النضج العاطفي: البحث عن وجوه الحياة الأخرى

You are currently viewing النضج العاطفي: البحث عن وجوه الحياة الأخرى
علامات النضج العاطفي عند الإنسان

النضج العاطفي من أهم الصفات النفسية التي يكتسبها الإنسان من تعلمه وتجارب الحياة التي خاضها في مراحل حياته المختلفة. ويصف هذا المصطلح الأشخاص الذين يمتلكون التعاطف والمرونة والمسؤولية وبعض المهارات الاجتماعية الأخرى. يتطلب العبور إلى هذه المرحلة تضحيات كبيرة، ففي كل خطوة نخطوها تقذفنا الحياة بقذائف الرعد لتهزنا، وتختبر مدى قوتنا حتى نقول وداعاً إلى الأبد لزهور الطفولة والشباب، ونواجه واجبات النضج التي تُفرض علينا. إن اجتياز هذه المهمة سيكون دائماً أمراً صعباً، لذا من الأفضل أن تفعل ذلك مستيقظاً ومجهزاً جيداً.

ما هو النضج العاطفي؟

يشير علم النفس إلى أن النضج العاطفي يتمثل في القدرات النفسية التي يتمتع بها المرء على مدار حياته، وتتعلق بتطوير نمط من التفكير الإبداعي والمهارات التي تعزز معرفة الذات وتحسينها، والقدرة على مواجهة أي تحدي أو عقبة في الحياة. والنضج العاطفي ليس سمة فطرية يولد بها الشخص بل تُكتسب من خلال التعلم، وتجارب الحياة والخبرات التي يحصل عليها المرء في مراحل حياته. بينما يتطلب النضج العاطفي أن يكون لدى المرء مستوى عالٍ من معرفة الذات، أي معرفة شخصيته جيداً ونقاط القوة والضعف لديه، ويدرك احتياجاته وأهدافه. ومن المعروف أن البيئة والنشأة تساهمان بشكل أو بآخر في تشكيل شخصية الفرد.

عندما تنقلب المعادلة

النضج العاطفي
علاقة النضج العاطفي بالعمر

يبدو لنا في مرحلة الشباب كل شيء أمامنا، ننظر إلى المستقبل بنظرة حالمة خيالية، لأن الحياة لا تزال بين أيدينا. نمتلك القوة والشجاعة والوقت لمواجهة القصور، والفشل أبوابه مفتوحة تدعونا للاكتشاف. يبدو لنا المستحيل مجرد مسألة صعبة فقط، وتنتظرنا المغامرة في كل ركن من أركان حياتنا. تمر السنوات أمام أعيننا ونرى الطريق طويل عندما نقطعه، في حين يبدو قصيراً عندما ننظر إلى الوراء. تنقلب المعادلة، الوقت يضيع ويضيعنا، وتنهار توقعاتنا، وتمتلئ خزائننا بالتجارب الفاشلة أو غير المكتملة، وتصبح الأراضي المخصصة لزراعة الأحلام أكثر ندرة، من هنا نشرع في ممارسة التنازلات، والاعتياد على الوداع والانحناء للاستسلام. نرتدي في هذه المرحلة وجوه أخرى: وجه التعب، والواقعية، والهدوء، ووجه المعيار الذي يعرف كيف يفرق بين المهم والثانوي. إنها ما تمثل مرحلة النضج العاطفي أو النفسي.

لقد أصبحنا نفهم أخيراً أنه لم يكن كل شيء يستحق العناء، وأن الكثير مما كان يستحق العناء ليس في أيدينا. وفي تلك المرحلة نفضل السلام والحساء الساخن على الصراعات والمشكلات، ونخوض تجربة البحث عن زراعة حديقة بعيدة عن متاعب العالم العبثية. ربما لا نزال نمتلك الشجاعة والإرادة لمواصلة القتال، لكننا نتخلى عن الصراعات التافهة والمشاريع الميؤوس، وكل تلك الأمور التي تتطلب التضحية بالأولويات أو الاستفادة مما لن نملكه أبداً. كنا فيما مضى بحاجة إلى الحب كوسيلة للتغلب على العالم، ولكننا الآن نفهم أن العالم هو الذي انتصر علينا من خلال أولئك الذين نحبهم ونحتاج إليهم.

