فلسفة

جمهورية أفلاطون والقوانين: كيف يكون شكل الدولة المثالية؟

حمل أفلاطون هم السياسة والأخلاق على عاتقه، باحثًا عن مدينة لا يفسدها الجشع، ولا يحكمها الجهل. وقد صاغ في “الجمهورية” حلمه الفلسفي الأعظم، مدينة يسودها العدل ويحكمها الفلاسفة، حيث تكون الحكمة هي القائد الأعلى، لا الرغبات الجامحة ولا الأطماع المادية. وحين اصطدم خياله المثالي بجدران الواقع، عاد في “القوانين” ليعيد النظر، باحثًا عن دولة أكثر قابلية للتحقق، محكومة بالقوانين بدلًا من حكم الفلاسفة وحدهم. فهل كان أفلاطون يحلم بما لا يمكن تحقيقه، أم أنه سبق زمانه في البحث عن الدولة العادلة؟ دعونا نتعرف على جمهورية أفلاطون وقوانينه لشكل الدولة المثالية..

العدالة والأخلاق في جمهورية أفلاطون

يرى أفلاطون أن العدالة هي الغاية لكل من الأخلاق والسياسة، وبالتالي، عند تحليل النموذج الأخلاقي للحياة الجيدة، فإننا نحلل في الوقت نفسه النموذج المثالي للدولة السياسية. تقوم الأخلاق الأفلاطونية على الفكر العقلاني. حيث يؤكد أفلاطون أن مجرد معرفة ما هو جيد يجعل الإنسان يتصرف بفضيلة. وأن الشر ليس سوى جهل بما هو نافع. فمن وجهة نظر الفيلسوف اليوناني، يتطابق الخير الأخلاقي مع السعادة، أي أننا نسعى إلى الخير ليس فقط لأنه أخلاقي، بل لأنه يحقق لنا السعادة البشرية أيضًا. وهكذا، يرى أفلاطون أن الأخلاق تهدف إلى تحقيق سعادة الفرد، بينما تسعى السياسة إلى تحقيق سعادة المجتمع ككل.

من هذه الزاوية الفكرية، فإن الشخص الشرير، الذي تدفعه رغباته الجامحة أو الغيرة أو غيرها من الأهواء، يشبه الطفل الصغير الذي يعتقد أن تناول الحلويات فقط سيجعله سعيدًا، لكنه يجهل أن ذلك سيسبب له آلامًا في المعدة. وبالمقابل، فإن الإنسان العادل هو من يعرف أن الدواء قد يكون مرًّا وغير مستساغ، لكنه يتناوله لأنه يدرك فائدته وقدرته على الشفاء. ومن هنا، يجب أن نعرّف ما هو الإنسان لكي نحدد ما الذي يجلب له السعادة. ولهذا السبب، يسعى أفلاطون إلى تأسيس أخلاقه وسياساته على رؤية أنثروبولوجية، أي من خلال تحليل طبيعة الإنسان ذاته.

ثلاثية النفس والدولة في جمهورية أفلاطون

جمهورية أفلاطون
النفوس الثلاثة للإنسان والطبقات الثلاث للدولة

أجرى أفلاطون تحليلًا للإنسان ووجد أن هناك ثلاث دوافع تحرك أفعاله، وهي تتوافق مع ثلاثة أنواع من النفوس. هذه النفوس الثلاث هي: النفس العاقلة، والنفس الغضبية، والنفس الشهوانية.

النفس الشهوانية هي التي تسعى إلى إشباع الرغبات مثل الجنس، والمال، والطعام، وما إلى ذلك. يصورها أفلاطون على أنها وحش عديم الشكل متعدد الرؤوس، ويحدد موقعها في الكبد في حواره طيماوس.

أما النفس الغضبية، فهي موطن العدوانية والرغبة في القتال، وغالبًا ما تكون متحالفة مع النفس العاقلة؛ فعندما يتعرض الإنسان للظلم، فإنه يقاتل بشدة أكبر مقارنة بموقف يدرك فيه أن الحق ليس في جانبه. يصورها أفلاطون على هيئة أسد، ويحدد موقعها في القلب وفقًا لحواره طيماوس.

