السعادة البشرية بين وهج الحلم وظلال الواقع

هناك عطش لا يرتوي في أعماق كل إنسان، توق دفين للسعادة، ذلك النور المتلألئ الذي يلوح لنا دائمًا من بعيد، لكنه ما إن نقترب منه حتى يبدو كسراب يتلاشى. نبحث جميعًا عن السعادة البشرية بلا هوادة. نلاحقها في كتب المساعدة الذاتية، في نصائح عابرة، وفي وعود براقة تقول لنا بأن “السعادة اختيار”. لكن، هل نحن حقًا ملزمون بأن نكون سعداء؟ أم أن هذا السعي المحموم مجرد وهم يثقل كواهلنا بدل أن يحرر أرواحنا؟
وصفات جاهزة للسعادة
نعيش في عصر غريب يوهمنا بأننا سنحصل على السعادة إذا اتبعنا التعليمات.. تؤكد كتب التنمية الذاتية على ضرورة أن نكون سعداء، وتضع أمامنا التعليمات التي يجب علينا الالتزام بها للعثور على السعادة؟
تحولت السعادة في زمننا إلى وصفة جاهزة، إلى قانون اجتماعي غير مكتوب: “كن سعيدًا، وإلا فأنت مخطئ”. ولكن ماذا لو كانت المشاعر الأخرى، من حزنٍ وخوفٍ وغضب، جزءً أصيلًا من إنسانيتنا؟ ماذا لو كان البحث عن التوازن أهم من مطاردة وهم الفرح الدائم؟
قال لي أحدهم ذات مرة: “لا أفهم لماذا أشعر بالإحباط رغم أن لدي كل ما يجعلني سعيدًا”.. وكأن الحزن تسلل إليه خلسة رغم امتلاكه مفاتيح الفرح. نظر آخر إلى الأرض، وكأنه يحمل سرًّا دفينًا، ثم تمتم: “يجب أن أرى الأمور بإيجابية، لكنني لا أستطيع”..
في كل زاوية من زوايا الإنترنت، تتكاثر نصائح السعادة كالفطر بعد المطر، حتى الصحف الرصينة تقتبس دراسات من أرقى الجامعات حول “سر” السعادة. لكني أتساءل: هل نحصر السعادة في وصفات جاهزة وتعليمات حرفية؟
يتفق عالم النفس سفيند برينكمان معي في هذا القلق، إذ يرى أن كتب المساعدة الذاتية لا تكتفي بعدم تقديم العون الحقيقي، بل إنها قد تساهم في زيادة القلق والنرجسية وحتى الاكتئاب. حيث تختزل هذه الكتب والمقالات السعادة إلى مفهوم مشوَّه، وتغفل عن جوانب أساسية في النفس البشرية.
السعادة المفروضة
لا تشرح هذه “الوصفات السحرية” ماهية السعادة، بل تفترض تعريفًا ضمنيًا لها: جنة عاطفية مثالية. لا تترك مساحة للقارئ ليعيد تعريفها وفق تجربته الخاصة، ليعيد اكتشاف لحظات الفرح التي عاشها في حياته، وليفهم كيف تتجلى السعادة بالنسبة له. والأخطر من ذلك، أنها تصور السعادة كهدف نهائي يجب السعي إليه بأي ثمن.
يحمل هذا الأمر مخاطرة مزدوجة؛ أولًا عدم إدراك أن السعادة ليست دائمًا الخيار الأنسب. حيث يكون الشعور بالحزن أو الغضب أو الخوف ضروريًا لحمايتنا في بعض الأحيان. يعيننا الحزن على معالجة الفقدان، ويساعدنا الغضب على وضع الحدود، ويحذرنا الخوف من الأخطار. إذا تجاهلنا هذه المشاعر بحجة “وجوب السعادة”، فقد نخسر إشارات هامة عن أنفسنا وعن العالم. وثانيًا، تحويل السعادة إلى التزام ثقيل، مما يجعلنا نشعر بالذنب حين نفشل في تحقيقها، وكأننا خذلنا أنفسنا.
