اضطرابات النوم من أقسى التجارب التي يمكن أن يمر بها الإنسان، والتي تكشف هشاشة النفس وتقربنا من حافة الجنون إذا أهملنا علاجها. وجد الفيلسوف إميل سيوران الذي عانى من الأرق طوال حياته أن عدم القدرة على إغلاق أعيننا ليلاً هو تعريف الإنسانية جمعاء. ولاحظ أن القدرة على التفكير التجريدي وحل المشكلات ليست حكراً على الجنس البشري. دعونا نخوض رحلة لنتعرف على هذا الطاعون العنيد، وكيف يمكننا التخلص من رعب النوم المفقود.
لدغة الحشرة السوداء
أشار سيوران إلى أن أهم ما يميز البشرية جمعاء هي اضطرابات النوم، أو عدم القدرة على إغلاق أعيننا ليلاً، وليس التفكير المجرد أو حل المشكلات، فالغربان على سبيل المثال تصنع الأدوات، والأخطبوطات تفهم الميكانيكا، والنحل ليس لديه مشكلة حل العمليات الحسابية البسيطة. لكن البشر هم الحيوانات الوحيدة التي لا تنم، وليس عن طريق الاختيار، بل عن طريق سلسلة من الخفايا والأشباح الجسدية والعقلية التي تبقي الوعي خاملاً تحت رحمة الليل، منتبهاً للعواء الذي يُسمع خلال ساعات الذئاب.
إذا كانت الحياة الداخلية حديقة يتم الاهتمام بها وتدليلها، فإن الأرق هو الطاعون الذي يفسدها. اضطرابات النوم هي الحشرة السوداء التي تتخذ موطنها بين زهور العقل لتتغذى على حلاوته. لدغتها تعذبنا في اللحظة الوحيدة التي ننسى فيها وقاحة النهار، والمشاكل في العمل، ومواجهة جميع أنواع الأشياء غير المرغوب فيها. تزعج كفوفها عالمنا المليء بالرغبات والخيالات، وطنين أجنحتها يشير إلى خلود الدقائق التي نتقلب فيها على السرير. عندما تطير وتتركنا وحدنا، تكون الشمس والطيور تنتظرنا بالفعل على الجانب الآخر من النافذة.
يعاني الكثير من الناس في جميع أنحاء الكوكب من لدغة الحشرة السوداء، فهناك جحافل لا تستطع الاستسلام لسحر النوم، وكل شخص يحاول البحث عن الطريقة الأنسب للتخلص من اضطرابات النوم التي تجعل حياته جحيماً لا يُطاق. هناك من يلتقط هاتفه ليتصفح مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتمكن من النوم. وهناك من يقرأ كتاباً، ويخرج آخرون إلى الشوارع عند الفجر لإرهاق أجسادهم وعقولهم على أمل ولو ضئيل بأن يعودوا إلى منزلهم ويستطيعوا النوم، وهناك الأشخاص الأكثر عملية، أولئك الذي يذهبون إلى الفراش في أحضان الأدوية.
تأثير اضطرابات النوم
قلة النوم ليست مسألة هينة، فهي تؤدي إلى ضمور العضلات، وتشويش الحكم، وتدمير جهاز المناعة، وإضعاف كل أثر للأمل في عيون المصاب بالأرق. وإذا استمرت اضطرابات النوم لمدة موسم، فإن الحياة تحت الشمس تصبح أشبه بكابوس من لحم ودم لا يمكن الاستيقاظ منه. ثم هناك المناسبات التي يأخذ فيها الأرق المطول إيحاءات التملك. فليس من غير المعتاد أن يشعر البعض أن أجسادهم تتدفق على نحو آلي؛ كما لو أن شخصاً آخر يتولى العمليات الأساسية لحركة الجسم، والسيطرة على عمليات الدماغ. وكأن الحشرة السوداء تحقن مادة سامة تحول ضحيتها إلى زومبي متطور.
