أدب

خاطرة عن الحياة: رحلة الإنسان بين الألم والاختيار

الحياة نهر مضطرب، تخدعنا أحيانًا بمياهها الهادئة قبل أن تبتلعنا في دواماتها المفاجئة. نحن نمضي، نغزل أحلامنا بخيوط الاعتياد، إلى أن يصدمنا حدث صغير —ربما كلمة، ربما نظرة، أو قرار عابر— فيفتح في جدار أيامنا ثغرة لا سبيل لإغلاقها. من هنا، تبدأ الرحلة الحقيقية: رحلة الإنسان وهو يتلمس دروب الحيرة والخيبة، وهو يحاول أن يظل وفيًا لجوهره وسط انكسارات لا ترحم. بين الخسارات التي تنحت أرواحنا، والاختيارات التي تعيد رسم ملامحنا، تكتب الحياة حكاياتها الأكثر صدقًا. دعوني أتشارك معكم خاطرة عن الحياة لندرك أن الحياة لا تسير كما نشتهي، بل كما تشتهي هي. وأن قوتنا ليست في صلابتنا، بل في قدرتنا على الانكسار وإعادة التشكّل..

قصة حياتنا

تُظهر لنا العديد من القصص أشخاصًا يعيشون حياة مستقرة إلى حد ما، منغمسين في روتين يومي يمكن التنبؤ به مثل نهر هادئ يتدفق عبر الزمن دون الكثير من المفاجآت. لكن ينهار هذا الهدوء فجأة مع ظهور حدث غير متوقع يقلب الأمور رأسًا على عقب. يظهر تمزق في اللوحة الواضحة والمطمئنة، أو تتشكل دوامة على السطح الشفاف… شغف غير متوقع، خسارة فادحة، أو جرح قديم يعاود النزف. بعد هذا الاضطراب يصبح الطريق الجديد أمرًا حتميًا ومختلفًا. هكذا تقودنا الحياة من مرحلة إلى أخرى، وتجبرنا على تغيير المسار، مذكّرة إيانا بهشاشة يقينياتنا المتناهية..

في كثير من الأحيان، يكون الحدث أشبه بزلزال، أو دفعة قسرية لا مفر منها، وفي مثل هذه الحالات، لا يبق لنا سوى النجاة ومحاولة إعادة بناء أنفسنا بعد الطوفان. قد نتعرض لحادث يترك أثرًا دائمًا على أجسادنا، فنضطر إلى تعلم كيفية العيش مع هذا التغيير. أو ربما نفقد عزيزًا، وبعد فترة من التجول كالنائمين في عالم أصبح غريبًا علينا، تتوالى الأيام البطيئة مهمة تكيفنا على ذلك المشهد الجديد الذي سيظل يحمل فجوة مؤلمة على الدوام.. ليس لدينا في مثل هذه الحالات سوى خيار التعاون مع الحياة التي تميل بطبيعتها إلى إعادة التنظيم، والتسليم بتلك الخسارة المستمرة التي هي جوهر الحياة. علينا أن نعتاد هذا الألم وندوبه، والقبول بذلك التآكل المستمر الذي ينخر فينا على مر الزمن..

مفترق طرق

تأملات في الحياة
خاطرة عن الحياة: لحظات فارقة

لقد درس علماء النفس تفاصيل هذا المسار، من التمرد ضد الألم الذي يجتاحنا إلى القبول التدريجي لما سيفتقد للأبد. ولحسن الحظ، يكون الزمن دائمًا في صالحنا؛ فعلى الرغم من إنه يستهلكنا، إلا إنه يعلمنا كيف نتقبل الخسارة. تخفت إشراقة الشباب مع الوقت، وننظر إلى الوراء ونترك الحنين يهدئنا بمرارته الحلوة.

يقول العجوز ألفين ستريت في فيلم The Straight Story بتأمل لاذع:

أسوأ ما في الشيخوخة هو عندما تتذكر شبابك…

يقدم لنا الفيلم رحلة أخيرة تهدف إلى لمّ الشمل مع الأخ، وهي رحلة بسيطة في ظاهرها، لكنها تكتسب أبعادًا ملحمية.. هناك الكثير من الحقيقة، والشجاعة، والمغامرة الداخلية في هذا الإصرار العنيد على إنقاذ ما فُقد قبل فقدانه كليًا.. شرع كلاهما في عودة طويلة ومليئة بالأحداث إلى منزلهما، ليجداه قد تغير بسبب عضة الزمن التي لا مفر منها، لكنهما كانا قد تغيرا أيضًا بفعل الرحلة الطويلة..