كتب المساعدة الذاتية
تكمن مشكلة كتب المساعدة الذاتية في أنها تركز على الفكر والسلوك، متجاهلة العواطف تمامًا. قد تقرأ نصيحة مثل: “أحب نفسك أكثر”، ولكن كيف؟ وماذا لو كنت أمًّا وحيدة، مسؤولة عن أطفالك، تعمل بدوام كامل، ولا تجد لحظة فراغ لنفسك؟
قال لي أحدهم ساخرًا: “يخبرونك أن تمنح نفسك الوقت، لكن لا يخبرونك من أين تأتي به!”. تفترض هذه النصائح أن الجميع يعيشون في ظروف مثالية، ولا تعترف بتعقيدات الحياة الواقعية. المشكلة الأعمق أن هذه الوصفات تتجاهل جذور مشاعرنا، فالكثير من أنماط التفكير التي نرغب في تغييرها لم تنشأ من العدم، بل هي استجابات قديمة للتجارب التي عشناها.
أتذكر صديق لي كان يعاني من تشاؤم مزمن. لطالما وبّخه الآخرون على نظرته السوداوية، لكن لا أحد تساءل: لماذا؟ في طفولته، كان والده عنيفًا، وكان التشاؤم وسيلته الوحيدة لحماية نفسه؛ توقُّع الأسوأ جعله أكثر استعدادًا لمواجهة الغضب المفاجئ. في تلك المرحلة، كان التشاؤم ضروريًا للبقاء، لكنه استمر معه حتى عندما لم يعد بحاجة إليه..
إذا حاولنا تغيير أنفسنا دون فهم هذه الجذور، فإننا نخاطر بفقدان توازننا الداخلي، وسرعان ما نعود إلى أنماطنا القديمة بحثًا عن الاستقرار. لكن هل يخبرنا أي كتاب للمساعدة الذاتية عن ذلك؟
السعادة ليست فرضًا… بل توازن
تغرس فينا هذه الوصفات إحساسًا بالذنب. إذا لم نحقق السعادة التي وعدونا بها، فإن المشكلة فينا: لأننا لم نحاول بما يكفي، أو لم نمتلك الإرادة القوية، أو فعلنا شيئًا خاطئًا. لكن الحقيقة هي أن الكثير مما تروّجه هذه الكتب ليس واقعيًا. عبارات مثل “يمكنك تحقيق أي شيء تضعه في ذهنك” تبدو رائعة، لكنها تتجاهل حقيقة أن لكل منا حدوده الخاصة، وأن تقبُّل هذه الحدود قد يكون مفتاحًا لراحة النفس.
لماذا نتعثر في طريق السعادة البشرية؟
حين نتأمل أسباب تعاستنا، نجدها متشابكة كأغصان شجرة قديمة، بعضها ينمو في تربة الطمع، وبعضها في ظل الأوهام. نبحث عن اللذة السريعة، تلك التي تشتعل للحظة ثم تنطفئ، تاركة وراءها رماد الفراغ. نفرط في السهر، نغرق في الضحك، نتلهف على النجاح المادي، وننسى أن السعادة ليست في عدد اللحظات التي نضحك فيها، بل في عمقها وأصالتها.
ثم هناك الأنانية، ذلك الجدار الذي نبنيه حول قلوبنا، فننغلق داخل قلاع الوحدة، وننسى أن الفرح لا يكون كاملاً إلا إذا تشاركناه. ومن هنا، يولد التنافس، النقد الجارح، والإحساس المزمن بعدم الكفاية. وكأننا نركض في سباق لا نهاية له، وكلما اقتربنا من خط النهاية، وجدناه قد ابتعد خطوة أخرى.
أما الزمن، فهو ذلك اللص الخفي الذي يسرق منا الحاضر. فمنَّا من يسجن نفسه في أقبية الماضي، يسترجع الألم مرارًا وكأنه يتلذذ به، ومنَّا من يعيش رهينة للغد، يخشى ما لم يأتِ بعد، فيضيع بين الندم والخوف، دون أن يجرؤ على الاستمتاع بلحظته الراهنة.
السعادة كرحلة داخلية
لكن السعادة ليست كنزًا مدفونًا علينا العثور عليه، بل هي بناء مستمر، لبنة فوق أخرى، رحلة نحو الداخل قبل أن تكون رحلة نحو الخارج. نحن كائنات غير مكتملة، وهذه النقصان هو ما يجعلنا نتحرك، نتطور، نبحث عن المعنى. فهل سألت نفسك يومًا: هل أصبحت شخصًا أفضل مما كنت عليه بالأمس؟ هل نما وعيك؟ هل اقتربت خطوة نحو ذاتك الحقيقية؟ إذا كان الجواب نعم، فقد لمست شيئًا من جوهر السعادة.