النوم غير الكافي هو عامل أساسي في نمط الحياة، ويعطل النوم غير الكافي مستويات السكر في الدم بشكل كبير مما يؤدي إلى الإصابة بمرض السكري. كما ترتفع احتمالية انسداد الشرايين التاجية وهشاشتها، مما يضعك على طريق الإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية والسكتة الدماغية والأزمات القلبية. هذا بالإضافة إلى أن اضطرابات النوم تساهم بشكل كبير في جميع الأمراض النفسية مثل الاكتئاب والقلق والتوتر وربما الانتحار. لذلك إذا كنت مغرماً بالقول “سأنام عندما أموت” فقد يحدث هذا الأمر أسرع بكثير مما تتوقع. حيث أن تأثير قلة النوم على الإنسان خطير جداً.
ما أسهل أن نقع في مزراب المرض عندما لا تكون ساعات النوم كافية، والاضطرابات العاطفية التي ننغمس فيها أنفسنا، ولو لدقائق معدودة، تأخذنا من اللامبالاة إلى الذهان، مروراً بالهلوسة والخيالات. آفات النوم ليست جديدة، والبوم البشري موجود منذ فجر البشرية. ولعل جذور الأرق ليست مجرد اضطراب، بل هي بقايا تطورية كانت تؤدي بعض وظائف البقاء في العصور الأكثر وحشية. الليل يضج بالحيوانات المفترسة والوحوش، وعلى شخص ما أن يعتني بالنار بينما يستريح الآخرون حولها. إنها ليست أكثر من مجرد تكهنات دون أي ادعاء علمي. ولكن كل شيء في العقل والجسد موجود لسبب ما.
كم من الوقت عليك أن تنام؟
نوعية النوم عامل مهم للغاية. وعلى الرغم من صحة أن الوقت الموصى به للبالغين هو من 7 إلى 8 ساعات في الليلة، إلا أن النوم يمر بالضرورة بعدة مراحل يجب الوفاء بها. وتختلف عدد ساعات النوم حسب سنوات العمر، وحسب أسلوب الحياة. حيث تشير المنظمات الصحية إلى أنه يجب أن يكون متوسط ساعات النوم حسب العمر كما يلي:
- يصل عدد ساعات النوم عند حديثي الولادة إلى 18 ساعة تقريباً.
- الأطفال من عمر 4 سنوات إلى 10 سنوات ينامون ما بين 10 و12 ساعة.
- في حالة الأطفال بعمر 10 سنوات، تتراوح ساعات النوم بين 9 و10.
- تتراوح فترة النوم لدى المراهقين ما بين 7.5 و8 ساعات.
- تصل متوسط ساعات النوم عند الشخص البالغ 6.5 ساعة.
إن ثقافة الوسائد لدينا، وأساليب النوم الحديثة، هي اختراع حديث نسبياً، وبالنسبة لأسلافنا، لم يكن من المفضل دائماً النوم لمدة ثماني ساعات متواصلة. وفي العصور الوسطى كان الناس يستيقظون في منتصف الليل للقيام ببعض الواجبات المنزلية أو التأمل ثم يعودون إلى الفراش بعد ساعة أو ساعتين. ويقال إن نيكولا تسلا قد فعل الشيء نفسه؛ وأيضا ليوناردو دافنشي. ويمكن أن تكون أيضاً حكايات ملفقة بسيطة.
علاج اضطرابات النوم
هناك العديد من النصائح الخاصة بتحسين جودة النوم. وقد أوضحتها العديد من الأبحاث العلمية في علم الأعصاب. دعونا نتعرف على بعض هذه النصائح.
تحديد موعد ثابت للنوم
هذا الأمر بالغ الأهمية بصورة كبيرة. حيث أن الذهاب إلى الفراش في نفس الوقت كل ليلة، والاستيقاظ في الوقت نفسه كل يوم أحد أهم النصائح التي يجب العمل بها للتخلص من الأرق. لذا عليك الذهاب إلى الفراش والاستيقاظ في نفس الوقت من اليوم مهما حدث. كما لا تكتف بضبط منبه للاستيقاظ – اضبط منبهاً لوقت النوم كذلك.
