفة، وقد ساعدته دراسته وقراءاته في فهم أبعاد الشخصية البشرية وتعقيداتها. في روايته "الأجنحة السوداء" صور قضايا الوجود والتحديات النفسية التي يواجهها الإنسان في رحلة بحثه عن الإله، في سياق سردي مشوق يحمل في طياته تأملات فلسفية حول الحياة والموت، الحرية والقيود. كما أطلق في مجموعته القصصية "علامات لا تُمحى" مجموعة من القصص التي تتناول الجوانب المظلمة من التجربة البشرية، تاركاً آثارًا لا تُمحى في ذهن القارئ. إلى جانب أعماله الروائية والقصصية، ساهم الكاتب بالعديد من المقالات النقدية والحوارات الفكرية في الصحف والمجلات والمواقع الإعلامية، حيث شكلت كتاباته مساحة للتفكير والتحليل حول قضايا ثقافية واجتماعية معاصرة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

دعمك يهمنا ❤️

نحن نعمل بجد لتقديم محتوى مجاني ومفيد لك. هل يمكننا الاعتماد على دعمك بتعطيل مانع الإعلانات؟ شكرًا مقدمًا!