النضج العاطفي والحكمة

الحكمة والتطور الشخصي
كيف يكتسب الإنسان الحكمة

 من الجميل أن نستسلم، حتى عندما نفعل ذلك بشيء من الحنين وحتى الحزن، رغم أنه يجب علينا أن نحتفظ ببعض الفرح للإصرار على ما لا يزال يتطلب منا. ومن المريح أن ننسحب من تلك الجبهات التي لم تعد تتوافق معنا، أو التي لم يعد لدينا سوى القليل لنساهم فيها، ونبدأ في تمرير عصا جهودنا إلى الآخرين الذين يصلون بقوة متجددة. ولا يتبقى أمامنا سوى عدد قليل من المهام التي لا مفر منها، وبعض الأحلام البسيطة التي نريد العمل عليها. كل ذلك جزء من مما يمكن أن نطلق عليه الحكمة أو النضج العاطفي كما يخبرنا بذلك علماء النفس.

عندما نصل إلى هذه المرحلة يجب علينا أن نكون حذرين بشكل خاص مع الندم، والأخطاء التي ارتكبناها، والفرص الضائعة التي فلتت من بين أيدينا، والاندفاع الذي يحبطه الجهل أو الإفراط أو التردد أو الخوف. كل هذه الأمور يمكن أن تملأنا بالمرارة وتغرقنا في الاستياء، إذا لم نعرف كيف نواجهها بكرم ورحمة. أن تعيش يعني أن تخسر، وأن تحيا يعني أن تخسر الكثير لتربح القليل؛ وهذا الأخير يجب أن يكون كافياً ليملأنا بالرضا والامتنان. يجب علينا أن نبجل تلك الحقيقة التي فرضت نفسها على خططنا. لا يستحق الأمر أن نفكر كثيراً فيما كان بوسعنا أن نفعله، لأن مجرد اجترار الماضي شيء مرير لا نهاية له. ومن الأفضل أن نحتفل بما لدينا ونستمر في التطلع إلى الأمام، حتى لو لم يبق سوى القليل، فهو كل ما تبقى.

صدمة الطفولة الأولى

الصدمة الأصلية، والجرح الأساسي لطفولتنا، هو اكتشاف أن ما نحن عليه – أو نؤمن به، أو نريد أن نكون – هو دائماً خاضع لما يُفرض علينا. نحمل هذه الصدمة معنا لبقية حياتنا، والبعض منا لا يستطع التعافي منها. لسنا مركز العالم، والعالم لا يدور حولنا، وعندما نستيقظ على هذه الحقيقة ندرك أن الواقعية وضخامة العالم الخارجي – المادي والاجتماعي – هو الذي يقاومنا ويفرض شروطه علينا.

الشباب مليء بالقوة والرغبة، حتى إننا نتخيل امتلاكنا للقدرة المطلقة، ولهذا نرتكب الكثير من الأخطاء حتى عندما ننجح. فتوحاتنا مليئة بالصدفة والهشاشة، وكل تقدم يجعلنا أقرب إلى الحدود حيث تنتظرنا تحديات جديدة. نشبه جميعاً الإسكندر في مرحلة شبابنا، نتقدم بشكل أعمى إلى الأمام حتى تنهار إمبراطوريتنا من اتساعها. ينشأ النضج العاطفي عندما تبدأ مقاومة العالم في إبطائنا، وعندما ندرك أننا لن نتقدم إلى أبعد من ذلك بكثير، وعندما ننظر إلى الوراء لنرى قلة ما سيطرنا عليه.

سمات الشخص الناضج

خصائص الاشخاص الناضجين عاطفياً
أهم صفات الشخص الناضج

يتمتع الأشخاص ذوو النضج العاطفي بسلسلة من الخصائص الخاصة التي تسمح لهم بمواجهة المواقف الصعبة المختلفة. وتمثل هذه السمات دعماً مهماً لأنفسهم وللآخرين. ومن سمات الشخص الناضج عاطفياً ما يلي:

  • معرفة الذات جيداً. لذا سيكون كل قرار أو فعل أو سلوك يتخذه هذا الشخص مخلصاً للمفهوم الذي يمتلكه المرء عن نفسه.
  • الفهم والتعبير بحرية عن كل القيم والمعتقدات التي يعتبرها جزءاً من شخصيته. وبالتالي، يبدأ في تبني المواقف التي ستكون جزءاً من سلوكه بشكل دائم.
  • القدرة على التمييز بين العواطف والعقل. لذلك سيعرف متى يعطي الأولوية لأياً منهما في المواقف المختلفة.
  • القدرة على تحديد أهدافه والعقبات التي ستوجهه في حياته. لذا يخطط وينفذ جميع الإجراءات اللازمة لتحقيقها.
  • المحافظة على الموقف الواقعي والعقلاني. وبالتالي يحاول إيجاد الحلول التي تتكيف بشكل أفضل مع كل موقف.
  • الاستقلالية في الرأي والقرار. يتخذ القرارات بنفسه، ويعرف كيفية الاستماع إلى نصائح الآخرين وفهمها، ووضعها في الاعتبار عند اتخاذ القرار النهائي.
  • معرفة نقاط القوة والضعف في شخصيته. وهذا الأمر يؤثر على إمكانية اتخاذ قرارات حازمة، والمحافظة على وضع موضوعي يسمح بمراقبة جميع الجوانب.
  • معاملة الآخرين باحترام من خلال إقامة تفاعل متساو. وفي العادة تكون العلاقات الشخصية للأشخاص ذوي النضج العاطفي صحية، وليست هناك حاجة لفرض تسلسل هرمي يمكن أن يحد من التواصل.
  • توقع وفهم العواقب المحتملة لأفعاله. فلا تتأثر ردود الفعل العاطفية له بسهولة، فالمحفزات الخارجية لا تكسر إرادته، لأنه سيفعل في النهاية ما يريد القيام به.

علامات النضج العاطفي

النضج العاطفي في علم النفس
النضج العاطفي والعقلي

يميل الأفراد الذين لديهم نضج عاطفي إلى إظهار أنماط معينة في سلوكهم المعتاد، مما يسهل التعرف عليهم. في هذا القسم نستعرض بعض العادات الأكثر شيوعاً التي يتمتع بها الشخص الناضج عاطفياً.

المعرفة بمشاعره ومشاعر الآخرين

كونك مدركاً تماماً لاحتياجاتك واحتياجات الآخرين، فهذه خاصية تشير إلى أنك تولي اهتماماً لكل ما يحدث في البيئة من حولك. بينما هذه مهارة مرتبطة بالمرونة والقدرة على التكيف. حيث يتمتع الشخص الناضج عاطفياً بتوازن عاطفي وفي الوقت ذاته لديه القدرة على الحفاظ على منظور موضوعي. بمعنى آخر يمكن الافتراض أنه لن يكون سريعاً في الحكم.

قبول النجاح والفشل

يسمح تطور النضج العاطفي للناس بالتعلم من كل تجربة معيشية، وهذا يشمل أيضاً الأخطاء. مع الأخذ في الاعتبار أن الحياة لن تسير دائماً كما هو متوقع، فإن الأشخاص الذين طوروا هذه المهارة يعرفون كيفية مواجهة أي صعوبات تأتي في طريقهم. لذا من الضروري التعلم من هذه التجارب واعتبارها مراجع من شأنها أن تساعد في المستقبل.

النضج العاطفي والتواصل الحازم

هؤلاء الأفراد قادرون على إقامة اتصال جيد مع أي شخص يرغبون في التواصل معه. والعلاقات الشخصية أكثر احتمالاً، نظراً للحفاظ على هذه العلاقات في وضعية أكثر نضجاً. بينما في هذه العلاقات المحترمة يمكن للطرفين إيجاد أسس مشتركة تفيدهما.

الاستماع الجيد والفهم

هذه سمة من سمات الأشخاص الذين تمكنوا من تطوير النضج العاطفي بشكل كامل. فهؤلاء الأشخاص يظهرون من خلال اللغة اللفظية والسلوك الاهتمام بما يقوله الناس بل ويفهمونه جيداً مما يؤدي إلى مشاركة الناس عاطفياً وعقلياً، ومنحهم النصائح الضرورية لكل موقف من المواقف.