يميل البعض إلى تأخير وقت النوم لأنهم يعتبرون أن الليل هو الوقت الذي يمكنهم فيه التركيز على أنفسهم، والقيام بما يحلو لهم أو ما لم يتمكنوا من القيام به خلال النهار بسبب ضيق الوقت. وهذه الممارسة تؤثر سلباً عليهم في اليوم التالي، وهي أحد الأسباب الشائعة لاضطرابات النوم. لذا عليك الحذر من هذا الأمر.
التخلص من كل الضوء
الكثير منا يسمع باستمرار عن الضوء الأزرق الذي ينبعث من الأجهزة الالكترونية، مثل الهواتف الذكية وغيرها، لكن هذا الضوء ليس كل المشكلة بل هو نصفها فقط. أما النصف الأخر فهو جميع الأضواء حتى الخافت منها. حيث ثبت أن الضوء بكافة أنواعه يؤخر إطلاق الميلاتونين الليلي في الجسم مما يسبب الأرق والعديد من الأمراض الأخرى. لذا من الضروري التخلص من كافة الإضاءة في الغرفة قبل النوم.
تنظيم درجة حرارة الغرفة
خلال درجات الحرارة العالية نجد أن معظم الناس لا يستطيعون النوم بسهولة، هذا لأن عقلك يخبرك أنه ليس وقت النوم. يريد الجسم أن تكون درجة حرارته الأساسية منخفضة عند النوم. لذا نجد أن الجسم يحاول التخلص من كل تلك الحرارة الزائدة، ولهذا السبب غالباً ما ترى أقدام أو أذرع الناس تبرز من تحت الأغطية، وهذا الأمر هو محاولة لاواعية لتنظيم حرارة الجسم. أما درجة حرارة غرفة النوم المثالية هي التي تبلغ حوالي 65 درجة فهرنهايت أي 18.3 درجة مئوية.
الحصول على حمام ساخن
من أجل التخلص من الأرق والحصول على قسط كاف من النوم يجب أخذ حماماً ساخناً قبل النوم. إنه لا يساعد على الاسترخاء فحسب، بل يوسع الأوعية الدموية. مما يسمح لجسمك بالتخلص من كل تلك الحرارة الإضافية. كما إنه يعزز نوم حركة العين غير السريعة بنسبة تصل إلى 15٪. عندما تخرج من حوض الاستحمام، تساعد الأوعية الدموية المتوسعة الموجودة على السطح في إشعاع الحرارة الداخلية بسرعة، وتنخفض درجة حرارة الجسم الأساسية. وبالتالي، فإنك تغفو بسرعة أكبر لأن جسمك أصبح أبرد.
ممارسة التمارين الرياضية
تعمل التمارين الرياضية بالتأكيد على تحسين نوعية النوم. لكن ليس معنى ممارسة التمارين الرياضية أن تمارسها قبل التوجه إلى النوم بثلاث ساعات، حيث أنها في هذه الحالة ترفع من درجة حرارة الجسم الأساسية. مما يسبب الأرق، في النهاية. لكن يجب ممارسة التمرينات الرياضية في الأوقات المناسبة من اليوم. وقبل النوم بفترة كافية.
عدم تناول المنبهات قبل النوم
إذا كنت تريد النوم بشكل أفضل، فعليك استخدام الكافيين فقط في الصباح أو في وقت مبكر من بعد الظهر. يساعد الكافيين على النشاط والتركيز لفترة تمتد من خمس إلى سبع ساعات. لنفترض أنك تناولت فنجاناً من القهوة بعد العشاء المسائي، أي حوالي الساعة 7:30 مساءً. هذا يعني أنه بحلول الساعة 1:30 صباحاً قد يظل 50 بالمائة من هذا الكافيين نشطاً ويدور في جميع أنحاء أنسجة المخ. وهذا الأمر ينطبق كذلك على جميع المشروبات المنزوعة الكافيين. لذا إذا كنت تشرب ثلاثة أو أربعة أكواب من القهوة منزوعة الكافيين بعد العشاء، فلا تتفاجأ إذا كنت تحدق في السقف في الساعة 2 صباحاً.