لكن لا يكفي أن نتغير خارجيًا، لا بد أن نغوص في أعماقنا، أن نبني داخلنا قصرًا من التأمل والوعي. أن نبحث عن الحكمة، ليس في الكتب فقط، بل في التجارب، في الأخطاء، في العثرات التي تصقل أرواحنا. ففي كل ألم، هناك درس مخفي، وفي كل خيبة، هناك بذرة لنضج جديد. الألم ليس نقيض السعادة، بل هو طريق إليها، لمن عرف كيف يستخرج منه معنى.
مفاتيح السعادة البشرية: ومضات على الطريق
السعادة ليست سرابًا، لكنها تحتاج إلى مفاتيح نفتح بها أبوابها:
- الحركة والنمو: لا تتوقف عن التطور، عن التعلم، عن أن تصبح أفضل مما كنت عليه بالأمس.
- الوعي بالذات: أن تعرف نفسك هو الخطوة الأولى نحو السلام الداخلي. الجاهل بنفسه لا يمكن أن يكون سعيدًا.
- الحكمة: ليست السعادة في الجهل كما يظن البعض، بل في فهم الحياة بعمق، في اكتشاف المعاني الخفية وراء الأحداث.
- تحويل الألم إلى درس: لا تدع جراحك تكسرك، بل اجعلها جسورًا تعبر بها نحو وعي أوسع.
- المحبة والانسجام: كن قريبًا من الآخرين، فالحياة لا تحتمل وحدتنا القاسية.
- اكتشاف الجمال: في الأشياء الصغيرة، في لحظة غروب، في ابتسامة طفل، في صوت المطر.
- الصدق مع النفس: لا تعش حياة مزدوجة، كن منسجمًا مع ذاتك، فالنزاهة الداخلية تثمر طمأنينة لا تقدر بثمن.
- العطاء: لا تنتظر السعادة من الآخرين، بل كن أنت مصدرها. امنح بلا مقابل، ولو كان ذلك مجرد كلمة طيبة.
- روح الدعابة: لا تأخذ الحياة بجدية قاتلة، فبعض الضحك قد يجعل الرحلة أقل وعورة.
- الكرامة: ليست تلك التي يمنحها لنا الآخرون، بل التي نستمدها من احترامنا لأنفسنا، من شعورنا العميق بأننا كائنات تستحق الحب والسلام.
جنة السعادة البشرية المطلقة
السعادة البشرية ليست محطة نهائية، بل تجربة متحركة، تأتي وتذهب، مثل الموج في بحر الحياة. قد لا نصل أبدًا إلى “جنة السعادة المطلقة”، لكننا نستطيع العيش في سلام مع ذواتنا، وهو ما يبدو لي هدفًا أكثر واقعية… وأكثر إنسانية..
قد تفلت السعادة من بين أيدينا كعصفور طليق، لكن إن كانت قلوبنا مكسوة بعباءة الكرامة، بالحب، بالسلام الداخلي، فلن يكون الألم نهاية، بل محطة عبور نحو ضوء جديد. وإذا لم نستطع امتلاك السعادة كاملة، فلنكن على الأقل من صناعها، لأنفسنا ولمن حولنا. فما الحياة إلا طريق طويل، والسعادة ليست وجهتها الأخيرة، بل تلك اللحظات التي نضيئها أثناء المسير.
السعادة، كما تعلمنا الحياة، ليست كنزًا يُكتشف ولا جبلًا نبلغ قمته فنرتاح. إنها موجات تتقلب بين مدّ وجزر، بين لحظات من الضوء وظلال من الحزن. حين نتوقف عن اللهاث خلفها كهدف مطلق، ونتعلم الاستماع إلى ذواتنا، نصبح أكثر قدرة على العيش بسلام، على التصالح مع تناقضاتنا، وعلى تقبّل الفرح حين يأتي دون خوف من زواله. ليس المطلوب أن نكون سعداء طوال الوقت، بل أن نكون صادقين مع أنفسنا. أن نصنع توازننا الخاص، حيث لا يكون الحزن ضعفًا، ولا يكون الفرح واجبًا، بل يكون كلاهما جزءًا من قصتنا الإنسانية الفريدة.
مقالك كان بمثابة عزاء للبؤساء والتعيسين امثالي _ شكرا جزيلا
العفو سيدي الفاضل.. وشكرًا على هذه الإشادة