الفلسفة الرواقية: حكمة العيش ببساطة

الفلسفة الرواقية هي مدرسة فلسفية تأسست في اليونان القديمة خلال العصور الهلنستية على يد الفيلسوف زينون. الرواقية ليست مجرد نظرية فلسفية، بل ممارسة يومية للحكمة، وبوصلة أخلاقية للحياة. هي دعوة لأن نحيا ببساطة، ونفكر بعمق، ونتقبل العالم كما هو، دون أن نفقد قدرتنا على العمل فيه. تعلمنا الرواقية كيف نتفق مع الطبيعة كي نحيا حياة فاضلة.. في هذا المقال نخوض سويًا رحلة عظيمة للتعرف على أهم مبادئ الفلسفة الرواقية.
ما قبل الفلسفة الرواقية
لنتعرف على بداية نشأت الفلسفة الرواقية علينا أن نعود إلى الوراء في الزمن لنتعرف على مدرسة فلسفية ظهرت قبلها هي الفلسفة الكلبية. حيث يحكى أن سقراط ذهب إلى السوق ذات مرة وأخذ يتطلع إلى الأشياء العديدة المعروضة هناك، فقال متعجبًا: ” ما أكثر الأشياء التي لست بحاجة إليها”. هذه المقولة الشهيرة لسقراط اتخذتها المدرسة الكلبية شعارًا لها. حيث أنشأ هذه المدرسة انتستانس في أثينا في عام 400 قبل الميلاد. وكان انتستانس تلميذًا من تلاميذ سقراط. وقد أحب هذا الجانب في شخصيته وهو جانب الزهد. ومن هنا نشأت هذه المدرسة وكانت مبادئها الأساسية تقوم على أن السعادة الحقيقة لا يمكن الحصول عليها بالمال أو السلطة أو الصحة، بل السعادة الحقيقية تكمن في التحرر من أسر هذه المظاهر المزخرفة التي تتقلب باستمرار.
أما أشهر الكلبيين على الإطلاق فهو ديوجانس الكلبي الذي غالى في زهده وتطرفه حتى صار مضرب الأمثال. حيث يقال إنه كان يعيش حياته كالكلب حرفيًا فهو يعيش بداخل برميل ولا يملك سوى كيسًا يجمع فيه بعض كسرات الخبز ليسد بها رمقه. ومن أشهر الحكايات التي دارات حوله أنه كان يجلس بجانب برميله يستمتع بدفء الشمس فإذا بالإسكندر الأكبر وحاشيته يمرون من أمامه. توقف الاسكندر ليسأله عن أي شيء يحتاجه إلا أنه قال له أنه ليس بحاجة سوى أن يتنحى جانبًا لأنه يحجب عنه ضوء الشمس.
كان معتنقي أفكار هذه المدرسة الفلسفية يعتقدون أن ليس على الإنسان القلق على صحته وألا يضطرب للمرض ولا يجزع للموت، هذا بالإضافة إلى أن عليه ألا ينشغل بهموم ومشاكل الآخرين. لذا اكتسبت هذه الفلسفة سمعة سيئة وخصوصًا في عصرنا الحالي نظرًا لأنها أصبحت مرادفًا للامبالاة والاستهزاء بجميع القيم.
نشأة الفلسفة الرواقية
انشق بعض أعضاء المدرسة الكلبية عنها وأقاموا مدرسة فلسفية أخرى هي الرواقية. وقد ظهرت هذه المدرسة في عام 30 قبل الميلاد على يد فيلسوف يدعى زينون. لكن زينون هذا لم يكن من أهل اليونان بل كان مجرد تاجر أتى من قبرص إلى أثينا وعند اقترابه من أثينا تحطمت سفينته مما اضطره إلى المكوث فيها. وهناك تعلم على يد بعض الكلبيين ثم سرعان ما استقل عنهم لينشأ مذهبه الخاص. أما سبب تسمية هذه المدرسة بهذا الاسم فيعود إلى أن زينون كان معتادًا على الاجتماع بتلاميذه في رواق كان فيما سبق مركزًا لاجتماع الشعراء.
تستند الفلسفة الرواقية على فكرة أن جميع البشر يشكلون جزءً لا يتجزأ من العقل الكلي أو اللوغوس – كما كان يعتقد هيراقليطس – وأن كل إنسان هو عالم مصغر وما هو سوى انعكاس للعالم الأكبر. قادتهم هذه الفكرة إلى الاعتقاد بأن هناك معقولية تامة في جميع الموجودات في الطبيعة وهي ما أطلقوا عليه القانون الطبيعي. وهذا القانون الطبيعي الذي يعتمد على العقل الخالد الكامن في الإنسان والكون لا يتغير بتغير المكان أو الزمان. ويسري هذا القانون الطبيعي على جميع البشر. بينما قوانين الدول وتشريعاتها المختلفة ما هي سوى تقليد يفتقر إلى كمال القانون الكامن في الطبيعة ذاتها.