الحياة هي التغيير، والحياة هي الخسارة. يتعين عليك الاختيار في كثير من الأحيان، وتُجبر الطبيعة البشرية الهشة على استدعاء كل قواها الخفية عندما يتعين عليها مواجهة الحقائق كمعضلات. ويتعملق الإنسان في هذه اللحظة، أو على الأقل يصبح محاربًا.. تُجبرنا الخسارة التي يفرضها القدر على تحديد الأشياء الأخرى التي سنفقدها. سيعتمد جزء من القصة المستقبلية على المسار الذي نختاره عند مفترق الطرق. إن الوعي بهذه المسؤولية يحولنا فجأة إلى أبطال، وغالبًا رغمًا عنا. تلخص هذه اللحظة من الحرية طبيعتنا الأخلاقية. هل سنقول الحقيقة أم سنلجأ إلى المزيد من التزييف؟ وهل سنواجه بجرأة أم سنتخلى بجبن؟ هل سنخاطر بأنفسنا من أجل إنقاذ البقية، أم نفضل إنقاذ أنفسنا فحسب؟ عند كل مفترق في الحياة سنواجه معضلة.

نقاط ضعفنا

خاطرة عن الحياة
خاطرة عن الحياة: الضعف الإنساني

هذا ما حدث مع بطل فيلم Locke.. يغادر لوك في البداية موقع البناء الذي يعمل فيه كمدير مشروعات، ويركب سيارته. يبدو كل شيء عاديًا للغاية: انتهى يوم العمل، وحان الوقت للعودة إلى المنزل، حيث تنتظره زوجته وأطفاله، وكل شيء معد لمتابعة مباراة كرة قدم على التلفاز. تتحرك السيارة خارج الموقع وتتوقف عند إشارة مرور. وخلال لحظة الانتظار عند الضوء الأحمر، يحدث شيء ما: يضطر البطل لاتخاذ قرار سيحدد مستقبله. يتحول الضوء إلى الأخضر، وها قد تغير كل شيء، وبدلًا من الاستمرار في الطريق المستقيم، ينحرف بسيارته إلى اليمين ويندمج في الطريق السريع.

اختار لوك أن يدع حياته المنظمة التقليدية تنزلق إلى الوحل، لتنهار تحت وطأة جزء متطفل من الواقع، وهو الجزء الذي قرر مواجهته وجهًا لوجه، حتى لو كان ذلك على حساب تدمير كل ما بناه بصبر عبر سنوات طويلة من الكفاح.. لقد ارتكب خطأ واختار أن يدفع، على الرغم من أن الثمن هو حطام كل شيء ذي قيمة. لقد أغرقت الحياة لوك في مستنقع لا قرار له..

ما هو ذلك المكان الرهيب الذي كان ينتظره بعد انعطافه إلى اليمين؟ إنه المستشفى الذي توجد فيه امرأة على وشك أن تلد طفلًا هو نتاج خيانة عابرة، لحظة صغيرة ومتسرعة لم تؤثر على نسيج حياته، ولكن نتائجها ستهز كيانه بأكمله. هكذا هي الأمور: نقطة ضعف واحدة، لحظة استسلام نتخلى فيها عن أنفسنا لأننا شعرنا بالوحدة أو الحزن، أو لأننا تعاطفنا مع شخص آخر… تلك اللحظة، التي كان يمكن أن تذوب في ضباب التفاصيل الصغيرة أو تُدفن تحت أكوام الذكريات التي يراكمها الزمن، تنمو بمفردها وتتحول إلى دوامة تسحبنا إلى أعماقها. فجأة، يتعين علينا أن نختار: هل نرافق تلك المرأة الضعيفة والوحيدة التي اتصلت لتخبرنا بأنها في المستشفى على وشك ولادة طفلنا؟ أم نغلق الهاتف ونتنصل من هذا الجزء من قدرنا؟ سيكون الأمر بسيطًا جدًا…

مصير لا رجعة فيه

تأملات فكرية
الاختيار في الحياة

يبدو كل شيء على الجانب الآخر أكثر واقعية: العمل، حيث لوك خبير معترف به على وشك الإشراف على أكثر المهام تعقيدًا في حياته المهنية؛ العائلة، حيث تنتظره زوجته المحبة وأطفاله لمتابعة المباراة معًا… هل يضحي بكل هذا من أجل شخص غريب في الأساس، لا يجده حتى جذابًا، ولا يشعر تجاهه بأي عاطفة، ومن أجل طفل لم يكن يخطط له ويمكنه تجاهله بسهولة؟ يقول له صديقه عبر الهاتف:

في كل السنوات التي عرفتك فيها، لم يسبق أن رأيتك ترتكب خطأ كهذا..