وأخيرًا، النفس العاقلة، التي تتماهى مع قدرتنا على التفكير النظري والأخلاقي، أي أنها الجزء الذي يبني الحجج ويتأمل في المفاهيم. يشبهها أفلاطون برجل صغير بداخلنا، ويحدد موقعها في الدماغ وفقًا لما ورد في طيماوس.

تتحقق العدالة عند أفلاطون عندما تسيطر النفس العاقلة على النفس الشهوانية وغير العقلانية بمساعدة النفس الغضبية. وبهذا، تُعرَّف العدالة بأنها الحالة التي يؤدي فيها كل جزء من النفس وظيفته دون التعدي على وظائف الأجزاء الأخرى. وتتمثل العدالة الأخلاقية في الحالة التي يتم فيها ضبط الشهوات والسيطرة عليها بواسطة العقل، كما تخضع الدوافع العاطفية للنفس الغضبية لسلطة العقل. وبهذه الطريقة، يكون الإنسان سعيدًا، لأنه إن لم يكن كذلك، فستظل نفسه في اضطراب دائم بسبب رغبات لا تشبع، مما سيدفعه إلى استعباد طبيعته العاقلة في سعي أعمى لا ينتهي، حيث إن رغبات النفس الشهوانية لا تُحصى وهي بطبيعتها غير قابلة للإشباع.

الطبقات الثلاث للدولة

وكما أن هناك ثلاث نفوس في الإنسان، يجب أن تكون هناك ثلاث طبقات في الدولة، بحيث تكون الدولة العادلة هي تلك التي تؤدي كل من طبقاتها وظيفتها بأقصى درجات الانسجام والانضباط. يتوافق عامة الشعب العامل مع النفس الشهوانية داخل الدولة، بينما يتوافق الجيش مع النفس الغضبية، وأخيرًا، يمثل الفلاسفة في الدولة ما تمثله النفس العاقلة في الفرد.

تتمثل وظيفة الطبقة الفلسفية في حكم الدولة، تمامًا كما كان ينبغي للنفس العاقلة في الإنسان العادل أن تتحكم في أفعاله. أما الحراس (الجيش)، فمهمتهم الدفاع عن الدولة ومساعدة الفلاسفة في عملية الحكم، ولكنهم دائمًا تحت أوامرهم. وأخيرًا، فإن وظيفة عامة الشعب هي تنفيذ الأوامر الصادرة عن الطبقات العليا.

حكم الفلاسفة وتنظيم الدولة عند أفلاطون

المدينة الفاضلة
طريقة اختيار حكام المدينة الفاضلة

قبل المضي قدمًا، يجب توضيح أن أفلاطون، عندما يتحدث عن الفلاسفة بوصفهم الطبقة الحاكمة، لا يشير ببساطة إلى شخص درس الفلسفة كما نفهمها اليوم، بل يأخذ الكلمة بمعناها الاشتقاقي.. فالحاكم هو “محب الحكمة”، الشخص الفاهم، المفكر، الذي يستوعب المشكلات السياسية، أي أنه “خبير” في شؤون الدولة.

يستخدم أفلاطون كثيرًا المثال المتعلق بكيفية حكم السفينة: من يجب أن يقودها؟ الأكثر مالًا أم الأكثر عددًا أم الأقوى؟ الجواب واضح لتلميذ سقراط: يجب أن يقود السفينة من لديه أكبر قدر من المعرفة، أي الربان. وبالمثل، يجب أن تُدار الدولة من قبل أولئك الذين يمتلكون المعرفة الأعمق بالواقع، أي الفلاسفة.

وكما أن الانسجام بين أجزاء النفس في الفرد يهدف إلى تحقيق سعادته، فإن انسجام الطبقات داخل الدولة المثالية عند أفلاطون يهدف إلى تحقيق سعادة الكيان السياسي ككل. ولمنع انحراف الدولة عن غايتها الأساسية أو سعي الحكام والحراس وراء مصالحهم الشخصية، يجب وضع قواعد صارمة داخل الدولة. حيث يجب أن يكون كل شيء مشتركًا بين الحراس، ولا ينبغي أن يكون هناك ملكية خاصة. سيأكلون معًا كعائلة واحدة، وسينامون في مساكن مشتركة كما لو كانوا جنودًا في حملة عسكرية.