وقد أنكرت الفلسفة الرواقية وجود أي تعارض بين العقل والمادة. حيث تعتقد أن هناك طبيعة واحدة فقط. يطلق على هذا التصور اسم “الواحدية“. وقد تميزت هذه الفلسفة بفكرة عالمية واضحة وكان المؤمنون بها أكثر انفتاحًا على العالم. حيث دعت الرواقية إلى الأخوة الإنسانية كما اهتموا بالسياسة، وخرج من صفوف هذه المدرسة العديد من المفكرين والسياسيين والفلاسفة وغيرهم مثل الإمبراطور الروماني ماركوس اوريليوس وشيشرون وسينيكا وغيرهم من الشخصيات التاريخية التي كانت تؤمن شديد الإيمان بالنزعة الإنسانية.
مبادىء الفلسفة الرواقية
إن المبادئ الأساسية التي تستند عليها الرواقية هي أن الفضيلة هي الخير الوحيد، وأن الفضيلة تعني العيش وفقًا للعقل والصالح العام، وأننا لا نستطيع سوى التحكم في الأفعال التي تقع تحت إرادتنا. أما الفضائل الإنسانية الأساسية فهي الحكمة والعدل والثبات والاعتدال.
الرواقية هي واحدة من العديد من الفلسفات اليونانية القديمة التي تتمحور حول السعي وراء الحياة الجيدة، أو الازدهار. وفقًا للرواقية، فإن أفضل طريقة للازدهار هي العيش وفقًا للطبيعة. بينما هناك تفسيران محتملان لما تعنيه الطبيعة:
- عِش وفقًا لطبيعتك المثالية كحيوان عقلاني واجتماعي.. لكي تزدهر، عِش وفقًا للعقل والصالح العام.
- عِش وفقًا للطبيعة الإلهية. فبما أن العقل إلهي، فإن جميع الحيوانات العقلانية تحتوي على عنصر من الألوهية ويجب العمل على صلاحها، وهذا يؤدي مرة أخرى إلى: من أجل الازدهار، عِش وفقًا للعقل والصالح العام.
في كلتا الحالتين، لدينا هذه الفرضية: لكي تزدهر، عِش وفقًا للعقل والصالح العام. هذا هو الانقسام الرئيسي بين الرواقية والفلسفات المماثلة والعديد من الفلسفات الحديثة – فهم لا يسألون في المقام الأول “ما هو السلوك الصحيح؟” باختصار، يسألون “ما هو الأفضل للفرد؟”. ومن خلال القيام بذلك، لم يتوصل معظمهم إلى أنظمة أخلاقية قوية فحسب، بل قاموا بتضمين إجابة حول سبب وجوب اتباعك شخصيًا لها. ليس “لأنه صحيح” بشكل غامض، ولكن لأنك ستستفيد – ستزدهر – من خلال التصرف بشكل أخلاقي.
الفضائل في الفلسفة الرواقية
فكيف بالضبط نتصرف؟ “العقل والصالح العام” هو عبارة مجردة بعض الشيء. من هناك نستمد الفضائل الأساسية:
- الحكمة: وهي، صفة العيش وفقًا للعقل، وامتلاك مهارة عامة في الحياة (التفكير بعناية في الإجراءات، على سبيل المثال؛ التعامل مع الموقف بحكمة قدر الإمكان).. تأتي الحكمة من الفطرة السليمة، ويشار إليها بالحكمة العملية أو الحكمة.
- العدل: هو تطبيق الحكمة على التفاعل الاجتماعي على وجه الخصوص. ويعني التفاعل مع الآخرين من أجل الصالح العام على أفضل وجه، والقيام بذلك بعقلانية.
- الثبات: هو تطبيق الحكمة على الشدائد. ويعني التحمل والشجاعة لمواصلة ما هو صواب (العدالة) بغض النظر عن الألم أو غيره من العوائق.
- الاعتدال: هو تطبيق الحكمة على النفس، والاختيارات الخاصة بالنفس. ويعني الاعتدال والانضباط ومقاومة الإغراء – باختصار، ضبط النفس.
كيف تحيا حياة جيدة
إن أهم ما ساهم في انتشار هذه المدرسة الفلسفية واستمرارها حتى عصرنا الحالي هو ارتباطها الوثيق بالحياة. فهي تدعو إلى المثابرة والحكمة والبحث عن السعادة. كما توضح مبادئها القيمة كيف يحيا الإنسان حياة رائعة. وتؤكد على أن الفضيلة (بمعنى ضبط النفس والشجاعة والعدالة والحكمة) هي السعادة بعينها. أما إدراكنا للأشياء هو ما يسبب لنا السعادة أو التعاسة. وبالتالي فإن نظرتنا للأمور هي التي تسبب معظم مشاكلنا.