الاستقلال الشخصي

يتمتع الأشخاص الناضجون عاطفياً بالاستقلال الشخصي. حيث يمكن لهؤلاء الأشخاص فصل أنفسهم عن كل من العائلة والأصدقاء، فمن المهم بالنسبة لهم ضمان استقلالهم الشخصي. فهم يريدون تحقيق أهدافهم وسيتعين عليهم اتخاذ القرارات التي يتحملون مسؤوليتها. وللقيام بذلك، يعرفون متى يجب أو لا يجب عليهم الالتزام بمعايير أو قيم أو معتقدات معينة.

عدم اجترار الماضي

القدرة على العيش في الحاضر تعني أن تعرف كيف تترك في الماضي بما يشتمل عليه من صراعات أو صعوبات مررت بها. فهذا الماضي الذي يشتمل على مشاعر من الكآبة والحزن والشعور بالذنب لا ينبغي أن يؤثر سلباً على الحاضر. لذا فالأشخاص الناضجون عاطفياً يعرفون كيفية الاستمتاع بالتجارب الجديدة التي تجلب البهجة والفرح.

النضج العاطفي وتحمل المسؤولية

يعرف الناضجون عاطفياً أن الشكوى واللوم والنقد وتجنب مسؤوليات معينة؛ كلها عناصر تساهم في الفشل. لهذا السبب، يحاولون تجنب الركود وتعزيز الدافع لمواصلة التحسن. ومن هنا يأتي دور تحمل المسؤولية في مواجهة أي تحد، والتصرف بشكل إيجابي.

التحدي الحقيقي

إن العمل البشري هش وسريع الزوال، لكن علينا أن نتعمق في المستقبل، فهذا هو التحدي الحقيقي. تعلمنا الحياة أنها ستكون رائعة بالنسبة لنا دائماً، وأن اليقين يؤذي أولئك الذين حلموا بأن يكونوا أقوياء. لن نصل إلى مرحلة النضج العاطفي إلا حينما نعترف أن كل الانتصارات ستأتي بعد العديد من الهزائم، وأن العيش يعني الخسارة، وعندما ندرك ذلك بصدق وإخلاص لن نغرق في اليأس، وسنستمر في مواصلة مهمتنا في الحياة.

كل شيء جيد نقوم به هو أمر صعب، بدءً من موقف المرء البسيط في حياته اليومية. تتطلب الفضيلة العمل، ويتحقق النضج من خلال المعاناة. وأهم ما يميز البشر هو قدرته على اختراع المشاريع وتوجيه الطاقات نحوها، والحفاظ عليها مع مرور الوقت، على الرغم من الصعوبات والمتع المباشرة التي تشتت انتباهنا في كل زاوية. نحن بحاجة إلى ممارسة الإرادة، وتحمل الإحباط، والاستفادة منه في تهدئة أنفسنا، واتخاذ دروسه كعنصر من عناصر التعلم. ويتعين علينا أن نعتاد على النظر إلى ما هو أبعد من الحاضر، وأن نتصور مستقبلاً أفضل، وأن نحدد المراحل اللازمة للتعامل معه، وأن نتحمل حقيقة أننا لن نحققه بالكامل في كثير من الأحيان. نحن بحاجة إلى وضع القوة والشجاعة، وإيجاد مقاومة تدوم مع مرور الوقت.

المراجع

1.    Author: Laura L. Carstensen, Bulent Turan, Susanne Scheibe, Nilam Ram, Hal Ersner-Hershfield, Gregory R. Samanez-Larkin, Kathryn P. Brooks, and John R. Nesselroade, (04/23/2012), Emotional Experience Improves With Age: Evidence Based on Over 10 Years of Experience Sampling, www.ncbi.nlm.nih.gov, Retrieved: 05/01/2024.

2.    Author: Robert J. Sternberg, (12/01/2005), Older but not wiser? The relationship between age and wisdom, www.link.springer.com, Retrieved: 05/01/2024.

3.    Author: Magdalena Zadworna & Agnieszka Stetkiewicz-Lewandowicz, (10/04/2023), The relationships between wisdom, positive orientation and health-related behavior in older adults, www.nature.com, Retrieved: 05/01/2024.

4.    Author: Judith Glück, (02/01/2024), Wisdom and aging, www.sciencedirect.com, Retrieved: 05/01/2024.

 

اترك تعليقاً