وبما أننا نقبل في عالم الحيوان أن الذكور والإناث من النوع نفسه متساوون في الخصائص باستثناء أن الإناث أضعف جسديًا، والذكور لا يمكنهم الإنجاب، فإن الرجال والنساء في طبقة الحراس سيكون لهم الحقوق نفسها، وسيعيشون أيضًا في نظام مشترك. حتى العلاقات بين الرجال والنساء ستكون حرة، ولن تكون هناك عائلات بالشكل التقليدي، حيث سيتم تربية أبناء الحراس جميعًا في دور مشتركة، ولن يعرف الآباء أبناءهم.

طريقة اختيار الفلاسفة

يتم اختيار الفلاسفة من طبقة الحراس/ الفلاسفة. حيث سيتم انتقاء من يتميزون بالذكاء والعدالة لتشكيل الطبقة الحاكمة. ولن تختلط طبقة الحراس ببقية الشعب. إذ يجب الحرص قدر الإمكان على أن يولد القادة من أفضل الآباء. وهؤلاء الآباء هم المنتمون إلى الطبقة الحاكمة.

أما إذا ولد ابن لحاكم لكنه لم يكن على مستوى آبائه، فسيتم تسليمه إلى عامة الشعب ليتم تربيته بينهم. وعلى العكس، إذا ولدت امرأة من عامة الشعب طفلًا يتمتع بطبيعة متميزة، فسيتم تصعيده إلى الطبقة الحاكمة ليتلقى التعليم الملائم بين الفلاسفة. ولضمان أن يكون الحكام على أعلى مستوى ممكن لأداء وظيفتهم في قيادة الدولة، يجب أن يخضعوا لتعليم صارم يؤهلهم لهذه المهمة. من الضروري أن يتلقى أبناء الحراس والفلاسفة تربية تعتمد على الجمباز والموسيقى؛ فمنذ سن مبكرة، سيتعلم الأطفال تنسيق حركاتهم وفقًا لإيقاعات متناغمة وسلسة، حتى يستوعبوا مبادئ الانسجام والنظام، كما أن هذا التدريب سيقوي أجسادهم، مما يجعلهم أكثر مرونة واستعدادًا للقتال.

إعداد الملوك الفلاسفة

يولي أفلاطون اهتمامًا بالغًا للتربية الموسيقية. ويحظر في دولته المثالية الإيقاعات المتراخية وغير المنضبطة. إذ يرى أن انحلال الإيقاع قد يؤدي إلى انحلال الأخلاق والعادات، ولهذا يجب منع أي تجديد موسيقي ما لم يكن مصادقًا عليه من قبل الملوك الفلاسفة.

وفيما يتعلق بالتعليم الفكري، سيقضي الحارس/الفيلسوف سنواته الأولى في دراسة الرياضيات، لأنها تعود العقل على التعامل مع أمور ثابتة وغير متغيرة، كما أنها تحفز التفكير المنطقي. بعد ذلك، سيدرس علم الفلك ليتمكن من إدراك النظام والانسجام في الكون. حيث يرى أفلاطون أن هذا النظام هو بصمة الخالق في العالم المادي.

وأخيرًا، عند بلوغ الثلاثين، سيتم إدخال أولئك الذين أظهروا حدة فكرية وقوة أخلاقية إلى دراسة الجدل (الديالكتيكا). وهو العلم الذي يسعى إلى معرفة الأشياء في ذاتها، أي، وفقًا للميتافيزيقا الأفلاطونية، إدراك “المُثل”. إن الذين يتقدمون في معرفة المثل سيصلون إلى التأمل في الشكل الأسمى: شكل الخير..

ومعرفة القمة الوجودية، أي إدراك فكرة الخير، ليست معرفة نظرية أو مجردة يمكن التعبير عنها باللغة العادية، بل هي تجربة مباشرة وفريدة، لا يمكن نقلها إلى معظم الناس. أولئك الذين يصلون إلى هذه التجربة الروحية ويدركون الخير المطلق سيكونون الملوك الفلاسفة، ولن يكون عمرهم أقل من خمسين عامًا. أما أولئك الذين لم يصلوا إلى الفهم التام للخير أو لم يمتلكوا الصفات اللازمة للتقدم في هذا التعلم، فسيبقون ضمن طبقة الحراس.