ومن هنا نرى أن المبدأ الأساسي هو أننا لا يمكننا التحكم في أي شيء خارج عن اختيارنا المنطقي، لذا فالفلسفة الرواقية تحاول الإجابة على الأسئلة التالية:
- كيف نرى وكيف ندرك العالم من حولنا؟
- كيفية اتخاذ القرارات والإجراءات المناسبة؟
- كيف نتعامل مع الأشياء التي لا نستطيع التوصل فيها إلى حكم واضح ومقنع؟
- كيفية مواجهة مشكلات الحياة وتحدياتها المختلفة؟
انضباط الإدراك
إن أهم ممارسة فردية في الفلسفة الرواقية هي القدرة على التمييز بين ما يمكن للفرد تغييره وما لا يستطيع تغييره. فإذا تمكنت من التركيز على توضيح الأجزاء التي تقع تحت سيطرتك في يومك، والأجزاء التي ليست تحت سيطرتك، فستكون أكثر سعادة، وبالتالي تتمتع بميزة واضحة على أي شخص آخر يفشل في إدراك أنه يقاتل بالفعل في معركة لا يمكنه الفوز بها. لذا وضعت الفلسفة الرواقية هي المبادئ لمساعدة الفرد على الإدراك وهي:
تحكم في تصوراتك
- وجه أفعالك بشكل صحيح.
- تقبل عن طيب خاطر ما هو خارج عن إرادتك.
- وضح من أنت وماذا تمثل.
أما نتائج هذه الأمور إذا تم تنفيذها بشكل صحيح فسيحصل الإنسان على الصفاء والاستقرار ومن ثم الاختيار الصحيح والحكم الرائع. لذا فمن المهم أن تتجنب في حياتك جميع الاضطرابات والأحداث الخارجية التي تؤدي إلى التوتر. فإذا تجنبت هذه المشكلات فستكون مستقرًا وثابتًا. أما إذا لم تستطع فإن هذه الأحكام التخريبية والمشكلات سوف تتعبك إينما كنت.
العواطف البشرية
تجنب أن تكون دمية لعواطفك. فأنت المسيطر والمتحكم في حياتك، وعندما تشعر بالقلق في المرة القادمة، عليك أن تسأل نفسك ما إذا كان قلقك مفيدًا لك. ستأتي المشكلات دائمًا، وستكون مهمتك هي التحكم فيها. لذا يجب أن تفكر جيدًا قبل أن تتصرف. فإذا كنت غير قادر على التحكم في دوافعك، فقد تكون مصدر الكوارث التي تخشاها. فمعظم الأشياء التي تزعجنا أو تجعلنا قلقين هي فقط في خيالنا. إنها تشبه الأحلام السيئة ويجب التعامل معها وفقًا لذلك. فهذا الشيء الصغير الذي يستمر في استفزازك ليس حقيقيًا.
ومن الخطير جدًا التفكير في أن السعادة ستأتي في وقت لاحق. فالتوق المستمر إلى المزيد يومًا بعد يوم هو العدو الرئيسي لرضاك. وتوقع مستقبلك بشغف يدمر فرصك في السعادة الآن.
الفلسفة الرواقية والوعي
تبدأ الرحلة إلى الفلسفة الرواقية عندما نكون أو ندرك قدرتنا على تحليل عقولنا. تحتاج إلى العمل على تحسين قدرتك على الحكم على نفسك بدقة وصدق. أنت بحاجة إلى النظر إلى الداخل لكي تفهم تمامًا ما أنت قادر عليه بالضبط وما الذي يتطلبه الأمر لإطلاق العنان لإمكاناتك الهائلة.
إن موهبة الوعي بالذات هي قدرتك على تقييم نفسك بموضوعية، من خلال تعلم التشكيك في غرائزك وأنماطك وافتراضاتك. لذا يجب أن تكون حذرًا جدًا ولا تتسرع في أي نوع من الاستنتاجات حول أي شيء. ستحتاج إلى أن تكون على دراية كاملة بكل ما يحدث، من أجل اتخاذ القرار الصحيح.
عقلك هو أقوى ما تملكه. لذا ينبغي أن تحافظ على سيطرة صارمة على عقلك في جميع الأوقات. ومن المهم أن تتذكر أنك محظوظ للغاية لامتلاكك القدرة على استخدام المنطق والعقل، للتنقل في المواقف والظروف. لديك القدرة دائمًا على التحكم في عقلك ومشاعرك، ولديك القدرة على أن تقرر دائمًا أن تحب، وكذلك تقبل ما يحدث من حولك.