وربما نفكر نحن أيضًا في الشيء نفسه. نشعر برغبة في إبعاده عن عجلة القيادة وأخذ مكانه، حتى يعود إلى منزله. ولكن مع كل خطوة، يصبح الأمر أكثر صعوبة. في كل مكالمة هاتفية يغلق لوك بابًا آخر، ويحيل خياره إلى مصير لا رجعة فيه. يرد على صديقه: “لقد اتخذت قراري”. يخبر زوجته بكل شيء، وهو يعلم أنها لن تسامحه. يعلن لرئيسه أنه لن يكون متاحًا للإشراف على عملية البناء في اليوم التالي، متوقعًا أنه سيُفصل عن عمله.

لقد اتخذت قراري..

لماذا فعل ذلك؟ لأن هذا هو الشيء الصحيح الذي ينبغي عمله، وسنكتشف أنه قبل سنوات عديدة كان هناك رجلًا آخر اتخذ القرار المعاكس: والده.. الحياة لديها طرق غريبة لإعادة أشباحنا إلينا.

لحظة اختيار

قصتنا هي قصة مفترقات طرق شكّلت في النهاية ما نحن عليه الآن. تحمل العديد منها، إن لم يكن جميعها، بُعدًا أخلاقيًا: تضعنا أمام تحدي اختيار الصواب. لكن، كيف نعرف ما هو الصواب؟ بالنسبة للمتدين، الإجابة بسيطة: الصواب هو ما تمليه تعاليم العقيدة. أما بالنسبة للبقية؟ هل تستطيع العقلانية وحدها أن تميز ما هو الأفضل؟ آمن كانط بذلك، وأصدر قراره الحتمي المطلق: يكون الفعل جيدًا إذا أمكن أن يكون قاعدة عامة تنطبق على الجميع. إنها نقطة انطلاق جيدة، لكنها ليست نهاية الطريق؛ فهي تسمح لنا بتكوين سيناريو عقلي منظم، لكنها تتجاهل التعقيدات العميقة التي تشكّل الواقع. تتجاهل قبل كل شيء أن الأخلاق لا تنفصل أبدًا عن العاطفة، وأن العاطفة هي التي تسود عند اتخاذ القرارات. وقد أثبت العلماء ذلك: الأشخاص الذين يعانون من خلل في المراكز العصبية المرتبطة بالعاطفة يصبحون عاجزين عن اتخاذ القرارات. يبدو أن باسكال كان محقًا:

للقلب أسباب لا يستطيع العقل فهمها..

عندما قرر لوك إقامة علاقة مع تلك المرأة قبل تسعة أشهر، لم يكن مدفوعًا بالعقل، بل بالحزن والرغبة. صحيح أنه في ذلك الفعل لم يكن هناك نية أخلاقية، ويتعامل معه لوك بشيء من الخجل والندم، لكن لا يبدو في الحقيقة أنه يشعر بالذنب، حيث يتقلبه برباطة جأش ويهدف فقط إلى أن يكون أخلاقيًا الآن في لحظة مواجهة العواقب.. لا يُدين نفسه كثيرًا على ما فعله حينها، بل يفضل التركيز على فعل الصواب في اللحظة الراهنة.

ومع تعمقنا في شخصيته، ندرك أن هناك عوامل كثيرة تدفعه نحو المستشفى بجانب قناعاته: ربما الرغبة في التعويض عن ألم كونه ابنًا مهجورًا، أو ربما الحاجة إلى التحرر من الجمود التقليدي الذي أحاط به حياته، أو ربما الملل من عائلة مثالية جدًا… لا يوجد دافع واحد فقط، ولن ندرك أبدًا جميع الدوافع والأسباب.. والأكثر إرباكًا هو أن أقوى الدوافع تكون غالبًا لاواعية. أخبرنا سارتر أنه ليس لدينا سوى الاختيار، لكن هذه الحقيقة تخفي الكثير من التساؤلات: من الذي يختار؟ ولماذا يختار حقًا؟ ما الذي يؤثر أكثر عند اتخاذ القرار: القناعة أم الاندفاع؟