جمهورية أفلاطون والأنظمة السياسية

الدولة عند أفلاطون
أنواع الأنظمة السياسية في جمهورية أفلاطون

يعترف أفلاطون بأن دولته المثالية، كأي واقع آخر في العالم المادي، خاضعة للتدهور، وبالتالي، عاجلًا أم آجلًا، ستنحرف نحو نظام سياسي أقل كمالًا. يطلق أفلاطون على دولته المثالية اسم “الأرستقراطية“، والتي تعني “حكم الأفضل”.. وعندما يبدأ الحراس المحاربون في الاستيلاء على المناصب التي كانت مخصصة للفلاسفة، يظهر أول شكل منحط من الأنظمة السياسية: التيموقراطية.. يبدأ الحراس في هذا النظام بجمع الثروة والسلطة دون علم الشعب العامل. لا يرتكب هؤلاء الحكام تجاوزات مفرطة، لكن ما يحفز قراراتهم ليس تحقيق الخير العام، بل الرغبة في نيل الشرف والمجد. تشبه التيموقراطية الأنظمة العسكرية التي ظهرت في القرن العشرين وما زالت قائمة في بعض الدول اليوم.

تتدهور التيموقراطية إلى “الأوليغارشية” أي “حكم القلة”.. حيث لم تعد الطبقة الحاكمة مكونة من المحاربين، بل من أولئك الذين يمتلكون الثروة. وبما أن هدف الحكام في التيموقراطية كان تراكم الثروة، فمن الطبيعي أن يؤدي ذلك إلى نشوء الأوليغارشية. أكبر مشكلة في الأوليغارشية هي فقدان التماسك الاجتماعي.. ففي هذا النظام، ينقسم المجتمع إلى دولتين داخل دولة واحدة: دولة الأغنياء ودولة الفقراء، وهما في صراع دائم فيما بينهما.

تؤدي الحالة البائسة للطبقة الفقيرة في الأوليغارشية إلى تدهور هذا النظام نحو “الديمقراطية“، أي “حكم الشعب”. يتحد الفقراء ضد الأغنياء وينتزعون السلطة منهم، فيسعون إلى إقامة نظام قائم على المساواة السياسية والحرية المطلقة. في الدولة الديمقراطية، يحكم الجميع، ويتمتع الجميع بحرية فعل ما يحلو لهم.

لكن هذا النظام أيضًا غير مثالي؛ فبينما كان المجتمع في الأوليغارشية منقسمًا إلى مجموعتين (الأغنياء والفقراء)، فإن الديمقراطية تخلق عددًا لا نهائيًا من الفئات السياسية، حيث يصبح كل فرد أو عائلة كيانًا مستقلًا. وفي ظل هذا النظام، تسود الفوضى وانعدام النظام، إذ لا تحترم القوانين، ويصبح للجهلاء نفس سلطة الحكم التي يتمتع بها الحكماء، مما يؤدي إلى اعتقاد الجماهير بأنها خبيرة في جميع الأمور.

الديمقراطية والاستبداد في جمهورية أفلاطون

يقول أفلاطون إن حكم الدولة ديمقراطيًا أشبه بقيادة سفينة عبر التصويت. حيث يُدلي جميع الركاب بأصواتهم حول كيفية الإبحار، بغض النظر عما إذا كانوا يعرفون شيئًا عن الملاحة أم لا. ونتيجة لذلك، تنتج الديمقراطية الصراعات المستمرة والفوضى الاجتماعية. تتدهور الديمقراطية إلى أسوأ أشكال الحكم وأكثرها بعدًا عن الحكم الصالح: الاستبداد. في الدولة الديمقراطية، يظهر ديماغوجي (محرض سياسي) يقدم نفسه كمنقذ للفقراء أو لطبقة واسعة من الشعب، مستخدمًا خطابًا مخادعًا ليحظى بتأييد الجماهير ويستولي على السلطة في المجلس الشعبي.

بعد أن يحقق السلطة السياسية، يحتاج هذا القائد إلى حرس شخصي لحمايته من أعدائه. وبمساعدة هؤلاء الحراس وبتحالفه مع قوى داخلية أو خارجية، يفرض سيطرته المطلقة. وهكذا، يتحول من منقذ الشعب إلى طاغية مستبد يتمتع بسلطات مطلقة، ويبدأ في القضاء على كل من قد يشكل تهديدًا لحكمه. يمتلىء التاريخ بأمثلة على الاستبداد، مثل الأنظمة الديكتاتورية ذات الطابع الفاشي أو الشيوعي، حيث بدأ قادتها كمنقذين وانتهوا كطغاة مستبدين.