أفكار غير متحيزة
ينبغي عليك أن تكون حذرًا دائمًا بشأن المعلومات التي تدخلها في ذهنك. ففي الحياة لابد أن تتعرض إلى تأثيرات سيئة، لكن عندما يحدث ذلك يجب ألا تسمح لهذه الأفكار أن تتغلغل في عقلك. فلديك القدرة على تحديد المعلومات التي تسمح بها أن تدخل إلى ذهنك. لذا عليك أن:
- تفكر بسرعة وفقًا لمعتقداتك الخاصة.
- تثق في غرائزك دائمًا لكن عليك أن تتحقق منها أولاً.
- تختبر انطباعاتك لتجنب اتخاذ خطوة خاطئة بناءً على معلومات خاطئة أو متحيزة.
سوف تغير آرائك من وقت لآخر لأننا لسنا حكماء كما نعتقد في بعض الأحيان. لذا قاتل دائمًا ضد تحيزاتك ومفاهيمك وأحكامك المسبقة. وهناك طريقة رائعة لتعلم التواضع هي أن تكون على استعداد للتعلم من أي شخص وكل شخص، بغض النظر عن وضعه في الحياة.
العمل الصحيح
لن يتمكن مطلق النار من إصابة الهدف دون التصويب…
يجب أن تقضي بعض الوقت في التفكير في ماهية أولوياتك، وبعد ذلك فقط تعمل على تحقيقها وتتخلى عن كل شيء آخر. فليس من الجيد أن تتمنى وتأمل، عليك أن تتصرف وتتصرف بشكل صحيح. فالوقت سلعة لا يمكن تعويضها، والسؤال هو، ماذا ستفعل اليوم، قبل أن يصبح من الماضي؟
يجب أن تستمتع بالإجراءات الصحيحة التي تتخذها، بدلاً من النتائج التي قد تأتي من هذه الإجراءات. حيث يجب ألا يكون طموحك بالتأكيد هو الفوز، ولكن الأهم من ذلك أن تلعب بكامل جهودك وأفضلها. فمن خلال القيام بذلك ومنحه كل ما لديك، سنجد دائمًا الرضا والمرونة. ابدأ الآن، ولا تتأخر. فإذا ركزت على فعل الشيء الصحيح في الوقت المناسب، فستنجح. ولا تقضي أي وقت في التفكير فيما يعتقده الآخرون، فهذا لا يعني لك شيئًا. فكر فيما تعتقده، وفكر في النتائج، والأثر، وما إذا كان هو الشيء الصحيح الذي يجب القيام به الآن.
الفلسفة الرواقية وحل المشاكل
من أساسيات الحياة أن هناك دائمًا عقبات. وطريقة التغلب على هذه العقبات هو من خلال وجود خطة احتياطية أو بديلة. الحياة ليست سهلة أو عادلة على الإطلاق، لذلك لا داعي لمحاولة اللعب ببطاقة التعاطف. كن قويًا وواجه مشكلاتك وتوقف عن البحث عن كبش الفداء. ولا عيب مطلقًا في طلب المساعدة، لذا تعلم أن تطلب المساعدة، وتعلم أن تسأل.
التأمل في الموت
لدى الناس خوف غير عقلاني من الفناء. لذا يتجنب الجميع التفكير في الموت، لأننا نعتقد أنها ستكون فكرة محبطة. وفي الحقيقة يجب أن يكون العكس. فإذا قيل لك إن لديك أسبوعًا واحدًا للعيش، فأنا متأكد من أنك ستجري بعض التغييرات. لذا كن راضيًا عن حياتك، فكلنا سنواجه هذا الأمر. وكل قصصنا لها نفس النهاية. لذا، حتى لو كان اليوم هو آخر يوم لك، فهل لا يزال هناك الكثير مما يدعو للامتنان؟
ليست الرواقية فلسفة انسحاب ولا لامبالاة، بل هي دعوة إلى التحرر من الانفعال والانقياد، ومن وهم السيطرة الكاملة على العالم. هي تدريب يومي على الثبات، وعلى التفريق بين ما يعنينا حقًا وما لا يستحق أن يسرق منا سلامنا. تهمس الرواقية في أذن الباحث عن الطمأنينة: “كن سيد نفسك، ولا تجعل الأحداث تحكم قلبك.” ولعل في هذا الهمس البسيط، ما يكفي لتغيير حياةٍ بأكملها.
المراجع:
- الفلسفة الرواقية – د. عثمان أمين.
- الدهشة الفلسفية – جان هرش – ترجمة: محمد آيت حنا.