القناعة أم الاندفاع

ترسم مبادئنا ملامحنا مع كل اختيار. يمكن القول إنها تحدد الخطوط العريضة لحكايتنا، والمعادلة التي نطبخ بها حياتنا. لكن فجأة، يظهر ما هو غير متوقع، شيء خارج عن معادلتنا، استثناء. قد يظهر من الخارج كامرأة وحيدة في ليلة كئيبة أو من الداخل كحاجة ملحة للدفء، أو شعاع من الفرح وسط نسيج الحزن؛ وفجأة يتغير المشهد بالكامل، ونتغير نحن معه، وفي لحظة نضع مبادئنا جانبًا ونتبع العاطفة؛ قد نسمي ذلك ضعفًا، على الأقل من منظور قناعاتنا. تكفي لحظة واحدة لتغيير حياتنا، وكما تقول زوجة لوك له:

هناك فرق كبير بين ألا تفعل شيئًا مطلقًا وأن تفعله مرة واحدة..

نعم، مرة واحدة كافية لجعل كل شيء مختلفًا، مرة واحدة كافية لإدخالنا في طرق جديدة لا سبيل للعودة منها..

إذن، إذا كانت قناعاتنا هي ما ترسم مسار حياتنا، فإن الأحداث الكبرى التي توجّهها قد تكون نتاج ضعفنا. وكما أن الخطأ هو بوابة الدخول لما هو غير متوقع، فإن الضعف هو حليف المجهول. يمكن أن نخسر كل ما لدينا بسبب ضعف ما، كما حدث مع لوك، ويمكننا حتى أن نموت. ولكننا أيضًا يمكن أن نكتسب شيئًا جديدًا.

الحياة تعشق المفاجآت. الحياة لا تريدنا بالضرورة أن نكون متماسكين، بل أن نكون مستعدين لما هو أغرب وأبعد من التوقعات، وربما تكمن السعادة في هذا. ولهذا السبب تتركنا نهاية الفيلم مع طعم الأمل: يتوقف لوك بجانب الطريق بعد أن اقترب من المستشفى، ربما مترددًا، وعلى وشك الانهيار تحت وطأة الخسائر الكبيرة، يتصل بعشيقته العارضة ويسمع عبر الهاتف صرخات طفله المولود حديثًا. تسأله: “هل ستأتي؟” فيجيب: “نعم، أنا قادم”.. نعتقد أنه سعيد، وكما قال كامو: “علينا أن نتخيل سيزيف سعيدًا.. لقد انهار كل شيء حتى يتمكن من البدء من جديد. طوبى لمن يرتقون إلى مستوى ضعفهم..

هكذا، في لحظة ضعف واحدة، قد تنقلب الموازين. وربما كان الضعف، لا القوة، هو بوابتنا إلى مصائر لا تشبه ما خططنا له. نحن لسنا فقط حصيلة قناعاتنا الصلبة، بل أيضًا أبناء لحظاتنا المرتبكة، لتلك الانحرافات الصغيرة التي تقودنا إلى أراض مجهولة. وفي نهاية المطاف، حين نعانق هذا الضعف بصدق، قد نجد في الخسارة حياة جديدة، وفي الانكسار بداية أخرى. ربما تكون السعادة، كما همس كامو، أن نحمل صخرة مصيرنا ونحن نبتسم — لا رغم الألم، بل بفضله..

وائل الشيمي

كاتب وأديب بدأ مسيرته الأكاديمية في مجال الصحافة، حيث حصل على بكالريوس في هذا المجال، وقاده شغفه بالإنسانية إلى دراسة علم النفس والفلسفة، وقد ساعدته دراسته وقراءاته في فهم أبعاد الشخصية البشرية وتعقيداتها. في روايته "الأجنحة السوداء" صور قضايا الوجود والتحديات النفسية التي يواجهها الإنسان في رحلة بحثه عن الإله، في سياق سردي مشوق يحمل في طياته تأملات فلسفية حول الحياة والموت، الحرية والقيود. كما أطلق في مجموعته القصصية "علامات لا تُمحى" مجموعة من القصص التي تتناول الجوانب المظلمة من التجربة البشرية، تاركاً آثارًا لا تُمحى في ذهن القارئ. إلى جانب أعماله الروائية والقصصية، ساهم الكاتب بالعديد من المقالات النقدية والحوارات الفكرية في الصحف والمجلات والمواقع الإعلامية، حيث شكلت كتاباته مساحة للتفكير والتحليل حول قضايا ثقافية واجتماعية معاصرة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

دعمك يهمنا ❤️

نحن نعمل بجد لتقديم محتوى مجاني ومفيد لك. هل يمكننا الاعتماد على دعمك بتعطيل مانع الإعلانات؟ شكرًا مقدمًا!