كتب أفلاطون الجمهورية في مرحلة نضجه، وتعتبر واحدة من أكثر الحوارات الفلسفية تأثيرًا في التاريخ. كما أنها تمثل أول “يوتوبيا” سياسية مكتوبة وصلتنا. ومع ذلك، في شيخوخته، أعاد أفلاطون النظر في هذه اليوتوبيا في كتابه “القوانين”، حيث أضفى عليها طابعًا أكثر انفتاحًا وديمقراطية، لكنه احتفظ بالعديد من المبادئ التي طرحها في الجمهورية.

كتاب القوانين من المثالية إلى الواقعية السياسية

كتاب القوانين لأفلاطون
قوانين أفلاطون

يعد كتاب “القوانين” أضخم مؤلفات أفلاطون. ويُعتقد على نطاق واسع أنه آخر أعماله. في هذه التحفة الفلسفية المتأخرة، يعيد أفلاطون النظر في اليوتوبيا التي بناها في “الجمهورية” محاولًا منحها طابعًا أكثر واقعية وقابلية للتطبيق. ففي حين كانت الجمهورية تصورًا مثاليًا للمجتمع، تقدم القوانين باعتبارها تكيفًا واقعيًا لهذا المثل الأعلى. ومن اللافت للنظر أن هذه الرؤية السياسية الأخيرة لا تكشف فقط عن تغيرات في فكر أفلاطون، بل أيضًا عن استمرارية بعض العناصر الأساسية التي كان قد طرحها سابقًا في الجمهورية.

يواصل أفلاطون في القوانين رفضه للاستبداد والديمقراطية.. إذ يعتبرهما مثالين على أنظمة تفهم الحرية بطريقة متطرفة. إن الاستبداد عبر إلغاء الحرية السياسية تمامًا، يجعل المواطنين يفقدون إحساسهم بالانتماء إلى الوحدة السياسية للدولة. وعلى النقيض، تؤدي الديمقراطية المتطرفة إلى منح الأفراد حرية غير محدودة، مما يفكك الشعور بالهوية الجماعية ويؤدي إلى نزعة فردانية مفرطة. لذلك، يرى أفلاطون أن المدينة الفاضلة يجب أن تتبنى نظامًا وسطًا بين الاستبداد والديمقراطية، بحيث تحافظ على التوازن بين النظام السياسي والانتماء الجماعي. وتضمن الحرية دون أن تؤدي إلى الفوضى أو الاستبداد.

المدينة الفاضلة في “القوانين”

المدينة الفاضلة يوتوبيا
الدولة المثالية

المدينة التي يؤسسها أفلاطون في “القوانين” يجب أن تتمتع بخصائص جغرافية وديموغرافية محددة لضمان استقرارها الأخلاقي والسياسي. يجب أن تحتوي على ما يكفي من الأرض حتى يحصل كل مواطن على أرض يزرعها. ويجب أن تكون قريبة من البحر، ولكن ليس بها ميناء حتى لا تؤدي التجارة والاختلاط بالأجانب إلى إفساد أخلاق المواطنين.

من الناحية الديموغرافية، يجب أن تتكون هذه الدولة المثالية من 5040 عائلة.. وهو ما يجعل العدد الإجمالي للمواطنين يتراوح بين 40 ألف و48 ألف مواطن، ولا يجوز لهم العمل يدويًا، سواء في الزراعة (التي يقوم بها العبيد) أو في الحرف والصناعات (التي يقوم بها الأجانب المقيمون). وبهذه الطريقة، يكون جميع المواطنين متفرغين للإدارة والسياسة والتعليم، والتي هي نشاطات تتطلب التزامًا كاملًا طوال اليوم.