الابتعاد عن الكحول
في حقيقة الأمر يتجه البعض ممن يعانون من الأرق إلى تناول الكحوليات ظناً منهم أنها سوف تساعدهم على النوم. إلا أن هذا الأمر مجرد وهم. فالكحول لا يساعد على النوم وكل ما يفعله هو في الواقع أقرب إلى التخدير، وهو ليس نوماً حقيقياً. هذا بالإضافة إلى أن له الكثير من التأثيرات السيئة على العقل. حيث أن تناول الكحول يمنع عقلك من أن يعمل على تقوية الذاكرة بشكل صحيح. كما أشارت العديد من الأبحاث أن كل الذين تناولوا الكحوليات لمدة سبعة أيام قد نسوا أكثر من 50 في المائة من كل تلك المعرفة الأصلية.
عدم اللجوء إلى الحبوب المنومة
تؤثر الحبوب المنومة على نفس المستقبلات في دماغك مثل الكحول. لذلك تحصل على نفس النتائج – باستثناء أن تأثيرها على الذاكرة أسوأ. كما لا توجد أدوية منومة سابقة أو حالية في السوق القانونية (أو غير القانونية) تحفز على النوم الطبيعي. وهناك مشكلة صغيرة أخرى مع الحبوب المنومة … فهي لا تعمل في الواقع.
إن الطبيعة الأم لا تقدم الهدايا دون فاتورة. وعدد الكتاب والفنانين والموسيقيين وغيرهم من المبدعين الذين تعرضوا للعض من قبل الحشرة السوداء يكفي لجعل أي شخص يعاني من الأرق يشعر بصحبة جيدة. مرة أخرى، أشار سيوران إلى أن المرء لا يكن فناناً دون دفع الرسوم. كتب بروست “البحث عن الزمن المفقود” أثناء نوبات طويلة من الأرق، واحتفظ فرانز كافكا بمذكراته التي كان يجلد فيها نفسه أسبوعاً بعد أسبوع بسبب قلة النوم.
يجد المصاب بالأرق الراحة أخيراً بفضل الإرهاق الشديد. حيث تطير الحشرة السوداء من النافذة وتضيع في الليل وتبتلعها بحار القمر. وتحدث المعجزة عندما يختفي الأرق لأشهر، بل لسنوات، على الرغم من أن لديه عادة سيئة تتمثل في العودة كلما شعر بذلك، ومثل زائر لا يريده أحد، يبدو أنه لا يتعجل لمغادرة المنزل.
توجد علاجات، ولكن من الممكن أن المفتاح بالنسبة للعديد من المصابين بالأرق لا يكمن في الأدوية أو الأعشاب، بل في إراحة الروح. هناك في الأعماق حيث لا يصل ضوء النهار وحيث لا يمكن أن ينيرها إلا مصباح الاستبطان. وإذا كان الأرق، كما يعتقد سيوران، هو علامة لا يمكن إنكارها للروح البشرية، فبالإضافة إلى الاهتمام بجسدنا، سيتعين علينا الاهتمام بالحفاظ على حديقتنا الداخلية نظيفة حتى لا تدخلها الحشرة السوداء.
المراجع:
1. Author: Dr. Abhinav Singh, (7/30/2020), Healthy Sleep Tips, www.sleepfoundation.org, Retrieved: 04/19/2024. |
2. Author: the editors of Harvard health publishing, (7/4/2012), 8 secrets to a good night’s sleep, www.health.harvard.edu, Retrieved: 04/19/2024. |
3. Author: Jerome Groopman, (10/16/2017), The Secrets of Sleep, www.newyorker.com, Retrieved: 04/19/2024. |