الاقتصاد والتقسيم الطبقي

ينبذ أفلاطون الشيوعية في القوانين لأنها غير قابلة للتطبيق، ولكنه لا يزال يرى أنها النظام الأمثل لتوزيع الثروة. ويقترح كبديل عنها تقسيم المجتمع إلى أربع طبقات اقتصادية وفقًا لمقدار الثروة التي يمتلكها كل فرد. يجب على الطبقة الأقل ثراءً أن تملك ما يكفي لإعالة الأسرة والعبيد. ولا يجوز للطبقة الأكثر ثراءً امتلاك أكثر من أربعة أضعاف قيمة الأراضي الزراعية المخصصة لهم. وإذا تجاوزت ثروة أي مواطن الحد المسموح، يصادر الفائض لصالح الدولة. ولا يجوز للمال أن يصبح الهدف الأسمى في المدينة المثالية.

لمنع التفاوت الطبقي الذي قد يؤدي إلى حروب أهلية وانقسامات سياسية، يقترح أفلاطون:

  • أن تكون جميع المناصب السياسية مفتوحة أمام جميع الطبقات، وليس فقط للأغنياء.
  • أن يكون هناك تمثيل متساوٍ لكل طبقة اقتصادية داخل المجالس السياسية.
  • إمكانية التنقل بين الطبقات حسب الوضع الاقتصادي للأسرة.

يهدف أفلاطون بهذا النظام إلى تجنب الصراع الدائم بين الأغنياء والفقراء. وهو الصراع الذي يؤدي دائمًا إلى انهيار الدولة وتفككها. وفيما يتعلق بالتنظيم السياسي، يتم اختيار المناصب العامة عن طريق الاقتراع العام. ولا يجوز شغل هذه المناصب إلا لفترة زمنية محددة. وعند انتهاء ولايتهم، يتعين على شاغلي المناصب العامة تقديم حساب عن أفعالهم أمام محكمة مخصصة لهذا الغرض. يتمتع الرجال والنساء بنفس المسؤوليات السياسية والحقوق المتساوية، وهي مساواة حافظ عليها أفلاطون منذ كتابه “الجمهورية”.

يعد “المجلس الليلي” أهم هيئة سياسية.. وقد سُمِّي بهذا الاسم لأنه يجتمع من أول الفجر حتى شروق الشمس. يتولى المجلس الليلي مسؤولية مراقبة الامتثال للقوانين وإجراء الإصلاحات عند الضرورة القصوى. يتكون المجلس من رجال ونساء من مختلف الأعمار، لكن الأغلبية تزيد أعمارهم عن 50 عامًا، وهم أفراد شغلوا مناصب عامة سابقًا وتميزوا بالفضيلة والحكمة، كما أنهم تلقوا تعليمًا تكميليًا في الفلسفة.

التعليم في المدينة المثالية

التعليم هو أحد الأعمدة الأساسية في المدينة المثالية. وهو إلزامي ابتداءً من سن الثالثة، ويعتبر من المهام الرئيسية لسكان المدينة. من سن الثالثة إلى السادسة، يحضر الأطفال مجموعات لعب حيث يمارسون ألعابًا من ابتكارهم تحت إشراف المعلمين. عند بلوغهم السادسة، تبدأ العملية التعليمية بشكل رسمي وتتضمن عدة مواد، إلا أن الغناء والرقص يحتلان دورًا أساسيًا. ومن سن العاشرة إلى الثالثة عشرة، يتعلم الأطفال القراءة والكتابة، ومن الثالثة عشرة إلى السادسة عشرة، يتلقون دروسًا في الموسيقى، مع التركيز على العزف على القيثارة. ويجب أن يكون التعليم الأساسي متاحًا للجميع.

بالإضافة إلى ذلك، هناك مواد أخرى يجب تدريسها، لكن أفلاطون لم يحدد الأعمار المناسبة لذلك، وتشمل هذه المواد: الحساب، وفن القياس، وعلم الفلك التطبيقي الذي يساعد في حساب الزمن والفصول، وغيرها. أما “حراس القانون” في المجلس الليلي، فيجب أن تكون لديهم معرفة أعمق في علم اللاهوت، إلى جانب فهم نظري وفلسفي وعملي للعدالة. ولتجنب تدهور التعليم العام، لا يُسمح لأيّ من السكان بمغادرة المدينة قبل بلوغ سن الأربعين، وحتى بعد هذه السن، لا يُسمح بالسفر إلا لأسباب مبررة تتعلق بمصالح الدولة.

القانون في الدولة المثالية

الركيزة الأساسية الأخرى هي القانون. يهدف القانون إلى غاية تربوية، حيث يسعى إلى جعل المواطنين أفضل ما يمكن أن يكونوا، كما يحاول من خلال العقوبة والحجج تحقيق الهدف نفسه: تغيير سلوك من يرتكب أفعالًا ظالمة. لهذا السبب، لا تُطبق عقوبة الإعدام إلا على المجرمين غير القابلين للإصلاح، أي أولئك الذين بلغ فسادهم الأخلاقي درجة تجعلهم غير قادرين على الاندماج مجددًا في المجتمع.

يدور النظام السياسي كله في كتاب “القوانين”، كما في “جمهورية أفلاطون”، حول تحقيق الصالح العام للمدينة قبل المصالح الفردية. فالفكر الفردي الحديث لم يكن مطروحًا بالنسبة لأفلاطون، إذ يرى أن الدولة لا يمكنها فحسب، بل يجب عليها أيضًا، التدخل في المسائل الأخلاقية الخاصة، ولذلك فإن الزواج يكون بتنظيم من الدولة بدلًا من أن يكون بناءً على الرغبات الشخصية، كما أن شاغلي المناصب العامة ملزمون بأداء وظائفهم حتى لو رغبوا في الانسحاب من الحياة السياسية.

يعتبر كتاب “القوانين” مراجعة لمشروع “جمهورية أفلاطون”، لكن لا يزال مدى عمق هذه المراجعة موضع جدل بين الباحثين. وما لا شك فيه هو أن الدولة شديدة التراتبية التي تصورها أفلاطون في “الجمهورية” قد أفسحت المجال لتوزيع أكثر ديمقراطية للسلطة السياسية. ومع ذلك، من الواضح أيضًا أن الحريات الفردية لم تحتل سوى دور ثانوي جد في كلا المشروعين السياسيين لأفلاطون.

لقد كانت رحلة أفلاطون الفكرية أشبه برحلة فيلسوف يحاول الإمساك بالنور في عالم تكتنفه الظلال. ففي “الجمهورية”، صاغ صورة للحكم المثالي، حيث العدل ينبثق من ترتيب النفس كما ينبثق من ترتيب الدولة، وحيث الحاكم هو من ارتقى بالحكمة، لا من تسلق على أكتاف الجهل. ولكن مع تقدم الزمن، أدرك أفلاطون أن الحلم يحتاج إلى قواعد، وأن الفضيلة تحتاج إلى قوانين تحميها. وهكذا، قدم في “القوانين” رؤية أكثر واقعية، تقرّب بين المثال والواقع، بين طموح الفلاسفة ومتطلبات المجتمعات. ولا يزال فكر أفلاطون شاهدًا على معضلة الإنسان الأزلية: كيف نحكم أنفسنا قبل أن نحكم غيرنا؟

وائل الشيمي

كاتب وأديب بدأ مسيرته الأكاديمية في مجال الصحافة، حيث حصل على بكالريوس في هذا المجال، وقاده شغفه بالإنسانية إلى دراسة علم النفس والفلسفة، وقد ساعدته دراسته وقراءاته في فهم أبعاد الشخصية البشرية وتعقيداتها. في روايته "الأجنحة السوداء" صور قضايا الوجود والتحديات النفسية التي يواجهها الإنسان في رحلة بحثه عن الإله، في سياق سردي مشوق يحمل في طياته تأملات فلسفية حول الحياة والموت، الحرية والقيود. كما أطلق في مجموعته القصصية "علامات لا تُمحى" مجموعة من القصص التي تتناول الجوانب المظلمة من التجربة البشرية، تاركاً آثارًا لا تُمحى في ذهن القارئ. إلى جانب أعماله الروائية والقصصية، ساهم الكاتب بالعديد من المقالات النقدية والحوارات الفكرية في الصحف والمجلات والمواقع الإعلامية، حيث شكلت كتاباته مساحة للتفكير والتحليل حول قضايا ثقافية واجتماعية معاصرة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

دعمك يهمنا ❤️

نحن نعمل بجد لتقديم محتوى مجاني ومفيد لك. هل يمكننا الاعتماد على دعمك بتعطيل مانع الإعلانات؟ شكرًا مقدمًا!